2010/07/18

صَلاةُ القَلبْ -خاص كيكا

سيدي ابن الإنسان، لأننا لم نلتق منذ أكثر من ألفي عام، منذ ان افترقنا في ظلمات اورشليم، اقصد منذ ان كنا أطفالاً نلعب في ازقة السماء بالنجوم وشجيرات الكون الزاهيات، كانت لنا نفس الذاكرة ونفس الروح ونفس المسافات الطاعنات في العِشق، كانت لنا ذات المريمات تنمو في أظافرهن لجَب الجُند الذين سوف يأخذونك إلى هنالك و يسوقونني إلى هنا، يشيدون بيني وبينك أحجارا من ألفى سنة ونيف، لكن لا أحد يمحوا ذاكرتي من رسم قلبك البهي، الذي ظل ينبض بين أضلعي، يدغدق أحشائي بكلام الله الطيب، يقول لي في السر: الحقيقةُ،سوف تطلقك حُراً.
أريد أن أقول لك الآن، بعد كل هذا الدهر من الأيام الطويلات، بعد أن استفحل شجن الروح وصار مميتا مثل أسف صديقنا يوحنا الأسخريوطي المسكين، أقول لك : إن الحقيقة لم تستطع أن تطلقني حُراً، لقد كبلتني بقيد من نار، كلما برد صار أكثر قسوة، كلما غنيت له، صارت عيناه غولات كاسرات وعضتني في وجهي، لم تحررني الحقيقة يا سيدي، انما ادخلتني بيت الرعب، واصبح هنالك مليون صليب يطلبني، مليون مسمار تتشهي دمي، ودمي بالكاد يفي حاجة القلب للحب، بالكاد يحمل مراكب المريمات الى قيامتي، تماما كما خبرناه أنت و انا قبل ألفي عام و نيف، الحقيقةُ الآن أحبسها في كمبيوتري الشخصي، مثلها مثل حبيباتي، زجاجات القهوة، أشعار بدر شاكر السياب وسمعة صديقتي السيئة - لقد صار لي صديقات في الآونة الأخيرة، بعضهن لهن سيرةُ عطرة- لم تتعبني الحقيقة كما يبدو للحراس، لم تتعبني يا سيدي أبدًا، لكنني كنت لها بالمرصاد، تقاتلنا في شوراع القاهرة،عند الخور الكبير في قريتنا بخشم القربة، على دير المحرق باسيوط: أنت تذكر ذلك المكان جيدا، أينما خبرتها نازلتها، كرجل لرجل أو كرجل لحقيقة، ولو انني غالبا ما أكون رجلا، كم مرة كنت سيدة، مرة غانية من بعلبك، مرات كثيرات شاعرة يوغندية تنظم شعرها من جذور البابايات و البفرا وتزقزق كطائر الليل، كم مرة صرت مثل مريم أمي، سيدة لأبناء كثيرين و بقرة، في كل مرة أكبد الحقيقة خسائر تليق بقبح قلبها الشرير، بقبح قلبي الطيب كقلبك الذي ينبض الآن في صدري بدم من رمل وطين، قلبي قلبك حيث تخاطفته الأطيار بعدما ركت علي تويجاته الفراشات كنبيات من اللون و الرفرفة، سيدي، صديق طفولتي، ابن حارتنا الفقيرة: ذات ماء المطر .
أحبك منذ قبل ان نفترق الي مساء الليلة، ولم انكرك سوى مرتين، مرة عندما صرخت طفلةٌ في أزقة قلبي، اغتصبها جنجويد من الجن، أمام ناظري و أشار إليَّ ببندقيةٍ وحربةْ: أتعرفها؟
ونكرتك مرة أخرى وكنت أسير حول المكان، بينما مريم و مريم ومريم، يحاورن الحراس، رمقني الحارس اتخفى خلف أجمة من العُشب البري و استنط لمقالته ثم شاهدته يرتشي ثلاث مرات، فهتف بي صارخا، ما رأيت، قلت له : لا شيء.
ولم انكرك كثيرا في حروبات شاسعات بدرافور ولو انني رأيتك تحصى جراحات الموتى، تضع على وجعي عصابة من النار، رأيتك في الشارع مرتين و تحت شجرة النيم في بيتنا تلاعب الخراف، رأيتك تضحك، تبكي وتقود جحافلاً من الأطفال و المشردين لبيتك في سويداء قلبي، لم أنكرك وَلو أنّكَ ألمتني بالحقيقةِ، التي أطلقتني حُراً مِنكَ أنت بالذاتْ.

2010/07/17

زوج من أجل أجاك الطويلة

بعد ست سنوات من الحياة في مدينة الخرطوم والدراسة المتواصلة، عمدت اجاك للعودة الى مسقط رأسها في ابيرو، وهي قرية صغيرة تابعة لمحلية شويبت برمبيك ولاية البحيرات بجنوب السودان، و على الرغم من الإنقطاع الطويل عن ابيرو، إلا ان أجاك مازالت تذكر كل شيء عن القرية، ولم تنس اللغة أو العادات و التقاليد، ومازالت تذكر جداتها و جدودها و امهاتها جميعا و كل من كان في القرية حين مغادرتها لها، وكانت اجاك من الجيل الجديد في القرية حيث انها لم توشم في جبهتها بعلامات القبيلة، و احتفظ لها والداها بأسنانها الأمامية البيضاء المشعة، كلما لم تأت به معها مرة اخرى هو السكسك الذي يحيط بخاصرتها تلك الخرزات البيضاء و السوداء، حيث انها اصبحت بدينة بعض الشيء ولم تتحمل ضغط الخيط على خاصرتها، لذا تركته في البيت بالخرطوم، لكن غير ذلك كانت اجاك كما هي، طويلة ممشوقة القوام مثل شجرة تك، سوداء البشرة ليست كقلب الآبنوس، بل مثل الليل ذاته، صدراء ناهد، لها اذرع طويلة و رقيقة، وعينان بهما نظرات حادة وثاقبة كعيني النمرة، و يجب ان يلاحظ شيء آخر ايضا، ان أجاك لم تتزوج الى تلك اللحظة، وهي الوحيدة التي بقيت من بنات جيلها بغير زوج الى الآن، لربما شغلتها سنوات الدراسة االطويلة عن اسئلة الجسد، كانت اجاك فارعة القوام، سوداء كالليل لها ذراعان طويلان رقيقان، وعينان تشعان رغبة كعيني نمرة، وهذا مهم جدا، لأن اجاك سوف تُقيم بعد قليل بعدد من الأبقار وفقا لقوامها و جموح جسدها اللذان سوف يقرران من هو الزوج وكم هي الأبقار التي ستسحق كمهر لها، وكيف ان أباها دووت يحبها أكثر من كل أخواتها، وأنها ما يفخر به وذلك واضحا من الأغنية الخاصة التي يغنيها لها وحدها:
اجاك يا بقرتي
اجاك يا بقرتي المقدسة
يا بنت عُشب النيل
اجاك يا بقرتي اجاك يا بقرة عشب النيل جدها العظيم.
لم تنس اجاك، ان تستبدل ملابسها وهي تغادر شيوبت الى ابيرو، تخلصت من كل شيء، لفت جسدها الجميل الطويل بقطعة قماش زاهية الألوان وهي اللاوي او الزى الرسمي لقبيلتها، عبارة عن ملاءة ينتهي طرفها الأعلى على كتفها الأيمن وتدور حول نصف الجسد بغنج غابوي مدهش، تظهر نصفه و تخفي نصفه، ليعلن النصف المخبوء عن النصف غير المحجوب، وهذا سره و سحره، اختارت جلبابا بسيطا من الحرير الملون لم تكن له أكمام و عاري تماما من الصدر، وهو أكثر ما يليق بجسدها من ملبس، فاجاك كغيرها من البنيات تعرف ما يليق بجمالها وما هو حري بإثارة دهشة الرجال ودهشة أنوثتها هي أولا، كانت في رفقتها أمها التي انتظرتها في شويبت منذ بداية الأسبوع لتصطحبها في رحلة بالأرجل الى القرية تستغرق الساعة في غالب الأحيان عبر غابة سافنا غنية مستوحشة، انضم لركب المستقبلين رجال ونساء أقرباء والديها و عشيرتها، اجاك سوف تصبح أول طبيبة من ابيرو، وستظل الوحيدة التي تتمتع بهذا اللقب الى عشر أعوام اخرى، كان هم أمها الوحيد ان تتزوج اجاك قبل كل شيء، ان تنجب أطفالا يحفظون نسل الأسرة، وظلت طوال الأسابيع الماضية منذ ان سمعت بان ابنتها في الطريق الى ابيرو، تتحف الشيخ بالهدايا لكي يقضي وقتا أطول في طلب الزوج لأبنتها من الجد الأكبر للأسرة الذي هو عُشب النيل، وكانت تعرف ان ابنتها سوف لا تتزوج بسهولة، لأنها طويلة و شديدة السواد وممشوقة القوام، يعني هذا ان مهرها قد يتجاوز الألف بقرة، وهذا غالبا ما لا يتوفر لشخص عادي، في الحقيقة كان هذا هم العشيرة الأقربين جميعا، من أين لزوج بألف بقرة في وقت تهب فيه بقايا الحرب التي دارت عشرين عاما في المكان قضت على مراحات كثيرة من الأبقار و أضعافها من الإنسان، حتى لو شاء ان يبقي دينا كثيرا عليه، حتى لو ساعده الأقرباء، ولم يتحدث شخص واحد عن خيارات أجاك، التي همست لأمها، بأنها سوف تتزوج رجلا من الخرطوم، ليس من الدينكا، بل هي الى الآن لا تعرف قبيلته، وانه يعمل في الصحافة، طبعا سألتها أمها عما هي الصحافة، فلم تستطع اجاك ان تجد لغة مناسبة لشرح الكلمة، لم تمانع الأم ولكنها فقط أكدت على عدد البقرات، لأن أبيها سوف يموت من الغبن إذا نقصت بقرة واحدة من الألف المتفق عليها كحد ادني لمهر لبنت في طولها ولها ذراعان بهذا الجمال.
في الغد جاء كثير من الشبان من بعض القرى المجاورة و أقاموا حفلا احتفاء بعودة اجاك، رقصوا معها، وقفزوا في السماء محاولين تجاوز ذراعيها المرفوعين للأعلى، و غنوا لها و شبهها كل منهم بأجمل بقراته، و أعطاها اسمها، فكانت: كتنج، و لول، و نيانج، أكوي، يار، أكور، أين، وجنطوك، و ابتهجت صاحباتها و غنين معها، وتقدم لها منقار للزواج، لمنقار زوجتان اخريتان، وقال إنه سيدفع ثلاثمائة بقرة عدا وحالاً، قالت أمها إنَّ ذلك لا يسوى عدد الخرزات التي تزين عنق بنتها، تقدم إليها ملوال أجوك، وهو شاب وسيم من دينكا بور، له زوجة واحدة فقط وورث أبقارا كثيرة وأطفالا و امرأتين عن أبيه المتوفى، قال إنه سيدفع من أجل أجاك، خمسمائة بقرة، ومن ضمنها ثوره الخاص، وهو مال لا يستهان به وتكريم مدهش، إلا أن أم أجاك قالت، إن ذلك المال لا يسوى قيمة الرحط الذي سوف يحيط خصر ابنتها الجميلة، و إنها أحبطت في فتيان الدينكا وفشلهم في تكريم ابنتها بما يليق بطولها، و اعتبرت هذا من علامات ان الدنيا تصير للفناء و ان الكون قد ينتهي قريبا طالما كان هذا هو حال القيم و الأخلاق، رفضت من تقدموا لها فيما بعد حتى قبل ان تعرف عروضهم المغرية التي جاؤوا بها، واستفسرت مرة اخرى عن الزوج الذي حدثتها أجاك عنه فيما قبل، كم يمتلك من الأبقار، وكم تمتلك أسرته، ومن هو جد أسرته؟ قالت لها أجاك إنها لا تعرف شيئا عن أسرته ولكنها متأكدة أنه لا يمتلك ولا عجلا واحداً: إنه صحفي يا أمي.
حسنا دعينا نذهب مرة أخرى للشيخ، ليدعوا لنا جدك عُشب البحر، ويسأله عن مقدار القرابين التي تقدم إليه من أجل أن يستجيب لحاجتك لزوج يجيد تقييمك و يعرف قدرك ولديه مال يمكنه من فعل ذلك، قالت أجاك إنها لن تفعل، فذهبت أمها وحدها، و ذبحت دجاجات بيضاء و دجاجات سوداء كما طُلب منها، و أقامت في خدمة الشيخ ساعة من الزمان، ووعدها بالخير.
ابيرو قرية صغيرة جدا، عدد المنازل بها لا يتعدى مئة بيتا، وبها اسر معروفة لم تنقص ولم تزد من أكثر من عشر سنوات، أي منذ ان انتهت الحرب الطويلة، كلها مبنية من أفرع الأشجار و البامبو و العشب الموسمي، تقيم الأسر في تجمعات سكنية يخصص جانب منها للأبقار و الجانب الآخر لسكنى الإنسان، وفي مثل هذا الوقت، الصيف تكون الحياة أكثر سهولة و الحركة ليس لها من معيق، لذا لم يستغرب الناس في القرية وفادة أشخاص من قرى بعيدة قد لا يعرفونهم ولم يشاهدونهم من قبل، و الرجل الذي عَرّفَ نفسه بِطون، ذو الصوت الجهوري، كان واحدا ممن أتوا من بعيد لخطوبة أجاك، ونسبة للطريقة الشاذة التي قَدَّم بها نفسه، قالت أجاك عنه في نفسها: إنه موهوم.
من الرسومات و الوشمات التي في بطنه وعلى جبهته وكتفه، عرف الجميع أنه يكمل الآن عامه الأربعين، وأوضح العُقد الذي يلتف حول عنقه، وعلى ساعديه، أنه قتل نمراً أو نمورا كثيرة. لم يندهش الناس كثيرا لعُريه، فلقد كان عارياً تماماً، يطلي جسده بالرماد، حتى لا يكاد الناس ان يروا من لونه الطبيعي شيئاً، شعره مصفوف جيدا ومسقي ببول الثيران، عن طريق الطبل التي جاء يحملها على كتفه مع حرابة، أيقظ القرية كلها ذات صباح باكر، وغني بصوت قوي كأنه زئير الأسد، ولما هب الناس إليه، رقص قافزا في السماء عشر قفزات، كان طويلاً ونحيفا، وتلعب أشياؤه بين ساقيه في الهواء كأنها رانب مجنونة، وتبدو مضحكة ولكن نسبة للجدية التي ظهر بها، لم يستطع أحد أن يضحك، ثم غرز رمحه في باطن الأرض الصلبة، نظر بعيدا نحو الغابة، وقال: أنا أسمي طُون قوقريال طُون، و انظروا إلى تلك السحابة، ما هي إلا أغبرة حوافر الأبقار التي أتيت بها مهرًا لأجاك، سوف لا تجدون مكاناً تحفظونها فيه بالقرية، ستصلكم بعد قليل.
قالت أجاك إنها لن تتزوجه ولو أنه جاء بأبقار العالم كلها، أكدت لها الأم إنها سوف تتزوجه رضيت أم لم ترض،لأن امها إذا كانت قد رفضت الزواج من والدها ما كانت هي على قيد الحياة الآن، وإن مهرها ملكا لأسرتها وليس ملكا لها هي،وان والدها يحتاج لخمسين بقرة منه لسداد متأخر صداق امها، و أن اخوانها الخمس يحتاجونه ايضا لكي يتزوجوا به، و ان كثيراً من الأقارب ينتظرون نصيبهم من هذا المهر، وأنها لا ترى شيئا يعيب طُون قوقريال طُون سوى انه فخور بنفسه أكثر مما يجب، وكان عليه ان يستر عورته بجلد النمر الذي قتله، و ألا يثير كل تلك الضجة بصوته المرعب و الطبل القبيح الذي يعلقه على كتفه، غير ذلك لا يعيبه شيء.
عندما انشغل الناس بعد الأبقار، صُنع الزرائب، واقتراح القسمة، هربت أجاك لتحتمي بالغابة، كانت تجري بأسرع ما تستطيع، وعندما توغلت في الدغل، شاهدته يجري خلفها، كان سريعا كما الريح، أمسك بها، حملها على كتفه ومضى بها في خُطى سريعة ناحية النهر، وهو يغني بصوت أجش ماكرٍ.
عبد العزيز بركة ساكن
18-6-2010

2010/07/15

مَقَالةُ العَاشِقِ فِي الليَلُ -مجلة الي الثقافية

عَلى حَوافِ البِنتِ، البِنتُ و الإشتهاءُ النقيُ، جزائركُ المنتقاةُ، سقسقةُ المكانِ، دوائرُ الإلتصاقِ، حُمى العِشق، دَاءُ الرعشةِ، على حوافك تسترخي البحارُ المسحورةُ تبتلع سفنَ دمٍ متعجرفٍ وحارقٍ، في ظلمةِ الفُسِق النضرْ، محراب التوبة يشيده كل صباح سُلطان العاشقين، وينفيه الكلبُ المُثقف الأنيقْ.
ابتسامتك، انتبهاهة نهدك الأيسر، سموم انفاسك، الرسالات السماوية فيك، عطسة العاشق، قصائد الشاعر التي خبأها الله في رحم امرأة ستولد فيما بعدك وفيما بعد اطفال الشهداء، مثلهم مثل امهاتهم، يبصرون القريب بعيدا و يرون البعيد ملتصقا بهم كالقلب، لذا يقتلهم الساسة و الهولاكيون، يشوون دمهم على نصل المقصلة: ابتسامتك مطلية باللذة وزهرة البرتقال.
مثلي مثل اصدقائي، اقرأ الطواسين عندما اختلي بنفسى، و اتفرس في رسوم فان جوخ عندما التقى بحبيبتي في غُرفة البيت الخلفية، على شاشة عرض سوف نستخدمها فيما بعد لمشاهدة البرونوفلم، ويدهشني سلمان رشدي في أطفال منتصف الليل وذلك فقط عندما تلفظ القوارير انفاسها الأخيرة وتئز الريح في تجويف الكأس، قال لي المهاتما غاندي:
في البدء يتجاهلونك
ثم يسخرون منك
ثم يحاربونك
ثم تنتصر
وقلتِ لي انت، وبصوتك بحتهُ و بأناشيدك روعةُ العناقِ، دعك من الروح العظيم، غاندي، دعك من شجر الثورة و التحرير،أنا دولتك، والمتمردوين، وساستك الفاسدون، وسوار روحك،والمستعمرون و الخونة،انا شعبك الطيب، اكتب مقالتك فيَّ وعني، أنا العاشقة و انت سلطان أمكنتي جميعا، وتلك أمكنتي ما بين أصابعك و قبلتك و آهِ اللذة، لك كل شيء وكل ماهو لا شيء.
سيدتي
سيدة الليل
سيدة المسافة ما بين الشيء و الشيء
سيدة القلب كله
سيدة العاشقات جميعهن، سيدة البنيات النمامات على مقهي حليوة بشارع المك نمر، سيدة اللائي جلسن على بنبر القطيعة و الثرثرة الطازجة في بقايا ليل و زيتون و خمور بلدية، وسيدة ُ حالمةٍ تستيقظ في اواخر الليل، تنفك من ذراع العاشق السكران، تحرر ضفائرها من كفيه، تسحبُ من تحت صدره سُرتها الجميلة، يحملها حمار النوم لمرقدي في الغرفة الأخرى، كانت كالشبح في شَبق النُعاس و هلوسة المشي الليلي الخطر، حرمتُ علي نفسي ما حرمتْ: حبيبات أصحابي، نساء المكتبات العامة، بنيات الغرف الأخرى، ما حمل حمار النوم و فهد الشهوات إلي، كل من ذكرهن تي اس اليوت في شعره، استثني الائي يتحدثن عن مايكل انجلو في المقهى فحسب.
سيدة المرايا و الحكايا والجوال الضاج.
سارسمك ، سأرسم نمر و قطة، سأرسم شفة واسعة كالبحر، وشاطئين كزغبك، سارسم طائرين كبيرين في مكان عينيك، سأرسم شجرة زقوم وليمون و بفرة، سأرسم خوف صديقتي نهلة عليَّ وصوتها عبر الهواء المكهرب بالرطانات و الفرنجة الجادون في كل شيء.
سيدتي أنا،
أنا وحدي : عَبْدٌ لقُبَلاتِكِ الشَهِيةْ.

عبد العزيز بركة ساكن
30-6-2010

محنة الكاتب السوداني

معظم كُتاب العالم الفقير ممتحنون، أما محنة الكاتب السوداني فهي الأعمق و الأغور جُرحا، من جانب خلق المادة الفنية، ثم طباعتها ثم نشرها، ثم نقدها، فلنتطرق لذلك شيئا فآخر. ستلاحظون انني اناقش الموضوع معتمدا على تجربتي الخاصة في كثير من الأحيان.
دعنا نبدأ بمحنة التأليف، حيث تلعب اللغة دور الممتحن الأول، فاللغة التي يفكر بها الكاتبُ كما هو معروف هي لغة المخاطبة اليومية ولغة حياته الشخصية و العامة، أي لغة المكان و الزمان، وهذه اللغة في السودان هي العاميات السودانية المشتقة من اللغة العربية ولهجاتها و كثير من اللغات المحلية القبلية، و صلة الأديب السوداني باللغة العربية الفصحى في الغالب هي صلة تعلم مدرسي واحيانا صلة عمل، أقصد لغة مكاتبات وتدوين أو تدريس وصلة قراءة. وعندما يبدع كِتابيا، مطلوب منه أن يستخدم اللغة العربية الفصحى، أي اللغة التى لا يفكر بها، أي مطلوب منه أن يفكر بلغة ويكتب بأخرى، بالتالي يعاني من ذلك المخاض التحويلي الهدمي البنائي، الذي يعمل على مستوى الصورة و الفكرة و الأحساس بالشيء. في مجال الشعر خاصة ذلك الذي ينهض على الموسيقى التقليدية الخليلية، فالمسألة أكثر تعقيدا ، فالموسيقى الخليلية هي ليست مايجب أن يمشي عليه الإيقاع الشعري، ولكن هي ما وجد عليه الخليل الإيقاع الشعري في زمان ومكان بعيدين وغريبين عن أمكنة وأزمنة كثيرة، ومنها الزمان و المكان السودانيين، و الشيء الآخر أن تلك الموسيقى بلا شك قد بُنِيت في الأصل لدى الشعراء على أمزجة لا تنفك من الموسيقى السائدة و الغناء و الإيقاعات التطريبية و إيقاعات الحياة منها أدوات العمل، المواصلات ، طرائق النطق، أصوات المكان، و طرائق العيش وغيرها. وإذا لم ينتبه الشاعر السوداني لكل ذلك سيجد نفسه مورطا في الإلتزام بادوات صنعة لا تذهب عميقا في وجدانه الإبداعي، أي تظل فوقية، فيصبح انتاجه أيضا كذلك، ولا ينجح فيه إلا من وطن نفسه على أمزجةِ أزمنةِ و أمكنةِ الفراهيدي، وهذا يحتاج لتغريب و مران صعبين وغالبا ما يُلهيان عن الشعر بالصنعة.
ولقد بدأتْ لي تلك الملاحظة واضحة عندما أخذتُ أدرسُ أحد شعراء العامية السودانيين ، شاعر الدُوبيت المدني عبد الله الكردوسي توفي في 1934، قد لاحظ قبلي الأستاذ ميرغني ديشاب صاحب كتاب قاموس شعراء البطانة ، أن الشاعر المدني كتب شعره بأوزان غريبة، غير معتادة لدى شعراء البطانة الذين سبقوه وأيضا لدى شعراء الفصحى السودانيين، وبدراسة حياته عرفت أنّ الشاعر ما كان يستخدم الجَمَلَ في ترحاله كما هي عادة الشعراء من قبله، حيث أنهم يرددون الشعر على ظهور نوقهم و يتغنون به في الترحال، فلقد كان يستخدم الحمار كوسيلة ترحال، و معروف أن ايقاع سير الحمار ليس كايقاع سير الجمل، فظني أن ذلك أحد العومل المهمة في أن تأتي ايقاعات شعره في بحور غريبة و سريعة و شديدة التنوع.
والمحنة الأخري، بعد أن ينجو ذلك الكاتب المسكين من براثن اللغة، ويكتب نصا، عليه أن يراعي شيئا غريباً جدا، وهو الأخلاق المُعْلنة على أنها الأخلاق الرسمية للدولة، و أعني بالمعلنة أنها المعلنة وليست بالضرورة أخلاق الشُعوب السودانية. وتتمثل في أن السودان دولة عربية مسلمة، سُكانها عرب مسلمون من نوع لم يخلقه الله من قبل،وجميعهم ذووا جذور ضاربة في بطون قريش، ليس بالدولة فساد مالي أو اداري، ليست هنالك حروب يموت فيها الأطفال و النساء و تديرها الدولة،مايسمى بأزمة دارفور ومخاطر انفصال الجنوب وغيرهما من المشاكل ليست سوى مؤامرات من تدبير اسرائيل وكيد اليهود و الأمريكان، ليس هنالك فقر يقود للمرض و الجهل و الدعارة، لآنه في الأصل ليس بالسودان من يمارس الجنس، وعلي الكاتب أن يحترم ما يُسمى بالقيم السودانية و الأخلاق السودانية و العادات و التقاليد السودانية و أن ينسى أن هنالك مئات القبائل و عشرات الديانات و الأعراق و طرائق الحياة، و أن ما يُعتبر قيمة أخلاقية حميدة في الخرطوم قد يُعتبر زلة في قرية لا تبعد عنها مسيرة ساعتين، ليس بالسودان سياسيين فاسدين، ولا أحزاب مرتشية، كل زعماء الأحزاب السودانية الكبيرة وقادة الطرق الصوفية وزعماء القبائل وكبار السياسيين من الأشراف، يعني انهم من اسرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بالسودان كُتاب مارقين وليسوا مثل كافكا الذي يقول ذات نشوة:
" الكتابة مكافأة عذبة رائعة، لكن مكافأة على ماذا؟
في الليل كان واضحاً لي أنها مكافأة على خدمة الشيطان، ربما توجد كتابة أخرى أيضا، لكنني لا أعرف سوى هذه"
يجب على الكتابة ان تكون عبادة، ليست عبادة حرة طليقة ممتعة كصلاة النفري و وابن عربي او وولت ويتمان، ولا يستطيع الكهنة القائمون على تخطيط ما يجب ان تكون عليه الكتابة السودانية، اولئك الذين دائما ما اتخيلهم كفئران دقيقة غاية في الصغر، لهم أذناب نتنتهي بأشواك حادة كانياب الأفاعي، لا يمكنهم تخيل كاتب في السودان بنزق كافكا او شيطانية رامبو، كل ما يأملون فيه فقهاء يكتبون صحائفا طيبة وحكايات تمجد قوما طيبين وطاهرين وعفيفين، لا يتعاطون المريسة، و اسماؤها الخمسون ماهي إلا نتاج مخيلة كاتب فلت من الرقابة في زمن نجس ما كانت لهم يد طليقة فيه ، يكتبون عن دنيا دائما بخير و الناس على ما يرام.
وقد رضخ كثير من الكتاب لهذه المؤامرة الباردة، وأعرف الكثيرين الذين عندما يكتبون شيئا، او يتطلب الموقف الفني كتابة حدث ما، يفكرون كما يلي
- حسنا، ماذا لو قرأ رجل متطرف دينيا هذا؟
- ماذا لو قرأت ابنتي او اختي او اطفالي الآخرون هذا النص؟
- ماهي ردة فعل القراْء ؟ وبيدون في مخيلته كأغوال ضخمة لها سبعة رؤوس، و مليون لسان، فوق ذلك يحملون بنادق كلاشنكوف.
و الأبعد، يفكر الكثيرون في سلطات الرقابة، هل سيصادرون الكتاب، هل سيرفع البعض ضدي قضية اذا تشابهت شخصية البطل بشخصيته؟ هل اذا ذكرت اسم المدن و القرى التي تدور فيها أحداث الرواية المتخيلة، ألا يجر ذلك لكثير من المشاكل؟
لذا تجد أغلب الكتاب السودانيين في رواياتهم وقصصهم لا يذكرون اسماء المدن و القرى و الأحياء الحقيقية إلا ما ندر وفي بعض كتاباتي كنت أفعل ذلك أيضا ولكن في اطار ضيق، ولو انني لا استطيع أن أجد مبررا لذلك غير الخوف المتوارث من ذكر الأمكنة بأسمائها ممن سبقنا من كتاب، وظل المبدعون السودانيون لا يناقشون مطلقا الموضوعات الأنسانية الساخنة، في شعرهم وقصصهم ورواياتهم، مثل حرب الجنوب، قضية دارفور، الفساد المالي و الإداري و الإجتماعي في دولة الإنقاذ، نظام الرق في دولة المهدية و سنار، القوانين التي تحد من الحريات، اشكاليات الهوية، السودانيين في المهجر، المجاعات وغيرها، وتجدهم في كتبهم ونصوصهم يهيمون في آفاق رحبة من اللغة و الشعر و الرمز و الغناء. لقد استطاعت القوانين و استطاع التصور العام المفترض لما هو سوداني وأخلاقي أن يكبل ابداعهم وفي الغالب كون مفهوما غامضا لما يجب ان تكون عليه الكتابة، واصبح منهجا مقدسا للكثيرين.
و الأغرب ايضا، فوق ذلك كله، ان كل الكلمات التي يجب على الكاتب ان يستخدمها هي كلمات مستوحاة من قواميس القرون الوسطى ،لا باس ان يعيش الكاتب كما يشاء و ان يقول في يومه ما يشاء لمن يشاء، ان يستمع للناس يتحدثون بما يتحدثون به عادة ولكنه عندما يختلى بملائكة الكتابة اولئك الطاهرين البررة، عليه أن يحذر ثم يحذر لغة الشارع، وان يحذر ثم يحذر لغة العامة ومنها اسرته و اقاربه و اصدقائه بل هي لغته هو أيضا و ان يتحدث بطله المتشرد الأمي البائس- اذا سمحت له المصنفات ببطل كهذا- ردا على الشرطي الذي يناديه قائلا وهو يحمل بندقية كلاشنكوف
- قفْ، يا أيها المتشرد الزنيم.
فيرد له المتشرد
- أفٍ أيها الشَرطِيُ، و أمي و ابي ، لست بواقف، فلتذهبا انت و بندقيتك الى الجحيم.
وانشأت الدولة مؤسسة بغيضة لرعاية هذه المحنة، و اطلقت عليها اسم المجلس الإ تحادي للمصنفات الفنية و الأدبية ، و زودتها بقانون، وسلطات تقوض كل التشريعات الأنسانية التي تكفل الحريات، كالميثاق العالمي لحقوق الأنسان، و الدستور السوداني ، وفاتورة الحقوق وغيرها، به سادة أشداء قد يفقهون في أمور كثيرة غير الرواية و الشعر و القصة، يصدرون احكاما نهائية كأنها منزلة، لا يتراجعون، لا يعترفون بجهلهم، لا يرحمون، يصادرون و يحرقون و يمزقون،يضربون بيد من حديد، ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم.
وقد قام هذا المجلس بمنع نشر و مصادرة عشرات الأعمال الأدبية و الفكرية بالسودان، وهو يعد من كبريات المؤسسات الراعية لتكبيل الأبداع وعرقلة حركة النمو الثقافي في السودان، ويظل للأسف الناقد الأول للعمل، معتمدا على نصوص القانون وظنون الفقهاء ، بدلا من النظرية النقدية وضلالات باختين و دريدا وغيرهما من النقاد.
وقد ينجو الكاتب أيضا من تلك المحنة بمهارتاته التي اكتسبها من هراوة الشرطي و فأس مجلس المصنفات و مثقاب الرقابات الأخرى، ويتكرم المجلس له بتسريح لنشر العمل المكلوم، بعد حذف ومسح وشطب و قطع، تشذيب وتهذيب يضر بالعمل ضررا بالغا، ويخرج منها كفـأر هرب من مختبر بيلوجي، لتطل المحنة الثالثة برأسها، رحلة البحث عن ناشر. والناشرون في بلدي ناشران. ناشر يأخذ الكتاب و يطلب من الكاتب ان يشاركه قيمة الطباعة، لأن الكتب عادة ما تكسد و لا سوق لها، وهو سوف يشاركك المغامرة التي هي خاسرة خاسرة، وما يأخذه من الكاتب كمشاركة في النشر هو في الواقع مبلغ يساوي تكلفة النشر مضافا إليه بعض الأر باح القليلة المدفوعة مقدما. والناشر الآخر يشرح لك بإستفاضة انه لا يستطيع ان يعطيك اية شيء مقابل ان ينشر كتابك ولا يطلب منك مالا ولكنه سيعطيك بعض النسخ الإكرامية بعد النشر- ويظل بعض الناشرين- يطبع من كتابك الآلاف ويبيع في كل معارض الدنيا، وانت لا تربح مليما واحدا، وعليك ان تشكره بين الفينة و الأخرى لأنه تكرم عليك بالنشر، فالكتاب لا ينباع هذه الأيام. والحال ذاته في النشر بالجرائد و الصحف و المجلات الدورية وغيرها كلها لا تدفع لك شيئا، فالأدب مثل الفضلات لا تُباع، انما يُشكر من ساعدك على التخلص منها. وللحق هنالك بعض الناشرين الذين لهم طرائق أخرى، ولو أنهم قلة، قد يجد الكاتب منهم بصيص فائدة ما، ولو ان جميع الناشرين ليست لديهم هيئة تحرير أو لجنة قراءة ولا حتى مصممين خاصين بدار النشر، مما يجعل الكتاب المنشور دون المواصفات العالمية حتي ولو بذل الكاتب و الناشر قصارى جهدهما في تجويده، يظل الكتاب معاقا وبه من العيوب الكثير، فحسن النوايا وحدة لا ينتج كتابا جميلا.
و سيندهش القاريء اذا عرف انه ليس بالسودان الى لحظة كتابة هذا الشيء 2010-05-21 اية مجلة ادبية او صحيفة مختصة بنشر الأدب، خاصة كانت أم حكومية، و انه ليست هنالك وزارة ثقافة بالمعني المعروف، وتوجد وزارة تسمى وزارة الثقافة و الشباب و الرياضة، واعلن احد وزرائها في صحيفة ما انه لا يشترط على وزير الثقافة ان يتعاطى الثقافة، اي ان يكون مثقفا، بالتالى تهتم هذه الوزارات بكرة القدم ، ولو ان الحال في مجال الكرة ليس بأحسن منه في مجال الأدب إلا ان بالسودان حاليا ما لا يقل عن عشرين صحيفة يومية مختصة بكرة القدم، والمفارقة المضحكة المبكية توجد بالبرازيل تلك الدولة ذات التاريخ الحقيقي في كرة القدم ، صحيفة رياضية واحدة فقط؟
بعض الكُتّاب – شخصي واحد منهم- ندعي العبقرية في التحايل على محنة النشر، فالناشر الذي يقوم في الغالب بنشر أعمالي هو مكتبة الشريف الأكاديمية، لدي اتفاق غريب معه، وهو ان يعطني ثلاثين في المئة من الكتب التي يقوم بطباعتها، على أن أوزعها بطريقتي الخاصة. بالرغم من أنني حتى الآن لم اجن شيئا من الكتب التي اقوم بتوزيعها بنفسي في مدن وقرى السودان إلا انني استفدت كثيرا من تجارب السفر و الشوف و الأمل في ان أجد مبلغا ولو يسيرا من المال مقابل ما اكتبه، في الحق اصرف على الكتابة الكثير من الوقت و الكتب و مصروفات الأسفار الطويلة، و اتحمل في شأنها الشتائم و التشكك في اخلاقي ، هنا نعرج لمحنة اخرى وهي الظن العام في ان الكاتب يكتب تجاربه و مغامراته لا غير، وإلا من اين له بكل تلك الحكايات الضالة؟ وهذا يتطلب من اخواتنا الكاتبات عندما يكتبن ان يتجنبن الخوض فيما يجر عليهن تهمة الإنحراف، ويثير حفيظة ازواجهن و اخوانهن و انف المصنفات الكلبي، و المحنة في ان الكاتب كلما تجنب شيئا ما لمخافة ما ، فانه ينحرف بعمله نحو هوة الضعف الفني .
ومحنة النشر خارج السودان بالمجلات و الصحف الرصينة التي تدفع مقابل مادي عن النشر، مثل مجلة العربي وغيرها، محنة شائكة، لدي تجربة وقد خاضها قبلي استاذي مبارك الصادق، وهي ان مجلة العربي ترسل شيكا مسحوبا على البنك الباركليز، وفي السودان لا يوجد مثل هذا البنك، بل محرم تماما التعامل مع البنوك الأمريكية وتوجد قائمة سوداء لأخرى. ولقلة المبلغ فانك لا تستطيع ان تقوم بمحاولات اخرى تجعلك تتحصل على قيمته، لأن تكلفة صرفه أكبر من قيمته، لذا احتفظ الآن بشيكات مجلة العربي باليورو داخل شنطتي، للذكرى العطرة وانا في اشد الحاجة للمال الذي تحويه. أما عن اعمالي الصادرة باللغة الفرنسية فإلى الآن لم يستطع الناشر- ولا أنا- ان يفهم لم لم يكن سهلا امر تحويل نصيبي مباشرة لحسابي في السودان.
بعد ان يتخطى الكاتب كل تلك الحواجز، مثل ثعلب عجوزيخدع الشباك التعبة، يقع في شرك النقد، وهو محنة سوف لا ينجو منها بالسهل، فالنقد في السودان- في كثير من الأحيان- يقوم على المزاجية ، الشللية، الأخوانيات و احيانا البلديات و الحزبية الضيقة جدا، على الرغم من ان جيلا من النقاد يمتلك الكفاءة العلمية، اي تخرج من كليات النقد، بل ان كثيرا من حملة الدكتوراة في هذا المجال قد شرفوا الساحة الأدبية، إلا ان حركة النقد مازالت بطيئة وغير فاعلة، بل تصبح في احيان كثيرة معيقة لحركة الأبداع ، حيث ان ميكانزم الشلة، منذ سنوات قليلة كان يعمل على انتاج كُتّاب الشلة، وفي سكته هذه قد يقوم بتجاهل كتابات كثيرة جيدة، تجاهلا متعمدا،وقد يسحق تحت حوافرة العجلة كُتّابا مثابرين كان يُرجى منهم الكثير،ليلقي الضوء على تجارب فطيرة فقيرة، حالما يكتشف القاريء زيفها منذ الأسطر الأولى.
واذا كان الكاتب يتمتع بروح كديس بري، ونجا من كل تلك المحن و الإحن، فما ينجيه من الجرى اليومي وراء لقمة العيش الذي يلهيه عن القراءة و الكتابة و المنتديات عن السفر؟ وكما يقر بول الوار بأن "الخبز خير من الشعر"، اعتصم أكثرهم بوكر الخبز.
سألت مرة ابني الصغير اسمه المهاتما، عمره ثمانية سنوات
- عندما تكبر، عايز تكون شنو؟ اي ما هي امنيتك؟
قال بسرعة وكانه يعد الإجابة مسبقا
- عايز اكون كاتب مثلك!
وعندما سألته لماذا يريد ان يصبح كاتبا، قال لأن الكاتب لديه مال كثير و لديه عربة. وحتى لا يضيع ابني في الوهم الأخضر كما ضاع ابوه، اخذت اشرح له، بأن العربة التي اقودها هي عربة المصلحة التي اعمل بها، و ان النقود التي ادفعها يوميا من اجل توفير الطعام له و لأخيه، هي ما تدفعه لي المؤسسة مقابل ان أعمل الوقت كله لها، وشرحت له انني اذا اردت ان أعيش ككاتب،اكتب و أقرا واقدم الأوراق الأدبية و أحضر المنتديات، عليه و اخوه ان يتوقفا عن الذهاب للمدرسة و يتسولا في الشوارع، ونصحته بأن تكون له امنية أخرى اذا اراد المال و العربة و الحياة الرغدة الطيبة، سياسي مثلاً او ناشر كتب.
ولكنه اصر على امنيته في ان يصبح كاتبا، بالتالي كتبت هذه الواصايا الإحدى عشر من أجله:
- عندما تكتب عليك ان تنسى ماهو دينك او حزبك او قبيلتك، عليك فقط بالنص.
- لا تتردد مطلقا في ان تكتب اية كلمة تخطر ببالك اذا كانت لها ضرورة فنية.
- عند لحظة الكتابة لا تهتم مطلقا بكل ما تعلمته من فضائل وقيم و اخلاق، اهتم فقط بالإنسان، بالقيم التي تخصه و الأخلاق و الفضائل التي تخصه، اقصد الأنسان الذي تشكله في النص .
- لا تفكر في النشر إلا بعد ان تفرغ من الكتابة، لآن التفكير في النشر يجر الى التفكير في ما يجب ان يكتب و ما لا يجب.
- انس كل القوانين التي تقيد كتابتك وتحد من حريتك.
- ضع العالم في جيبك و انت تكتب، امتلكه كله ، زمانا و مكانا.
- استخدم اللغة التي تروق لك انت شخصياً.
- لا تتبع غير الموسيقى التي تنبع من ذاتك، الموسيقى التي تخصك،الموسيقى التي هي جزء منك و انت جزء منها.
- تذكر مقولة بودلير" لا تخلط الحبر بالفضيلة".
- لا تنسى وصية جدتك فرجينيا وولف " كل الموضوعات تصلح للكتابة".
- في غمرة الكتابة لا تفوتك الحرفة، اقصد فن اللعبة، لأن الرواية ليست هي الحكاية ولكنها فن كتابة الحكاية، وكذلك الشعر، القصة و الرسم.

في مصر كنت قد التقيت قبل سنوات كثيرة، بصديق درسنا الجامعة معا بمدينة اسيوط، اسمه احمد خالد وهو روائي وقاص مصري مشهور، سألته عن حاله و احواله ، قال لي إنه الآن متفرغ للكتابة، واندهشت جدا لهذه الجملة التي لا توجد اطلاقا في قاموس الثقافة السودانية.
وسرحت بخيالي في اسئلة عصية، من اين يأكل هذا الشاب، كيف يوفر مصروفه الشخصي ولحسن حظه انه غير متزوج ولكن من يدفع له ايجار الشقة؟ وكنت أعرف انه لم يكن من اسرة ثرية او بقايا باشوات. وعندما شاهد دهشتي، قال لي إن هذا الشيء عادي تماما في مصر، و لقد فرغتني المؤسسة الحكومية التي اعمل بها، انا اصرف مرتبي شهريا و اذهب للمنتديات و اقرأ و اتسكع و أحب من اجل ان اكتب روايتي الجديدة في عامين كاملين. قارنت هذا بأديبنا الأعظم ابراهيم اسحق الذي ظل يعمل و يكتب اكثر من ثلاثين عاما و الى اليوم، قارنته بأستاذنا الروائي و القاص عيسى الحلو وهو على مشارف السبعين واذا لم يذهب للجريدة سيموت من الجوع ويطرد من بيت الإيجار، بذات الحال الروائي و القاص مبارك الصادق، الناقد مجذوب عيدروس، الشاعر عالم عباس، و الناقد عبد القدوس الختم الذي لم يقعده عن العمل سوى المرض، القاص بشرى الفاضل وكثيرون هم الآن فوق الخمسين أو الستين لم يتفرغ اي منهم ليوم واحد من اجل مشروعه الأدبي، وإلا اصابتهم لعنة المسغبة ، ولأن هؤلاء الشيوخ الذين افنوا جل عمرهم في خدمة الأدب و الثقافة لا يشملهم التأمين الصحي و ليس هنالك ضمانا اجتماعيا يحمي اسرهم ، فكثير منهم مات محبطا بأتفه الأمراض مثل القاص زهاء الطاهر و الروائي محمود محمد مدني صاحب الدم في نخاع الوردة،و القاص بدر الدين عبد العزيز وتركوا اسرهم للريح، بذلك ينقلون محنتهم اقصد لعنتهم ككُتّاب الى اسرهم من بعدهم، وهم السابقون و نحن اللاحقون. تخليوا الروائي الفذ الطيب صالح اذا تفرغ للرواية بعد كتابة رواية موسم الهجرة الى الشمال في اوائل الستينيات من القرن الماضي ، دعنا لا نتحدث عن جائزة نوبل، لأنها كما يقول الأستاذ عنها "حظوظ"، ولكن كم من الروايات الجميلة كان سيكتب وكم من القصص الساحرة؟ ولكن كان ابو الرواية السودانية فقيرا ايضا، وظل يعمل الى ان اقعدته الشيخوخة والمرض عن العمل ثم تفرغ مجبرا في اواخر ايامه.
فكرت ذات مرة- كثير من الأفكار الشيطانية نتابني بين حين وآخر- أن اتفرغ للكتابة سنة واحدة فقط، تبدأ ب 30 مارس 2008 و تنتهي ب 30 مارس 2009، وكان حينها قد انتهى عقد العمل الذي يربطني بالأمم المتحدة و منظمة رعاية الطفولة السويدية كمستشار لحقوق الطفل بدارفور، وكانت بجيبي بعض الجنيهات حصيلة عمل شاق وخطر استمر لثمانية عشر شهرا مع قوات حفظ السلام الأفريقية ثم الجيش السوداني، وفكرت عمليا وسريعا في ان استثمرها في مشروع صغير يوفر لأطفالي مصروفات السنة التي سوف اقضيها للعمل النهائي في مخطوطة رواية الجنقو مسامير الأرض، وكنت متفائلا جدا، وطيبا جدا، و اكتشفت فيما بعد انني كنت غبيا جدا، عندما اودعتها جميعا، في مشروع كانت خسارته داوية بعد ثلاثة اشهر فقط،ولكنني قررت ان اظل متفرغا الى بقية العام، لذا قمت بعمل خفيف وهو ان اصمم اقمصة من اقمشة القطن و ابيعها للمثقفين بأماكن تجمعاتهم، لقد كنت في صباي اعمل تلميذا لخياط في بلدتي بخشم القربة،وامتهنت فن تصميم الأزياء ذات فقر من قبل ، اي كانت لدي فكرة لا بأس بها في هذا المجال، وفشلت محاولات اخرى كثيرة من أجل توفير لقمة العيش، ولولا نجدة الأصدقاء و الصديقات، لولا الصبر الذي تعلمته من امي، لولا مهارتي في إدارة الجوع و الفقر، لما اتممت العام متفرغا للكتابة، واعتبر ان تلك كانت مغامرة كبيرة سوف لا اكررها فيما بعد.
إذا،كيف يبدع الكاتب السوداني وهو في دوامة تلك المحن، و محنة الكاتب السوداني تقود الى محنة الأدب السوداني بالضرورة،و تبقي حقيقة واحدة مهمة، من جراء كل تلك المحن، يصبح "الكاتب السوداني مشروع فاشل لكاتب عالمي".
عبد العزيز بركة ساكن
19- 5- 2010