2017/09/15

صدور رواية (سماهاني) / لعبدالعزيز بركة ساكن


يعود السودانيّ عبد العزيز بركة ساكن في روايته "سماهاني" إلى القرن التاسع عشر ليصوّر منطقة تعدّ من المناطق التي ظلّت بعيدة نسبيّاً عن تطرّق الرواية العربيّة إليها وتناول بعض تفاصيلها التاريخية الهامّة، في منطقة تكاد تكون منسيّة بدورها للعرب، ولا تبدو مثيرة لاهتمامهم في الزمن المعاصر، وهي زنجبار الواقعة في قلب القارة السمراء، والتي يصفها بأندلس إفريقيا الضائعة. 

يتناول ساكن، المقيم في النمسا منذ سنوات، الوجود العربيّ الذي تمثّل بالوجود العُماني الذي كان احتلالاً لزنجبار، وتسلط السلطان الذي كان يسبغ على نفسه، كغالبية الديكتاتوريين، صفات مقدّسة، ويبتدع لنفسه نسباً مقدّساً يربطه بالنبيّ سليمان، ويزعم الخلود ويتعاطى مع رعيّته على أساس الفرادة والتميّز من منطلق القوّة والسطوة، ولا يكترث لأحوالهم، بل يتمادى في غيّه وإجرامه وينكّل بهم هناك شرّ تنكيل. 

ديكتاتور بائس
يضفي ساكن على هيئة الديكتاتور صبغة كاريكاتيرية، يظهره بمظهر البائس غير القادر على تأدية أبسط واجباته تجاه نفسه، برغم ما يصدّره من رعب وعنف وإجرام تجاه الآخرين، يبقى أسير غرائزه الحيوانية التي تودي به إلى الهلاك، وتوقعه في شرور إجرامه الذي كان يقترفه بشكل متعسّف يعيش من خلاله لذّة القتل والإبادة التي توقع به تالياً في الحفرة نفسها.

يرسم ساكن عالماً مرعباً يسوده الفساد والدمار والإجرام، عالم العبوديّة التي كانت مأساة ذاك العصر والعصور السابقة، لما لها من تداعيات كثيرة لا تستدلّ إلى تهدئة أو توقّف، ذلك أنّ الأجيال التي عانت ظلم العبوديّة ظلّت حاملة في وجدانها لعنة الانتقام من أولئك النخّاسين والمحتلين الذي دمّروا تاريخ البلاد وشرّدوا أهلها وأفنوا وأبادوا قبائل عن بكرة أبيها.

يتغلغل بركة في أعماق عدد من العبيد الذين طاولتهم جريمة الإخصاء، وكيف أنّهم عانوا مأساتهم ولم يتمكّنوا من التأقلم معها، ولم تفلح محاولات تطويعهم الدائمة وإرضاخهم للإذعان والتكيّف مع وضعهم الجديد، وكيف أنّهم ظلّوا مسكونين بشعور النقصان الذي حفر عميقاً في أرواحهم، وكانوا رهائن البتر الذي لم يطاول أعضاءهم فقط، بل شوّه أرواحهم أيضاً، كما كانوا مضطرين إلى ابتكار أساطير توهمهم أنّهم سيكمولون نقصان أرواحهم في العالم الآخر، وستعود إليهم أعضاءهم المبتورة ولن يكونوا مخصيين حينها، بل سينعمون بحياة طبيعية بعيداً عن ذلّ العبوديّة وقهر الخدمة والخصي. 

يتربّح السلطان من تجارة الرقيق، يؤسّس محمية العبيد التي قوامها الظلم والإجحاف والتمييز والتقسيم الطبقيّ الشائن، والممارسات القذرة من قبل أولئك النخاسين وطبقة السادة وصائدي البشر ضدّ المواطنين المستعبدين، وتحويل بلادهم الموصوفة بالجنّة إلى جحيم لهم، تكون جنّة للآخرين وجحيم أبنائها، وهنا المفارقة التي يشتغل عليها ساكن، ويحرص على اقتفاء بدايات انبثاق الشعور الوطنيّ لدى المضطهدين المتفرّقين الذين يبقون في غاباتهم بعيداً عن مكر السياسة والتحالفات والقوى الاستعمارية التي تبقيهم أسرى وعبيداً في بلدهم. 

تأسر قوّات السلطان عدداً من المواطنين وتحوّلهم إلى عبيد، يقوم السلطان بالإشراف على إخصائهم، ويختار منهم مَن يخدمونه في قصره، ومن سيخدمون ابنته الوحيدة في قصرها الذي يتحول إلى قنصلية للإنكليز لاحقاً، يقع الاختيار على كبير قوم وابنه بعد تجريدهم من أعضائهم وبترها بطريقة وحشيّة، ومن ثمّ تطويعهم بالإكراه والتعذيب لمضان صمتهم وخدمتهم وطاعتهم وولائهم. 

يكون إخصاء الطفل جزئياً، يبقى مسكوناً بشهوة لا تهدأ، لكنّه لا يستدلّ إلى إتمام العملية الجنسيّة، ويقع في فخّ علاقة مع سيّدته الأميرة التي يقع في أسر حبها، وهي في الوقت نفسه تبادله الحب، وتستمتع برفقته وملامساته، وتنفتح عليه، ولاسيما أنه يبقى في خدمتها لسنوات، يتعرّف إلى جسدها بأدقّ تفاصيله، ويساعدها على تحرير طاقاتها وشهواتها، ويبحر معها في لعبة الجنس الذي يبقى منقوصاً لأنّ الإثنين يعانيان من مشكلة بتر أعضائهما الجنسيّة. 

ابنة السلطان تعيش في قصرها منتشية بحياتها الباذخة، ترضخ لرغبة والدها بالزواج من أحد التجّار المتنفّذين، تكتشف معه لذة الجنس، لكنها تحقد عليه نتيجة مجونه مع النساء، وتسعد بموته في رحلة من رحلاته البحرية، ثمّ تعيد اكتشاف جسدها وشهوتها مع عبدها سندس الذي يتدرّج في تولّعه بها، وملامساته العابثة المدروسة لجسدها رويداً رويداً وصولاً لمرحلة المكاشفة والمصارحة والاعتراف، ثمّ تبادل الحبّ والوعد بالحماية والبقاء معاً إثر غارة عدد من الثوّار على قصرها بالتواطؤ مع سندس، ومسعاهم لحيازة أسلحة تمهّد لهم طريق الثورة والحرّية.

إخصاء وغفران
يقع السلطان بين براثن الإنكليز الطامعين بالبلاد، وذلك بعد إخصائه بطريقة مثيرة على أيدي عبيده الذين كان ينال منهم، وكان يفترض أنّه أرسلهم إلى السجن للموت فيه، ويجد نفسه راضخاً لقوّة أشدّ بأساً وجبروتاً وطغياناً منه، يبدأ بالاعتراف بفشله في إدارة البلاد وتطويرها من مختلف النواحي، والكارثة التي حلّت على طبقة المصنّفين سادة، ورزوحهم في جهلهم وتخلّفهم، وعدم قدرتهم على مواكبة مستجدّات العصر، والاعتماد المطلق على العبيد في الأعمال والمهمات الحياتية جميعها، لدرجة الفشل التامّ الذي شلّ الجميع حين إعلان القوّات الإنكليزية تحرير العبيد وانتهاء عصر الرقّ والاستعباد بشكل تمثيليّ مهيّئة بذلك لاستعمارها واستغلالها بطريقتها الاستعمارية الحديثة. 

"المحب ليس لديه وازع"، يتحوّل هذا المثل السواحيليّ إلى تميمة للشخصيّات الهاربة من مصيرها، العالقة في قيود ماضيها، المرغمة على دفع ضريبة أفعال غيرها، ويتحوّل بصيغة من الصيغ إلى "المنتقم ليس لديه وازع"، ذلك أنّ الانتقام يحوّل المسكون به إلى قوّة هادرة للفتك بمَن نكّل بأهله وقتلهم ويتّمهم ودمّر أرضه وحياته. 

النهاية التراجيديّة التي يختم بها بركة ساكن عمله تخلّف أسى مضاعفاً، ذلك أنّ جثّة الأميرة الملقاة على الشاطئ بعد اغتصابها من قبل أحدهم، وكان يفترض به إنقاذها، لكنّه أذعن لنداء الانتقام الذي يقضّ مضجعه، وكان أن دخل في مناجاة مع نفسه ومعها قبل إقدامه على جريمته بحقّها، ومعرفته بأنّها بريئة من أفعال أبيها الإجراميّة، لكنّه لم يستطع لجم غضبه وتحسّره على أمّه التي اغتصبها والدها السلطان، وأهله الذين قتلهم، بينما ظلّ رضيعاً أنقذته كلبة أرضعته، ولم يفلح في كبت الوحشيّة التي تغوّلت في كيانه ودفعته للتنكيل بها بتلك البشاعة. 

"سماهاني" وتعني طلب الصفح، الاعتذار، الغفران، العفو، المسامحة في اللغة السواحيليّة، تتشعّب في الرواية معنى وحضوراً وتتوزّع على الشخصيّات، كلّ شخصيّة تشعر بأنّها مدينة باعتذار لأخرى، وفي الوقت نفسه مدينة بالاعتذار لتاريخها ومكانها، وفي عالم يفقد فيه الاعتذار معناه، ولا يستدلّ ضحاياه إلى أيّ طريقة للصفح عن بعضهم بعضاً يكون الانتقام سيّد الحياة نفسها، ورسول القتل والحقد والاستعداء الدائم. 

يحيل الروائيّ طلب الصفح والعفو إلى القوّات المحتلّة لإفريقيا، يرمز إلى ضرورة أن تتحلّى بالجرأة للاعتراف بجرائمها هناك، وتسعى إلى طلب المغفرة من أبناء تلك البلاد، عسى أن تمهّد لبداية تأريخ جديد مختلف عن ذاك الملعون بكوارثه وخيباته وهزائمه وجرائمه بحقّ الناس هناك. 

يكتب ساكن بنفَس ملحميّ عن مجتمع سواحيلي تعرّض لكثير من محاولات التشويه والتدمير على أيدي الغزاة، وواقع أنّ كلّ محتلّ حاول الدعوة لدينه ونشره بينهم، وإجبارهم على اعتناقه، ومحاولة إقناعهم أنّه الملاذ الوحيد لهم، فكان المحتلّون البرتغاليّون وبعدهم العُمانيون الذين أخرجوهم من هناك، ثمّ الإنكليز وغيرهم من الأوروبيين الطامعين بثروات تلك البلاد وأبنائها. 
يشير صاحب "مسيح دارفور" إلى نهاية عصر الرقّ الذي افتتح بنوع جديد من الاسترقاق، وهو استرقاق الاستعمار الحديث المتقنّع بأقنعة الحداثة وحقوق الإنسان وتحرير العبيد، والماضي في سبيله إلى نسف بنية البلاد ونهب ثرواتها، وإعادة تجميع القوى في أيدي قوى تابعة لها تضمن استمراريّة مصالحها ونهبها الدائم. 

أثناء قراءة "سماهاني" يستعيد القارئ عوالم رواية "قلب الظلام" للإنكليزي جوزيف كونراد (1857 – 1924)، كما يستعيد أجواء رواية "حلم السلتيّ" للبيروفي ماريو بارغاس يوسّا الذي صوّر الفترة نفسها تقريباً ولكن في منطقة إفريقية أخرى، هي الكونغو، واقتفى جانباً من تداعيات صراع القوى الاستعمارية التي تمثّلت بالبلجيكيين وبعض الأوربيين الآخرين هناك، وتعاملهم المجحف مع السكّان الأصليّين واستغلالهم وثرواتهم لخدمتهم ومصالحهم الاستعماريّة، وكان ذلك من خلال حكايته لسيرة الدبلوماسيّ الأيرلنديّ روجر كيسمنت (ولد في 1864 في دبلن - وأعدم العام 1916). 


(*) الرواية من منشورات مسكيلياني، تونس 2017. 

2016/09/27

الرجل الخراب للروائي عبدالعزيز بركة ساكن في أمسية منتدى الكتاب في برمنغهام

حلّ الروائي السوداني عبدالعزيز بركة ساكن الحائز على جائزة الطيب صالح للرواية في عام 2009 عن روايته ((الجنغو مسامير الأرض)) ضيفا على منتدى الكتاب في برمنغهام لفاعلية شهر مايو 2015 عبر روايته ذائعة الصيت الرجل الخراب.

امتلأت قاعة المنتدى في مدينة برمنغهام –المملكة المتحدة- في أمسية يوم السبت الماضي 30 مايو 2015 حيث توافد معجبو الروائي للمشاركة في قراءة رواية الرجل الخراب ومناقشتها من قبل المهتمين.

في بداية الأمسية التي استمرت لزهاء الأربعة ساعات متواصلة، رحب الاستاذ عبدالعزيز موسى -منسق المنتدى وأحد أعمدته الأساسية التي تسهر وتعمل دون كلل لرفعة مكانة المنتدى وتحسين أدائه وعلى نحو مستمر ومرئي- رحب بالحضور وعرف بالروائي عبدالعزيز بركة ساكن الذي أطل على الحضور عبر شاشة خدمة الإسكايب من مكان إقامته في فيِّننا العاصمة النمساوية. كما أعطى السيد عبدالعزيز موسى الفرصة لمعظم الحضور لتحية الضيف والتعريف بأنفسهم.

جاء بعد التعارف دور السيد إبراهيم حامد شلاب ليبدأ بتقديم قراءته عن رواية الرجل الخراب، حيث تطرق إلى الأجواء العامة التي اتسم بها العمل وشخوصه ورأى في الرواية ميلاد أفق جديد من العمل الابداعي يختلف عن الكثير من الأعمال من حيث عمق التحليل وعكس معاناة الناس في مناح شتى. فضلاً  عن إعْمالِ الروائي أساليب وتقنيات سرد ابتدعها على نحو غاية في الروعة والابداع ليُشرُّحَ بها تناقضات حياة بطل الرواية درويش المهاجر السوداني- المصري الذي تكبله قيود كثيرة تحول دون انخراطه في مجتمعات الفردوس المتخيل وجوده في أوروبا، لنراه يعيش منفصما، إذ لم يعد ينتمي إلى مجتمعاته هناك في الوطن أو الأوطان الكثيرة التي ينحدر منها في الأصل وبالمقابل غير قادر لأن يكسر الحواجز التي تمنعه من أن يصبح عضواً كامل الأهلية في مجتمعه الغربي الذي اصبح فيه غريب الوجه واليد واللسان.

فحسني درويش الذي يمثل الرجل الخراب يلعب الدور المحوري في مختلف أحداث الرواية، ولد إنسانا هجينا ومرتبكا إذ جاء إلى هذا العالم من أب سوداني ويعيش في مصر بمعية أمه المصرية التي تزوجت بآخر بعد وفاة والده. والإرباك يتجلى بوضوح  أكثر في عدم حصول درويش على شهادة وثيقة ميلاد أسوة بالكثيرين من الأطفال وليجد نفسه أجنبيا أمام السلطات المصرية. وتتجلى ملامح الفوضى الخراب في حالة اللامنتمي التي تتلبسه فيما يتعلق بقضية الهوية والانتماء. صحيح إنه يعرف كونه سودانيا-مصرياً، بيد أنه في الحقيقة يعاني من حالة اللاتوازن لجهة سؤال الهوية (من أنا). فهو يقرُّ بضآلة ثقافته ومعلوماته باستثناء دراسة كلية الصيدلة، وإنه لم يتعب نفسه في قراءة الكثير من الكتب إلا النذر اليسير منها، الأمر الذي لو حدث لجعله واثقا للتعبير عن أرائه عند تناول قضايا شتى مع أصدقائه. هذا الدرويش (وهذا الاسم لايعبر عن مغزى أو معنى صوفي هنا كما تعود الناس، بل يدل هنا على الفقر) كان يعرف بعض الآيات القرآنية التي كان يحفظها من دون استيعاب معناها أو إدراكه مغزاها. ولم يسمع عن أمهات كتب التراث العربي أو كتاب النبي أو غيرها، الأمر الذي جعله فريسة للجماعات الاسلامية المتطرفة التي جندته ذات يوم بسهولة، لافتقاره للأدوات المعرفية التي تساعده على التفريق بين الأفكار الملغمة والمفعمة بالوعي المزيف وتلك التي تحوي أفكارا أصيلة ومفيدة. هذا الأمر جعله شخصية مسلوبة الإرادة يسهل اقتيادها.

كنتيجة لهذه الخلفية من حيث الهشاشة الثقافية والفكرية نجده مندهشاً ومصعوقا، بمجرد إدراكه أن المرأة النمساوية ((التي تزوجها لاحقاً بعد وصوله إلى النمسا عقب رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، رحلة قرر السير فيها بعد أن تيقن أن الوطن الذي اعتقد أنه مأواه وواحته اضحى طاردا والموت عبر البحار والصحارى للوصول إلى مكان يصلح ليكون وطناً بديلاً برر له ركوبه تلك المخاطر)) تلك المرأة تقرأ كتباً وأعمال ابداعية وفكرية من منتوجات مكتوبة ومترجمة عن تراث بلده، كما ذكرنا فهو لا يعرف عنها شيئا، بل ولم يسمع عنها من قبل.

كحال الكثير من المهاجرين، نجد درويشا تلكم الشخصية المتناقضة، يصل أوروبا وخاصة النمسا، وكل أمله أن يعيش في رفاه وثراء في مجتمع الحريات الشخصية والفردية، ليتفاجأ بأن الكثير من الصور التي رسمها في مخيلته لم تكن أكثر من أضغاث أحلام. وكانعكاس صريح وسريع لسطحيته وتمسكه بقشور المفاهيم ولغاية تسريع عملية اندماجه واختلاطه في مجتمعه الجديد، يغيَّر كل ما يمت بصلة بتاريخه من اسم وارتباط بالعروبة والاسلام فيسمي نفسه هاينرش ويتزوج من نورا شولز آملاً أن ينخرط بمجتمعه المسيحي الجديد ويصبح جزءا منه، وليتعزز ذلك الاندماج، حسب اعتقاده، انجبت له زوجته النمساوية ابنتهما ميمي.

مع الأيام وبينمالإبنة تكبر يتبدى تناقض هاينرش وارتباكه بجلاء. فالأب رغم تمثله وزعمه الاندماج والتحرر، إلا أنه في جوهره كان أسيراً ومكبلاً بمخزونه المجتمعي الذي رحل معه وأبى إلا أن يعشش في عقله الباطن ليظهر في كل سانحة أو حدث يستفزه ليفقده توازنه.

فكم من مرة وبخ ميمي وأمها وضربهما ليؤدبهما على عادة ما درج عليها الناس هناك في المشرق، لتأخذه الشرطة لخارج البيت وليحظر عليه العودة إليه بسبب سلوكه الذي يتنافى مع ما يفترض فيه أن يكون قد اندمج في مجتمعه الجديد الذي ييتوقع منه أن يدرك أهم قاعدة ذلك الأندماج وهي أن يترك الناس، حتى زوجته وإبنته وغيرهم  يتصرفون بحرية، فلا يجدي محاولة منعه ميمي من ملاقاة حبيبها توني في بيت العائلة لتقضية أول ليلة لها بعد عيد ميلادها الثامن عشر في غرفتها لتتذوق طعم الانفراد مع رجل، هو حبيبها...

نتيجة لارتباكه وصراعه بين ماضيه وواقعه الحالي، كل تصرف يبدر منه محل مراقبة من الجهات الرسمية التي تعتقد أنه بحاجة إلى إعادة تأهيل ليصبح عنصرا إيجابيا في أسرته ومجتمعه. تأهيل نفسي وحضاري وسلوكي لابد أن يعطى للرجل ليصبح هاينرش عن حق وجدارة ويرمي بالنتيجة حسني، ذلك الاسم القديم في سلة المهملات..

إن الرواية هي محض صراع ثنائيات. ثنائيات الثقافة والدين والأحلام والصحيح والخاطي والمتحضر والمتخلف والليل والنهار التي مدخلها إشكالية الهُوية بكل تجلياتها. فالغريب في الأمر وعلى الرغم من موافقة الرجل على تغيير اسمه الأول حسني إلى هاينرش إلا أنه تشبث باسم العائلة درويش وكأنه أراد الاحتفاظ بخط رجعة للتواصل أو لنقل محاولاً  التعاطف مع مؤلف الرواية الذي ترك مرابع طفولة كثيرة متعددة تمتد ما بين أسيوط والقضارف وكسلا وحلفا وبل مدينة قلوج في غرب إرترياحيث عاش وأجداده هناك، ليتحدث لغات شعوبها – تقري وتقرنيا وغيرها- وذلك حسب ما أفاد به الروائي عبدالعزيز بركة ساكن في إحدى مداخلاته للحضور في ذات الأمسية، ليؤكد أنه سوداني-مصر-إرتري- بل وقرن إفريقي بحكم فهمه ومعايشته للغات وتراث شعوب تلك المنطقة الغنية بأبداعاتها أنه يحس بإنتمائه لتلك البقعة الطيبة.

في هذا السياق والمتعلق بمثلث كسلا-قلوج – القضارف، صرح مؤلف الرواية للحاضرين في الأمسية: أن "الجنغو" يعيشون في تلك المنطقة، ومن خلال مراقبته لأسلوب حياتهم وسلوكهم الإجتماعي وتعلقه بمميزات تلك الحياة الجميلة من حيث انتشار الاندايات (الخمارات) وحياة المرح وغيرها من مظاهر،هي التي أوحت له بكتابة وتأليف روايته المشهورة ((الجنغو  مسامير الأرض)) التي نالت جائزة الطيب صالح للرواية عام 2009 كما ورد فيما تقدم من أسطر.

بالعودة إلى رواية هذا الشهر "الرجل الخراب" الصادرة عن مؤسسة الهنداوي عام 2015. فإن الرواية جاءت في حوالي 124 صفحة من القطع المتوسط ومقسمة بعد الإهداء إلى 11 عنوانا  نستطيع القول أن كل عنوان يحمل رواية خاصة مستقلة بأحداثها وأسلوب لغتها عن باقي الفصول. واللغة تمتاز بسلاسة وجاذبية لا يخطأها القاريء.

بعد سماع ورقة السيد إبراهيم حامد شلاب الشاملة، بدأ الحضور بطرح رؤيتهم وتساؤلاتهم التي تم استنباطها من القراءة السابقة لمجيئهم للقاعة. ولأن قائمة الحضور طويلة ويصعب إيرادها كلها، نكتفي بذكر أسماء بعض الذين أدلوا بملاحظاتهم ضمن السياق العام للنقاش. منهم الدكتوران محمد محمود وجمال جبرا والاستاذ زكريا والاستاذة سوزان كاشف ومها إبراهيم القادمتان بمعية الأستاذ فائز القاضي من لندن والاستاذة إيمان التي حضرت خصيصا من مدينة كوفنتري والاستاذ عبدالعزيز موسى منسق المنتدى والاستاذ فضل تكروري والاستاذ ياسر والأخوات الفاضلات رشا خلف الله وإخلاص وشذى ومها وعوضية وآخرون من أعضاء المنتدى الذين زادوا القاعة بهاء وألقا.

هناك ثمة إجماع للحاضرين فيما ذهبو إليه من تعقيبات: قالوا فيها:

"إن رواية ((الرجل الخراب)) ترمز إلى خراب حقيقي حتى في أسلوب كتابتها وتداخل فصولها بشكل غير ترتيبي إلى الحد الذي يرشح كل فصل من فصولها في أن يكون رواية مستقلة دون إخلال أو نقصان في توصيل رسالة الكاتب.

والخراب يتجسد في شخوص الرواية وكتابتها التي جاءت على نحو متشظي ليجاري خراب الرجل خراب النص المفتوح بأريحية على مصاريعه، ليتشتت معه ذهن القاريء وليعود مجددا يتشبث بالنص بقوة رغم ما يصيبه من دوار.

إن تدخل الروائي أو الكاتب في كثير من مجريات السرد في الرجل الخراب، لم يكن سافراً أو مخلاً."

في رده على سؤال أحد الحضور حول كيفية تأليفه هذه الرواية عن المجتمع الغربي ووهو الذي لم يمض على إقامته هناك سنتان؟ قال عبدالعزيز بركة ساكن في رده:

"أولاً: قبل أن يحل بي المقام هنا في فيَّننا عاصمة النمسا، كنت أزور أوروبا مرات عديدة ودرست في الجامعات الإيطالية. ثم أن هناك مسألة يجب وضعها في الحسبان وهي أن كتابة الروايات لاتتطلب العيش أو الإقامة كل العمر لتبدأ في عكسها على الأوراق، فحتى الروائي الفذ الطيب صالح لم يكتب رائعته موسم الهجرة  إلى الشمال إلا في بداية سنوات إقامته وعمله في البي بي سي في المملكة المتحدة. وأمر آخر هو أنه ليس بالضرورة أن يكتب الإنسان عن الشيء الذي جربه أو عانى منه شخصياً أو حتى عايشه بنفسه. فإذا كان شرط المعايشة والتجربة الشخصية عاملا حاسما، فكيف تسنى للإنسان أن يكتب عن الجحيم أو غيره مما لا يتاح له معايشته أو لمسه. وأمر ثالث لابد من التذكير به وهو أن أي عمل إبداعي لا يعني أن من كتبه يوافق على سلوك شخصيات روايته. فإذا كانت هناك شخصيات لا أخلاقية في سلوكها أو متزمتة أو حتى خيرة أو تمتلك صفات أخرى، قطعاً لا يعني الأمر أن ذلك العربيد أو ذلك الإنسان الطيب والخلوق هو انعكاس للكاتب. فالكاتب أو المؤلف أو سمه ما شئت هو مجرد عين عاكسة لما يجري حوله من أحداث يصورها ويحاول وضعها في قالب إبداعي ليسهل عملية فهم واقع محدد، دون أن يعني أن الكاتب هو كاميرا تصور دون أن يتبنى هذا الكاتب موقفاً محددا مما يرى ويشاهد وبالتالي يدعو مداورة لإصلاح أي خلل يعتقد وجوده دون أن يصرح بذلك بطريقة إنشائية.

قال متحدث آخر:

في قناعتي أن الروائي بركة ساكن تحدث عن حالة تشظى الهويات. وأرى أن عملية التشظي هذه وخراب الهوية، رغم ما يظهر من جانب سلبي، فأنا أرى فيه إيجابية. إذ الخراب الشخصي، ليس بالضرورة أن يكون خرابا بالمعنى الشامل. فالإيجابية تظهر في كونه أخرجنا من جغرافية مكانية محددة إلى فضاء جغرافي عريض وهي جغرافية الغرب التي اضحت اليوم، ولأسباب عديدة ربما ما يسمى بالعولمة، جغرافية عالمية يتداخل فيها وعبرها كل العالم في حالة من التهجينhybridization  الأمر الذي يشكل تحديا جاداً لكل من لا يستوعب هذا التغير السريع.

فالأبعاد المكانية والزمانية بالنسبة لحسني درويش القادم من أسيوط في حالة تنافر وصراع، فهو القادم من وراء البحار ومن مجتمع لا حاضر ولا مستقبل في قاموسه سوى التشبث بالماضي بكل تجلياته السالبة غالبا، يكون عنصر كبح وفرملة تحول دون اقتحام دروب تتطلب جهداً لقراءة المجتمعات الأخرى وبالتالي الوقوع نهماً لتوجسات خطيرة تَعْقلُ كل القدرات الفردية من التفاعل مع من حولها.

قالت إحدى الحاضرات:

"عندي إحساس وشعور قوي أن هناك ثمة ارتباك خلقته الرواية، ايقنت معه أن في الواقع فعلاً لا تكون الأمور واضحة ويستعصي فهم كل شيء في الحياة، إذ هي ملأى بخطوط متعرجة. وعند قراءتنا لأي عمل روائي، علينا أن نفصل بين الكاتب وعمله الإبداعي حتى لا نقع في الاختلاطات الغير سليمة."

من جانب آخر، علق أحد الحضور:

"أن عبدالعزيز بركة في روايته الرجل الخراب، كما أظن قام بإجراء بحث إجتماعي قبل أن يشرع في كتابة الرواية، وتبدو الواقعية في جانبين إثنين: نلاحظ أن الأم في بعض مشاهد الرواية تصارع وتجتهد لتعلم وتدرس أبناءها وكذا مشاهد رحلته إلى أوروبا والتفاصيل المتعلقة بالسيارة التي ركبها والإمساك بصور تفصيلية هي مركز قوة الكاتب.

الجانب الآخر هو استخدام الكاتب لكلمات يندر التفوه بها لأسباب إجتماعية  ناهيك من إيرادها مكتوبة، من شاكلة ما أشار إليه ليخبر عن طبيعة عمله  ((مخريا  للكلاب)) هذه الجرأة اعطت العمل مسحة موغلة في الواقعية ومنحته مزيداً من الزخم الذي يغري على القراءة ومواصلتها حتى نهاية الرواية."

أهمية الرواية تكمن في كون كاتبها إنساناً عادياً يتسم بالعصامية قرر الانحياز إلى صف المهمشين في كل مكان فهي بهذا الفهم تعكس معاناتهم وآلام الضعفاء بقطع النظر عن جنسياتهم وخلفياتهم. من هنا تكون فكرة ترجمتها إلى لغات أخرى غاية في الفائدة ليتعرف الآخرون، وبخاصة في أوروبا والغرب عموماً، على معاناة المهاجرين الذين يكابدون مشقة الترحال وتحمل الجوع والعطش والمهانة، سواء في أوطانهم الأم أو في رحلة الهجرة للوصول إلى بلدان المهاجر.

ليس هذا فحسب، بل يكون من الأهمية بمكان، أن يقرأها أبناء المهاجرين الذين ولدوا وترعرعوا في الغرب ليدركوا مغزى إشكاليات الهوية الذي يعبر عن نفسه في واقع دائم الحركة اسماه بركة ساكن تشظي الهوية حيث العالم القديم بدأ يتصدع ويتكسر، وبهكذا قراءة يكون بمقدور أجيال المهاجرين تحصين نفسها من ضغوط الحياة وثقافات الغرب عبر التزود ببعض من هوية ومعاناة الآباء المهاجرين وبالتالي يتخلصون من عقدة مركب النقص الذي يدفعهم لإخفاء جذورهم."

في نهاية الأمسية وفي ختامها:

توجه الأخ عبدالعزيز موسى بالشكر للمبدع عبدالعزيز بركة ساكن لتواجده عبر خدمة الإسكايب لساعات وتفاعله مع الحضور متمنياً اللقاء به حضوراً شخصياً في قاعة المنتدى  في مدينة برمنغهام مع صدور روايته التالية (( منفستو الديك النوبي)) قريبا. انتهت جلسة شهر مايو 2015 وحتى لقاء آخر قراءة ممتعة ومفيدة.

للتواصل مع المنتدى ومتابعة فعالياته:

Email: bbookforum@gmail.com

Facebook: muntada

Twitter: Muntada alkitab

حامد ضرار30 مايو 2015 برمنغهام- المملكة المتحدة



2016/09/23

(منفستو الديك النوبي) لـ بركة ساكن: العودة للعوالم المضيعة

منفستو الديك النوبي لـ بركة ساكن: العودة للعوالم المضيعة


عاطف الحاج سعيد 
(عند مكانٍ يعرفه جيِّدًا في حياته السابقة، عند جزيرة «ناوا» وهي ما يُطلق عليها «جزيرة الروح» أو «واحة الروح»، ويعرف عنها حكاياتٍ كثيرةً وأساطير يشيب لها الولدان. هبط به الديك، انبثق في وسط الجزيرة جبل شامخ، وفي جانبٍ منه بوابةٌ بدت كما لو كانت بوابة قصرٍ عظيم، انفتحت البوابة مصدرةً صوتًا مثل هزيم الرعد، وعبرها دخلا، كان يمشي على رجليه، وهو عارٍ تمامًا، يتقدَّمه الديكُ، الذي يمشي في زهوٍ وخيلاء مثل طاووسٍ مغرور، كانت رياشه تلمع وتتلوَّن وتبدو بأشكال غريبة، وفي مرحلةٍ قادمةٍ انتصب الديكُ، وصاح صيحته تلكَ المُرعبة، التي يعرفها «فتح الله» تمامًا، وكانت تفجِّر مكامن الرعب فيه في حياته السابقة، الآن لا تعني له شيئًا، ولم تحرِّك فيه أية مشاعر، كانت كأن لم تكن. ربما لأن الموتى لا يخافون. ودار الديكُ مثل مروحةٍ عملاقةٍ من الريش، فتبعثرت رياشه في شكل عاصفةٍ ملوَّنةٍ لتغطِّي المكان كله...) 
منفستو الديك النوبي _ بركة ساكن 
بهذه اللوحة التي ترد في السِفر الأول من اسفار الرواية (سِفر الملوك) والتي يمتزج فيها الواقع بالاسطورة، وهي لوحة سينمائية مليئة بالحركة والإدهاش والإبهار، يمسك الروائي عبد العزيز بركة ساكن - بحرفية معهودة عنه-  بقارئه الذي سيلهث حتماً خلف السطور مستمتعاً بالمعالجة الفنية الروائية الرفيعة التي يقدمها بركة ساكن لثيمات وشخصيات روايته الجديدة (منفستو الديك النوبي). إنها آخر الأعمال الروائية للروائي بركة ساكن والتي ستصدر قريباً عن دار نشر تونسية. فيها يواصل بركة ساكن مغامراته السردية الشائكة. تدور احداث الرواية في جو فانتازي مبهر وبها يقدم بركة ساكن مقاربته السودانية للواقعية السحرية.
تحتشد الرواية بالشخصيات التي تتساوى تقريباً في أهميتها داخل الرواية، كل الشخصيات هي شخصيات رئيسية. مما يجعل من الصعب القول أن الشخصية الفلانية هي الرئيسة وبقية الشخصيات تستخدم كداعم لها. 
يقدم بركة ساكن الشخصيات التي يحتشد بها حي زقلونا عبر محاور سردية. كل مجموعة من الشخصيات تمثل محور سردي مكتمل ومفتوح في نفس الوقت عبر نفاج صغير على المحاور السردية الأخرى. 
ان البطل في هذه الرواية ليس هو جبريل كيري ولا فنح الله فراج  ولا غيرهم من الشخصيات التي تحتشد بها الرواية، البطل في هذه الرواية هو المكان. والمكان هو (حي زقلونا) فضاء المهمشين الكبير في عاصمة البلاد الكبيرة " كانت «زقلونا» في تلكَ الأيام منازل عشوائية من الخيش والكرتون والمشمَّع والقش، تزيلها السلطات نهارًا، ويُعيد بناءها السكانُ بالليل، إلى أن تعبت المحلية وقامت بتخطيطها وبيعها بأسعار زهيدة لآدميين فقراء سيطروا عليها بوضع اليد والإصرار والمماطلة". تضم زقلونا في رحابها مهمشي المدينة الكبيرة، تعيش فيها ماجدة بائعة الزلابية وجبريل بائع اللحمة الكيري وأنور سيدنا صانع السيوف والسكاكين وشيخ عبد الرحيم المعالج البلدي وكل أولئك الذين قدموا من الهامش للمركز الذي استقبلهم بغير ما ترحاب. 
تتناول الرواية كثير من الثيمات: الظلم الاجتماعي والتهميش ووضعية المراة في مجتمع متخلف والفساد والحرب والسلام والنزاعات القبلية، انها ملحمة روائية تهجو الفساد وسرقة كنوز البلد بعشوائية بليدة. 
يعود بركة ساكن، بعد مُفارقته لسير المهمشين والمضطهدين في السودان في روايته الأخيرة (الرجل الخراب)، يعود في روايته الجديدة ليجتر بحنين متأمل عوالمه الُمضيعة من منفاه في مدينة سالفدن النمساوية. وبعودته هذه يقدم لنا رواية سيُنظر لها حتماً على انها من أهم الأعمال الروائية السودانية والعربية.  ستبقى هذه الرواية حاضرة في الذاكرة الأدبية لروعة وجمال هندستها الفنية وللغتها العظيمة وللجهد الادبي الكبير الذي بذله بركة ساكن ليقدم لنا عملاً بمذاق خاص ونكهة مميزة!   

2016/09/21

عن الرجل الخراب


«الرجل الخراب» للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن: وهم التعايش مع الأخر وأزمة الهوية


تبر مسألة التعايش والاندماج بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية، خاصّة بالنسبة للمهاجرين العرب الذّين يعيشون في المجتمعات الغربية، مسألة جوهرية، فكيف يمكن التعايش بين ثقافتين مختلفتين تماما، ثقافة الغرب التي تؤمن بالحرية وبالفرد والمواطن والقانون ونقد المقدّسات وموت الله، وبين ثقافة مازالت ترزح تحت عبء الطائفية والقبلية ومسائل الحرام والحلال وجرائم الشرف وسطوة المقدسات؟ رواية «الرجل الخراب» لبركة ساكن تطرح هذه الأسئلة من جديد، خاصة بعد تنامي الإرهاب والعنف في أوروبا باسم الدين الإسلامي والدفاع عنه، من خلال رؤية نقدية مرآوية لشخصية حسن درويش المواطن السوداني المصري، الذي يهاجر هجرة غير شرعية إلى فيينا ويعيش هناك بوجهين، وجه ظاهر وهو التسامح والاندماج الكلّي، وبين ما يبطنه في داخله من عنف وكراهية لهذه الثقافة المغايرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بشرف ابنته.
قدّمها بركة ساكن في لبوس رواية تكفر بكل نواميس الرواية التقليدية، يدمج القارئ.. يعبث بسلطة الراوي ويتلاعب بكل الشخصيات والأدوار بمن فيهم القارئ، مستعملا أساليب مختلفة كالرمز والصورة الكاريكاتورية والفانتازيا «الرجل الخراب» رواية صغيرة الحجم صدرت مؤخرا عن دار هنداوي المصرية وتعرض لأول مرة في معرض القاهرة الدولي.

ملامح الشخصية المحورية

لعلنا لو أردنا الولوج إلى هذه الرواية وفتح أبوابها المضمونية والفنية، علينا بمفتاح جوهري وهو قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر والناقد والمسرحي الانكليزي الأمريكي اليوت، الذي لم يكتف بركة ساكن من ذكرها في الرواية واستلهام العنوان، وإنما عبّر كما عبّر اليوت في قصيدته عن شخصيات معطوبة ومأزومة، تسكن عالما خاويا ويعتريها فقر عاطفي وثقافي رهيب، هكذا كان حسن درويش الذي يمثل الرجل الخراب، ولعلنا قلنا الشخصية المحورية وليس البطل، لأنه في الحقيقة لا يمتلك من البطولة شيئا، هو رجل يحوم حوله الخراب من كلّ جهة، هرب من خصاء البوليس في مصر عند اعتقاله لانتمائه في سنواته الجامعية الأولى للجماعات الإسلامية ليُخصيَ نفسه بنفسه عندما هاجر إلى فيينا بانسلاخه الظاهري عن ثقافته والاندماج الكلي في المجتمع الغربي، ووصل الأمر به إلى حدّ تغيير اسمه من حسن درويش إلى شولز هاينرش «إلاّ أنّ درويشا او هاينرش منذ قدم الى النمسا في تسعينات القرن الماضي قطع علاقته بكل ما هو مسلم وعربي …
قد لا يريد أن يورط نفسه في تحمل ما يقوم به المسلمون والعرب في شتى أنحاء العالم من خير وشر.
التسمية: حتى إن حرص حسن درويش على تغيير اسمه عندما هاجر إلى النمسا إلا أن الكاتب بركة ساكن يسميه درويشا في الكثير من مواقع الرواية والدرويش هنا ليس بالمعنى الصوفي طبعا، ولكن بمعنى الفقير، فهو فقير في كل شيء يتنصل من اسمه ليبدأ من جديد من دون تاريخ «ولا يمكن ان نفسر تغيير اسمه إلى هاينشر، بأنه واحد من عمليات محو تاريخه الواعية جدا « لكنه يبطن غير ما يظهر.
طفولة هجينة: يعيش حسن درويش منذ طفولته من دون شهادة ميلاد، يعيش حالة الاختلاف والتمييز فهو سوداني لأم مصرية يعيش مع والدته في مصر بعد موت والده، وتتزوج والدته من مصري ليجد نفسه أجنبيا.
السلطات المصرية تمنعه من الوجود في مدارسها، كما انه يعتبر كذلك في السودان، «لذا كان خليطا معقولا من الثقافتين، ولو أنه كان هجينا مربكا في كثير من الأحيان خاصة عندما يأتي سؤال الهوية».
ثقافة هزيلة: حسن درويش يعترف بنفسه بضآلة ثقافته، فهو بالإضافة لدراسته للصيدلة لم يقرأ من الكتب إلاّ النزر القليل، إنما يعرف فقط بعض الآيات التي يحفظها من دون فهمها، ولذلك استغرب من الكم الهائل للكتب التي وجدها عند نورا النمساوية، التي ستصبح زوجته، والتي تقرأ كل ليلة، وتعرف أمهات كتب التراث العربي، «ألف ليلة وليلة وكتاب النبي لجبران» وغيرها، في حين هو لم يسمع حتى عنها, وهذه السطحية جعلته طعما سهلا للجماعات الإسلامية المتطرفة التي جندته بسهولة «هجانة ثقافتي كانت السبب الأول، الذي سهل انضمامي للجماعات الإسلامية… فما كان عندي الأدوات التي تجعلني أفرق بين الأفكار المفخخة ذات الوعي الزائف والأفكار الأصيلة..».
شخصية متناقضة: يصل درويش بعد سفرة شاقة وخطيرة إلى النمسا، كل غاياته أن يعيش في رغد من العيش في مجتمع يحترم الإنسان «ولكنك عندما تصل إلى أول دولة أخرى سوف تنسى كل شيء وتعيش كإنسان، إنسان حقيقي «يندمج درويش في المجتمع الأوروبي او هكذا يتظاهر، يغير كل تاريخه اسمه وارتباطه بالعروبة وبالإسلام، ولكن عندما يتعلق الأمر بشرف ابنته يظهر الرجل الآخر، الذي عبر المخيلة ينفذ ما تعلمه في مجتمعه العربي المسلم المنغلق الذي يعتبر شرف المرأة شرف القبيلة «ابنتي هي شرفي ومن يمس شرفي باللبن اجعله يستحم بالدم»، وهنا يظهر التناقض الصارخ بين ابتسامة الرجل المتحضر وتكشيرة الوحش الكاسر بداخله.
شخصية مسلوبة: لم يكن لدرويش عبر حياته شخصية أو موقف يذكر كان دائما تابعا ومسلوب الإرادة يُسيطر عليه بسهولة تامة، لهشاشة ثقافته وشخصيته، تابعا لزوجته يخاف منها ومن ردود أفعالها، رغم انه المالك للبيت ولمجمل الثروة التي يعيشان منها، وهي التي تركتها له أم زوجته التي عمل عندها في بداية سنواته في الهجرة.
هذه إذن ملامح الشخصية المحورية التي عبث بها بركة ساكن وجعلها مسخا، شخصية تستطيع تطويعها والتلاعب بها نتيجة بساطتها من جهة وعقده وثقافته الهزيلة من جهة أخرى فيجعله يعمل «مخريّا للكلاب» في سنواته الأولى في المهجر، ليس لأنها مهنة سيئة ولكن لأن درويش يستعار منها، وذلك لما لصورة الكلب في ثقافتنا من نجاسة شخصية يقزّمها لتناقضها الصارخ، ولهذه التشيزوفرينية التي يعيش بها شخصية مرضية يعطيها الكاتب النهاية التى يستحقها وهي السقوط في الهاوية وبالتالي الانقراض.

بنية الرواية والقضايا المطروحة:

لعل كل الروايات أو معظمها تبدأ بمقدمات وبتقديم الشخصيات، إلاّ أن بركة ساكن في هذه الرواية بدأ بمشهد الذروة التي يضع حسن درويش أو هاينرش في مأزق كبير يظهر فيه المستور ويعري هذه الشخصية، وهو المشهد الذي تخبره فيه زوجته نورا بأن ابنته ميمي التي تجاوزت الثمانية عشرة بأيام قليلة وجدت صديقا ستأتي به إلى البيت، ويمكن أن تكون هذه ليلتها الأولى.
هنا يتظاهر بابتسامة عريضة لكن تثور ثائرته في الداخل كيف سيقبل هذا الأمر « ولم تظهر شخصيته الإسلامية العربية الاّ حينما أصبح عليه أن يدفع الثمن من لحمه ودمه، والمقصود هنا ابنته، فكل ما هو بعيد عن الشرف يمكن التعايش معه «وفي الحقيقة هذا المشهد أعطى المجال لبركة ساكن للمقارنة الواضحة بين ثقافتين مختلفتين، واحدة تقدس الحرية وتعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة شخصية وتعطى للمرأة مكانة كبيرة وللطفل مكانة أكبر»، في الغرب الأطفال أولا ثم النساء ثم الكلاب..ثم الرجل»، وبين ثقافة مازالت تعتبر المرأة في مرتبة دونية، وتعتبر شرف العائلة، تزوج عنوة ومن دون استشارتها ولهذا فتح المجال لمخيلة حسن درويش في تخيل مصير ابنته لو كانت في قريته الصغيرة في ريف مصر، «درويش يسرح بخياله بعيدا في قريته مطاردا بفضيحة ابنته بالحسم وبما يجب عليه فعله، أي أنه يدير معركته هناك في ميدان القتال الذي يعرف شعابه وطرائق كرّه وفرّه ويمكنه ان ينتصر فيه بصورة نهائية وقاسية «والحقيقة أن بركة ساكن لم يتغاض في هذا العمل وفي هذه المقارنة الواضحة عن سلبيات المجتمع الأوروبي فتعرض للمشاكل الأسرية لتعاطي المخدرات وللفراغ الروحي الذي يشعر به بعضهم.
وفي المشهد الثاني الذي سنركز عليه هو مشهد السفر هجرة درويش إلى النمسا، وهنا يفتح بركة ساكن ملف الهجرة غير الشرعية، طرقها شعابها ومخاطرها، التي أجبرت درويش على السفر من أثينا إلى فيينا في شاحنة مع الخنازير، وما يلف ذلك من رمزية، وكانت الخنازير أفضل حالا من درويش وناديا صامويال التي رافقته في سفرته، وهي شخصية من رواندا ومن أقلية التوستي، وفي الحقيقة هي ردة اعتبار من بركة ساكن للتطرق لهذه الحرب وانعكاساتها التي عاشتها أقلية التوستي، التي تعرضت للإبادة الجماعية سنة 1994 من قبل الهوتو، الأكثرية الرواندية التي سكت العالم عنها، وهي إشارة منه بأن كل الحروب القائمة على أساس عرقي طائفي ديني وغيرها لا تخلف إلا الخراب والدمار النفسي والمادي، وناديا من ضحايا هذه الحروب التي جعلتها تعيش عيشة العاهرات والمدمنات والمهمشات، فقط لتهرب من الإبادة والموت وفي المشهد الذي كان مكثفا ودراميا لأقصى حد، يبين فيه بركة ساكن أنّ الإنسان في بعض المجتمعات، خاصة في أفريقيا والعالم الثالث لا قيمة له، وأن الحيوان أفضل منه بكثير. 
مشهد درامي أقرب إلى المشاهد السينمائية بموسيقى تصويرية تؤثثها الخنازير، وفيه لا يتوانى درويش في مراودة ناديا» تماما كما تفعل الخنازير الشبقة في القفص المجاور… وعندما أدرك ذروة نشوته لم يفكر كثيرا أو قليلا في مسألة العيب والفضيحة»، وهو ما يؤكد تناقض هذه الشخصية المخرَّبة.
هذه الشخصية المتناقضة والمسلوبة هي التي ستؤدي بنفسها إلى الهلاك، وهو ما يحيلنا إلى المشهد الأخير، حيث قرّر درويش قتل صديق ابنته توني، «كان لطيفا لكن لم يكن هاينرش يراه كذلك، كان في نظره وحشا جنسيا مخبولا «، في الحقيقة لم يستطع درويش أن يندمج مع المجتمع الحديث في النمسا، وبقيت ترسبات التربية المحافظة تنخر عقله، «ولكن من الخطأ تجاهل البنية الدينية وأثرها في تكوين شخصيته طوال حياته، حتى إن تنكر لذلك الآن» حاول إذن درويش قتل توني بعد دعوته وزوجته وابنته في نزهة جبلية، يحاول في غفلة منه أن يسقطه من أعلى الجبل، لكن توني يتعلق بالشجرة وينقذ حياته، في الوقت نفسه، تتخذ زوجته نورا القرار بإسقاط درويش وقتله.
نورا لم تحب هذا الشخص قط وإنما زواجها منه مجرد مصالح مادية، وتعترف انّ درويش دمّر حياتها بالفعل وسبّب عقدا نفسية لا حصر لها لابنته، وصنع منها مخلوقا بائسا، فالشك منهجه ودرويش لا يتردد في أن يستخدم يده لحسم أي خلاف، وهو كذاب يكذب في كل شيء وهي تعتقد أنها لم تقتله وإنما هو الذي جهز لنفسه طريقة موته وكانت هي أداة التنفيذ.

الشبكة السردية:

قلنا إن استلهام بركة ساكن في هذه الرواية لقصيدة إليوت» الأرض الخراب» واضحا، وبما أن هذه القصيدة مثلت منعرجا جديدا في الشعر, واعتبرت افتتاح لعصر جديد مع شكل جديد وهي القصيدة النثرية، فإن بركة ساكن في هذه الرواية أيضا عبث بالشبكة السردية المتعارف عليها في الرواية العربية، حتى الحديثة منها، وعمد بعبارة سليم بركات إلى نصب الفخاخ للقارئ، يلاعبه ويعطيه معلومات خاطئة ويحشره في السرد ويتحدث معه، يقول في الرواية «الرواية عمل مشترك بيني، باعتباري كاتبا وبين الراوي والقارئ والشخصيات، وبالتالي يخرج الكاتب عن كونه سلطة ليصبح شخصية بحد ذاته «فقد أصبح الرواة، خاصة الراوي العليم والراوي من الخلف وضمير المتكلم سلطة فوق سلطة الكاتب، الذي يظن نفسه قديما جدا الخالق الفعلي للنص والمتحكم المطلق في مصائر شخصياته «وحتى الراوي العليم في هذه الرواية يجعله لا يعلم كل شيء ويسلبه بعض الحقائق، ثم ينسحب الراوي أو السارد، لأنه لم يصل إلى رؤية مشتركة مع الكاتب، يقول في الرواية «خسرت الراوي، خسرته على الأقل الآن، لأننا لم نصل إلى رؤية مشتركة أو حل وسط».

الخاتمة :

تعتبر إذن رواية «الرجل الخراب» إضافة نوعية لأدب بركة ساكن تجاوز فيها المحلية والحديث عن مشاكل السودان وقضايا المهمشين أطفال الشوارع في «الخندريس»، الحرب الأهلية وانعكاساتها في «الجنغو»، والقضايا السياسية والإطاحة بالمعارضين في «العاشق البدوي» وغيرها، ليكون «الرجل الخراب» تعبيرا عن الوضع الدامي الذي تعيشه ثقافتنا العربية الإسلامية، وتنامي موجة العنف والإرهاب نتيجة عدم قدرتنا على تجاوز الماضي والعيش في العصر الحديث بجهالة القرون الوسطى، وإن لم نستطع المجاهرة بهذا التناقض القائم في ذواتنا لا نستطيع أن نتقدم.
وبركة ساكن كان جريئا جدا في تعرية هذه الذات المتناقضة والمغتربة والمخرّبة، ولعله اختار لها نهاية صادمة، السقوط والاندثار ليدق ناقوس الخطر إن لم نتفطن إلى ضرورة نقد تراثنا الإسلامي وتجاوز التربية الدينية المتخلفة، «الرجل الخراب» هي نقد وتعرية لهذه الثقافة التي ترفض أن تنظر إلى نفسها في المرآة وتدعي أنها الأفضل وأنها تمتلك الحقيقة، وهكذا يمكننا أن نختم هذه القراءة بقول درويش «كذبنا عندما قلنا إننا استثناء».

ناقدة تونسية

ابتسام القشّوري

2016/09/20

فرنسا : اختيار رواية مسيح دارفور من ضمن افضل 15 رواية

Les 15 titres retenus pour le prix Premier roman 2016


10 romans français et 5 romans étrangers concourent pour le prix du Premier roman remis en novembre par un jury de critiques littéraires.

Les critiques littéraires membres du jury du prix du Premier roman, présidé par Joël Schmidt et qui accueille cette année Gilles Puldowski, ont publié leur première sélection.
 
Dix romans sont en lice pour le prix du Premier roman français :

• Marie BartheletCelui-là est mon frère (Buchet-Chastel)
• Guy BoleyFils du feu (Grasset)
• Jean-Marc CeciMonsieur Origami (Gallimard)
• Gaël FayePetit pays, (Grasset)
• Adeline FleuryRien que des mots (Les Nouvelles éditions François Bourin)
• Frédéric GrosPossédées (Albin Michel)
• Maëlle GuillaudLucie ou la vocation (Héloïse d’Ormesson)
• Mathias LairL’amour hors sol (Serge Safran)
• Stéphanie Vermot-OutheninLa straniera (La Grande Ourse)
• Frédéric ViguierRessources inhumaines (Albin Michel)
 
Cinq romans concourent dans le domaine étranger :  

• Cynthia d'Aprix SweeneyLe pactole (Fleuve éditions), traduit par Anne Demour
• Davide EniaSur cette terre comme au ciel(Albin Michel), traduit par Françoise Brun
• Marco MaginiComme si j’étais seul (HC éditions), traduit par Chantal Moiroud
• Molly PrentissNew York esquisses nocturnes(Calmann-Lévy), traduit par Nathalie Bru
• Abdelaziz Baraka SakinLe messie du Darfour(Zulma), traduit par Xavier Luffin
 
Le jury se retrouvera lundi 10 octobre pour annoncer sa seconde sélection, et le prix sera remis en novembre (le lieu et la date restant à préciser).
 
En 2015, le prix du Premier roman français avait été décerné à Didier Castino pour Après le silence(Liana Levi). Dans la catégorie Premier roman étranger, le jury avait décidé de distinguer deux auteures : la Brésilienne Vanessa Barbara (Les Nuits de Laitue, Zulma) et l’Autrichienne Maja Haderlap (L’ange de l’oubli, Métailié).


2016/01/23

عبد العزيز بركة ساكن: الرواية مختبراً للتجريب 


يزن الحاج


بدت الرواية العربيّة منذ انطلاقتها كأنها تنطلق بمسارٍ عكسيٍّ مع الشّعر. كان الشّعر، برغم انتكاساته، أكثر تطوراً، وتناغماً مع الزمن المتسارع. أما الرواية، فكانت تحنّ دوماً إلى انطلاقاتها الكلاسيكية التقليدية، بحيث تبدو متخلّفة بمراحل عن زمنها، وبالتأكيد أشدّ تخلّفاً بما لا يُقاس مقارنةً بمثيلاتها الآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية، وتبدو للمراقب كأنّها تراوح مكانها دون حراك. بل يمكن القول إنّها مضت أبعد بحيث تصلّبت في تقليديتها، شكلاً ومضموناً، لتعاقب أيّ محاولة للتجريب خارج الحدود المكرسة، بخاصة المرحلة التجريبيّة الثرية الممتدة من أواخر السبعينات حتى بداية التسعينات. تكرّست تلك النزعة لاعتبارات شتّى، ليس أقلها العودة إلى «التراث» ومحاولة تأصيل رواية عربية متمايزة عن مثيلاتها ومستندة إلى الأعراف الأدبية القديمة، ثم تضاعف الأمر مع ظهور الجوائز الروائية التي رسّخت شكلاً شبه موحّد للروايات «المطلوبة» والتي كانت أغلبها تقليدية تذكّرنا بالروايات التأسيسية في الأربعينات والخمسينات. نجت روايات قليلة من هذه القولبة، وتجرأت على كسر الطوق المفروض عليها على صعيدي النقد والقراءة لتحاول تكريس رواية «جديدة» تُقصي نفسها عن القوالب الروائية الجامدة التي اعتاد عليها القارئ بتواطؤ من النقّاد. يُشفَع لهذه المحاولات أخطاؤها حتى عند التصاقها بالنماذج الأوروبيّة المتباينة، مع أنّها بدت أحياناً محاولات لتوسّل الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو دغدغة مشاعر المستشرقين بحيث يردّون إليهم بضاعتهم لكن بروحٍ شرقيّة.

لا تخرج رواية السودانيّ عبد العزيز بركة ساكن «الرجل الخراب» (مؤسسة هنداوي- القاهرة) عن هذا التصنيف. تُعيد إلينا هذه الرواية ثيمة صراع شرق-غرب، التي كادت تصبح مكرورة. ولكنّ الكاتب الذي كان واعياً لهذه النقطة، حاول التنويع على شكل الرواية بحيث تخرج عن التصنيفات السائدة ليوغل في التجريب إلى حد غير مسبوق عربياً. ليس ثمة جديد في حبكة الرواية التي تروي قصة حسني درويش جلال الدين (أو هاينرش شولز) في محاولاته للتأقلم مع النمسا والعادات والأعراف الغربية. درويش هو شرقيّ آخر يُضاف إلى ركام الشرقيين التائهين في الغرب. ليس ثمة مهرب من الصدام بين عقليته التي لم تستطع السنوات الطويلة كسر «شرقيتها»، والعقلية الغربية التي نجدها منفتحةً متطورة حداثيّة كما في جميع الروايات الأخرى. سنتذكر مصطفى سعيد وهجرته إلى الشمال؛ الفارق أنّ صراع مصطفى مع «الحضارة الغربيّة» والتهويمات الجنسية، تحوّل إلى صراع هويّاتي داخلي بين درويش وهاينرش؛ بين وعيٍ يحاول أن يصبح غربياً ولاوعيٍ يأبى التخلّي عن شرقيّته؛ بين تطبّع غربي وطبع شرقي. جميع التفاصيل الأخرى نافلة، بحيث تبدو مجرّد تنويع آخر على إيقاع قديم. ليس لهذا الصراع نهاية إلا بموت أحد الطرفين. وهذا الطرف هو الأضعف دوماً: الشرق.


ما يميّز رواية «الرجل الخراب» ليس الحبكة إذاً، بل أسلوب المعالجة الكتابية. اللغة، السرد، الشكل الروائي، رسم الشخصيات. والأهم، إخراج الراوي وتكريسه كاتباً آخر. تبدو الرواية كلاسيكيّة السرد للوهلة الأولى، لكنّ ساكناً يغيّر مواصفات هذه الكلاسيكية بحيث تستحيل تجريباً مفرطاً. تبدأ الرواية بكاتب لا يدّعي ابتعاده عن موضوع روايته، بل يقول بصراحة إنه يحكي قصة. ثم يفاجئنا الكاتب بتقديم الراوي ككاتبٍ ثانٍ أحياناً، وكشخصيّة أخرى أحياناً، بحيث نقضي شطراً جيداً من الرواية ونحن تائهون في صراعٍ آخر بين الكاتب والراوي. لم يكتف الكاتب بهذا، بل جعل الشخصيات كاملة الحريّة في رسم مصائرها، وسمح لها حتى في تحديد نهاية الحكاية/ الرواية. قبول هذا القدر من التجريب أو رفضه مرتبط بذائقة القراء المتباينة بالضرورة. لكن، ألا يبدو ترك الشخصيات لتقرر مصيرها ضرباً من المكر؟ ما الذي يبقى من دور الكاتب إذاً لو طرح لنا خيارات عدة على عدد الشخصيات بحيث يتحدّد مصير الشخصيّة، بل العمل بأكمله، على هواها؟ ألن يصبح الأمر ذريعةً بحيث يتمّ تعليق مصير إخفاق الرواية على الشخصيّات أو الراوي، لا على الكاتب؟ وفي الوقت ذاته، ألن يُعدّ نجاح الرواية من نصيب الراوي لا الكاتب، بخاصة مع إصرار الكاتب على مخاطبة قارئ أجنبي مُفترّض عبر ترجمة جميع المفردات التي يرى أنّ من سيترجم روايته قد يتعثّر بها؟ وأخيراً، ألن يصبح التجريب المفرط، لو تكرّر، بمثابة نموذج لا يلبث أن يصبح تقليدياً هو الآخر؟
جميع هذه الأسئلة مشروعة، ومفتوحة على إجابات متعددة ومختلفة باختلاف ذائقة المتلقّي. ولكنّها لا تعني أبداً بأنّ «الرجل الخراب» ليست متميّزة بقدر كبير؛ الرواية صغيرة الحجم بحيث تكون أقرب إلى نوفيلا برغم عدد الشخصيات الكبير بالمقارنة، وتطرح قضيّة لا تزال إشكاليّة، وتطرح شكلاً جديداً في الرواية العربيّة. جميع هذه الميزات تجعلها فريدة ضمن طوفان الروايات الضخمة التي تكاد تكون متماثلة؛ ومحاولة الخروج من جحيم التماثل يمكن اعتبارها فضيلة بحدّ ذاتها.

2015/09/15

رواية الرجل الخراب كاملة

 

        الرَجُلُ الخَرَابْ

 

 

 

                              عبد العزيز بركة ساكن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إهداء: "لأُمي مريم بنت ابو جِبرين.

للأصدقاء أحمد زكي، كريستينا ازنجر، جان دوست، ورودي راينر، إلي أمل الخاتم، لمستنير والمهاتما، لجمال عباس ومي التجاني وسَلمى أبو سمرة، لرحاب سُليمان وحاتم جريس، لأُختيَّ محاسن وإحسان، لعمر بركة ومحمد بركة والفاتح بركة وذكي بركة ومحمد عوض  كاجوك وحسن عبيد، لاستاذي صالح فرح ومعتصم المقبول، لاستاذيَّ كمال الجزولي ومبارك الصادق. ولشخصٍ عليه فضل كبير فيما أكتب: الا وهو  الشيطان الذي كان يشاطرنا بيتنا الصغير في القضارف وإلى وقتٍ قريبٍ كان يَكُتب ليَّ الروايات ويقول لي ما لا يِنْقَالْ.

 

 

 

                     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

"أنت، أيها القارئ المرائي! ياشبيهي، يا أخي!"

T.S.Eliot  الأرض الخَرَابْ

 

                 
                             رواية الرجل الخراب _1
 

 

                                          مُخَرِي الكِلابْ  

نورا شولز، تبدو اليوم أكثر  سعادة من أى   وقت مضى في حياتها، فقد وجدت ابنتها ميمي أخيرا صديقاً (ein Freund)، ليس لأن ميمي ليست جميلة ولكنها كانت غير اجتماعية ودائما ما يغمرها إحساس بالوحدة، أو أنها  هي التي تجد نفسها في الوحدة، وكلما تقرب منها شاب ارتبكت وعملت على الابتعاد عنه بقدر الإمكان، وقد تُسْمِعَهُ بعض كلمات غير لائقات أيضا. كان هذا يمثل قلقا كبيرا للأسرة الصغيرة، خاصة أن ميمي تبلغ الآن من العمر الثامنة عشرة عاما بالتمام والكمال، ولا تزال هدايا ميلادها الثامن عشر تتناثر في حجرتها، لقد تعبت أمها كثيرا في أن تقبل ميمي صديقا، وأنفقت في ذلك مالا كثيراً، حيث إنها  عرضتها مرارا وتكرارا للباحثين الاجتماعيين بالمنطقة وأخذتها أكثر  من عشرين مرة لاختصاصي نفسي بفيينا، كانت تقوم نورا بنفسها بكل ذلك، ولم تجد العون من زوجها حُسني درويش الذي اسمه الآن هاينرش "Heinrich"، فقد كان يرى أنه  لا داعي للقلق بشأن البنت وأنها مازالت صغيرة، وعليها أن تنتبه لدراستها ويفضل أن تدخل في علاقة جيدة القصد منها الزواج، فهو لم يقل ذلك مباشرة لزوجته نورا ولكنه كان يفعل كلما يعزز رأيه، لأن ذلك ببساطة سيدعم فكرتها المسبقة عنه بعدم مقدرته على الاندماج في المجتمع الأوروبي، وأنه ليس برأسه الكبيرة سوى خرافات القرون الوسطى. وعندما أخبرته نورا هذا الصباح وهي في غاية السعادة أن ابنتنا الطيبة قد حصلت علي صديق وسيم في عمرها، في الحقيقة يكبرها بشهرين، قال لها محاولا أن يضع ابتسامة كبيرة مزيفة على وجهه الحليق بدقة، تخفي أحاسيسه الفعلية وتظهره كرجل متمدن يستحقها

-ياااااه...... أخيرا كم أنا سعيد بذلك.

احتضنته نورا وقبلته بحنو ثم جلست قربه على الكنبة الفسيحة وأخذت تحكي له عن توني.

ليس توني شابا وسيما جدا، أنه  عينة الأشخاص الذين لا يمكنك أن تطلق عليهم لقب القبح، ولكنه مقبول على كل حال، أما ما يميزه عن شباب هذه الأيام أنه  مؤدب ومحترم ولا يتعاطى أيا من المخدرات بل لا يحتسي الكحول، يحب الموسيقى جدا، وهو أيضا   يعزف على الجيتار ويغني أحيانا، درس إدارة الأعمال في جامعة سالزبورج Salzburg، من أسرة ثرية بعض الشيء ووالداه طبيبان معروفان في المدينة، إذا  كان به عيب واحد، وإذا اُعتبر ذلك عيبا أنه  يترك شعره دون حلاقة ويحتفظ ببعض أظافره طويلة، ولا يؤمن بأي من الرسل، ولكنه يؤمن بأن    هنالك خالقا للكون ولكن ليس هو الذي يرسل رسلا لكي يخبروا الناس عنه، في رأيه أن الرب قادر على توصيل ما يريده مباشرة لمخلوقاته، ورب في استطاعته أن يخلق كونا بهذه العظمة والتعقيد، لا تصعب عليه حيلة ابتكار عملية سهلة وجيدة في التعبير عما يريد أن تكون عليه مخلوقاته، بل باستطاعته برمجتها على مشيئة جلالته، بالتالي ما يكون عليه الكون الآن هو بالفعل إرادة الله. وتعرف أن زوجها قد يكون متحفظا بعض الشيء عندما يعرف ذلك في يوم ما، قالت له:

- توني أيضا   لا يكره العرب!

وهذه الجملة الأخيرة أخافته بالفعل،  فلنقل إنها أربكته، ولو أن زوجته كانت تظن أنها  من الإيجابيات، إلا أن درويش أو هاينرش Heinrich منذ أن قدم للنمسا في تسعينيات القرن الماضي قد قطع علاقته بكل ما هو مسلم وعربي، نعم أنه  في الآونة الأخيرة أخذ   يسافر كثيرا لزيارة أسرته بمصر والسودان ويسمي ذلك في إطار العلاقات الاجتماعية والإنسانية لا أكثر، قد لا يريد أن يورط نفسه في تحمل ما يقوم به المسلمون والعرب في شتى أنحاء العالم من خير وشر، ولكنه أيضا   كان يفضل أن يبدأ حياته من جديد، من دون تاريخ، تماما من دون أى   تاريخ، ولا يمكن أن نفسر تغيير اسمه إلى     هاينرش Heinrich واحدا من عمليات محو تاريخه الواعية جدا، فهو لم يفعل ذلك إلا لأنه إذا  أراد أن يحتفظ باسمه العربي عليه أن يدفع ما يعادل اليوم مبلغ 500 يورو عن كل اسم أى   ألف وخمسمائة يورو إذا  أراد أن يكون اسمه حُسني درويش جلال الدين، هذا إذا  أقنع دائرة الهجرة أن جلال الدين هو اسم واحد، وإلا عليه دفع ألفي يورو كاملة، وكان يحتاج للنقود في أشياء أخرى، ولا يرى أن هنالك داعيا ملحا لخسارة مبلغٍ كبيرٍ كهذا، لذا لم يحتفظ بأي من أسماء أسرته أو حتى اسمه فاختار أول اسم ورد لذهنه وهو هاينرش "Heinrich" ثم أضاف إليه كلمة شولز وهو اسم أسرة زوجته، "وأراح واستراح"، فما يفيد الاسم وما الفرق بين شولز ودرويش، وهو ليس عالما له نظريات مسجلة باسمه ولا كاتبا له مؤلفات مهمة ولا موسيقيا أو شاعرا، ولا حتى من أسرة مشهورة ذات تاريخ ما يريد أن يحمل اسمها، كما أن شهاداته الجامعية لا أحد يعترف بها هنا، وليس له أبناء سيرثونه خارج هذه البلاد، وهو أيضا   ليس له ما يرثه، إذا، ليس باسمه ما يهم. عندما يذهب لبلده في زيارة ما، فإنهم سينادونه باسمه الحقيقي القديم وحينها ستتحقق الفائدة إذا  كان لاسمه فائدة تذكر. هاينرش Heinrich يحب أن يبتعد عما يسميه منطقة الغليان وسيرة الغليان بل رائحته أيضا، فقد بدأ حياة جديدة منذ زمن ليس بالقصير، ولا يريد أن ينظر للوراء مرة أخرى، إلا بريبة وظنون، فكلمة عربي هنا مرادفة لكلمة مسلم، ويفهم كثيرٌ من الأوروبيين أن الكلمتين ترادفان ثلاث كلمات أخرى  وهي: الثراء الفاحش والفقر المدقع والتطرف الأعمى.

قال لها:

- أنا لا أهتم بموضوع الديانات كثيراً.

قالت له في إصرار، وهي تنظر في عينيه:

- بل تهتم، لقد رأيتك تصلي، مرتين على الأقل، مرة عندما كنا في الغابة قبل عشرين عاما على الأقل، ومرة قبل شهرين عندما كنا على شاطئ النهر الصغير في فايس باخ  Weissbach

قال لها، وهو يتجنب النظر إلى     ابتسامة نصر صغيرة تتشكل تدريجيا في فمها:

- نعم وربما سوف ترينني أفعل ذلك مرات أخرى، أحيانا أحس     بأنني مدين لله خاصة عندما أرى جمال الطبيعة، فإنني أراه هنالك، لذا ليست صلاتي سوى تحية شكر وعرفان، لا أكثر  فهي لا تخص دينا بعينه، ولا تعني شيئا لشخص غيري.

سألته سؤالا مفاجئا ما كان يتوقعه:

- هل أنت ما زلت مسلماً؟

قال لها مبتسما:

- نعم. 

نستطيع أن نقدر عمر هاينرش "Heinrich" الآن بحوالي الستين عاما، وهذا اعتمادا على طبيب الأسنان ووثائق مكتب العمل، فهو لم يمتلك شهادة ميلاد، كل ما يعرفه عن تاريخ ميلاده هو شهادة أمه    بأنه ولد قبل حرب فلسطين التي وقعت بين اليهود والعرب بسنة كاملة، وكانت تقصد حرب 1948، ولكنها أيضا   قد تقصد حروبا سابقة لحرب 48 أو لاحقة لهذا التاريخ، أو العدوان الثلاثي علي مصر في 56، فذاكرتها مشحونة بحروب كثيرة، بعضها لم يحدث بعد، وبعضها حدث بعد وفاتها بعشرين عاما، وبعضها مجرد حكايات سمعتها من جداتها، وكان هاينرش Heinrich يعلم ذلك، ولكنه قرر لنفسه بأنه ولد في 1-1-1947، ووافقه بدرجة كبيرة طبيب الأسنان وحرر له شهادة بذلك، قدمها للجامعة من قبل ثُمَّ لمكتب العمل واعتمدها كتاريخ ميلاد رسميا له، والآن ينعم بالمعاش في ظل هذه الشهادة الواقعية وغير الصحيحة بالمرة، لأن عمره الفعلي غير ذلك، فهاينرش Heinrich قد ولد بعد ذلك التاريخ بعدة سنوات، أى   بالدقة في 30-10-1956، بالطبع لم يعمل بشهادة تقدير العمر التي استخرجتها له أمه    عند دخوله المدرسة بالسودان وهي أنه  مواليد 1-1-1950وإذا كنا الآن في سنة 2013، في شهر مايو، فإن عمره هو 57 عاما، وهذا غير مهم لأن لا أحد غير الراوي، العليم بكل شيء يعرف تلك الحقيقة، وسوف لا يعول عليها  كثيراً، ما عدا ما سوف يلاحظه القراء في الصفحات القادمة من الرواية، أن هاينرش Heinrich يقوم بأنشطة وأفعال أصغر من عمره المعلن بكثير، بل أنه  يأخذ المعاش الرسمي من الحكومة ويعمل في ذات الوقت في شركة ألبان مراقبا للتعبئة 25 ساعة في الأسبوع مع الاحتفاظ بصحة جيدة يحسده عليها كل من هو في عمره المُعلن وعمره الحقيقي أيضا، فمنذ أن قَدِم إلى     النمسا في 3-1-1992، لم يذهب للطبيب سوي مرتين، المرة الأولي إجباريا حيث أخذه مكتب الهجرة للفحص الشامل، والمرة الأخرى ذهب لطبيب الأسنان للتخلص من ضرس العقل المسوس. أما الطبيب البشري فلم يتشرف بزيارته إلى     اليوم بإرادته،( لم نضمن مرات ذهابه للطبيب البيطري، فلقد كانت كثيرة جدا وفقا لمهنته كمخري للكلاب مع الأم شولز.) لم يركب المواصلات العامة إلا ما ندر، أى   إذا  أراد السفر إلى     مدينة بعيدة، ولكنه يستخدم دراجة هوائية في كل مشاويره البعيدة والقريبة داخل المدينة، كما أنه  بعد أن أنجب ابنته الوحيدة ميمي في 30 ديسمبر 1995، اشترى دراجة خاصة بها مقعدٌ مريحٌ لها، وكلما كبرت في السن غيّر الدراجة بحيث تستوعبها أيضا   ولأن زوجته نورا أيضا   تؤمن بأن    الدراجة هي خير وسيلة للترحيل، فلم يجد صعوبة كبيرة في أن يعتمد على الدراجة في كل شيء، وعندما دخلت المدرسة الابتدائية كان للبنت عجلتها وحدها، فلقد "وافق شن طبقة" كما في المثل العربي. ويُرَجَّحْ احتفاظه بجسد رياضي أنيق لبركات الدراجة الهوائية ولا يُنسى في هذا الشأن ذكر حُبه للعمل واستيقاظه المبكر ولكنه يرى أيضا   أن عدم إفراطه في شرب البيرة، هو الذي هيأ له جسدا يخلو من الكرش تقريبا إلى     هذا العمر الطويل المُعْلن، والحقيقي غير المُعْلن، الأقل نسبياً.

رواية الرجل الخراب 2

بذلك، يمكن بسهولة للقارئ أن يعرف أن هذا اليوم هو نهاية الأسبوع لأنه اليوم الوحيد الذي يقضيه كله هاينرش Heinrich بالبيت، ولا يخرج منه مهما كلف ذلك، ويستطيع أن يتحايل على البقاء فيه بكل السُبل، فهو لا يدعي المرض مطلقا، لأنه لا ينسى حديثا للرسول الكريم يحذر فيه من ادعاء المرض، يحفظه عن ظهر قلب: "لاتمارضوا فتمرضوا فتموتوا". ولكنه قد يقول بصورة واضحة أنه  تعب جدا، ويشعر بحاجة للراحة، ولو أن زوجته نورا وابنته عرفتا عنه تلك الصفة البيتية إلا أنهما لم تقتنعا تماما لزمن طويل، وظلتا تتجاهلان رغبته تلك، وظل هو يصر على بقائه في البيت في اليوم الأول من إجازة نهاية الأسبوع، ثم أصيبت الأسرة كلها بداء البقاء بالبيت، وهذا يعني أن البنت موجودة الآن في البيت، ولكنها لسبب أو لآخر بقيت في حجرتها أو ربما لكي تعطي أمها وقتا كافيا لإخبار الأب بالتغيرات الجميلة التي تحدث لها، أو أنها  تفعل اللازم من أجل استقبال حبيبها. قالت له الأم:

- درويش، "وهي دائما ما تحب أن تدعوه بهذا الاسم لأنها تعلم أنه  الأحب إلى     نفسه ولو أنها  تنطق الراء بصورة أقرب       لحرف الغين، وأحيانا تنطقه غينا تماما، فيخرج اسمه من فمها، "دَغْوِيشْ"Derwech، وهو أيضا يحب أن تناديه كذلك، وفي الأيام التي يكون مولعا بها فإن تلك الغين تدغدغ قلبه بلذة ساحرة.

 - اليوم سيحضر توني للبيت.

قال منفعلاً:

- ماذا يريد؟

قالت ببرود:

- دعته ميمي.

- ولكن كيف تدعوه ميمي بغير علمنا، واليوم هو نهاية الأسبوع، ولم نكن مستعدين لذلك؟

- هي ليست دعوة بالمعنى المعروف، مجرد زيارة، أنه  لا يحتاج لشيء، تريده ميمي أن يتعرف بك أنت      بالذات، لقد حدثت الدعوة كما قالت لي ميمي بعفوية، لم يخططا لها، كانا يتحدثان في التلفون وقررا فجأة أن يحضر توني، وهذا قد لا يأخذ وقتا طويلاً، وأظن من اللائق تبادل بعض الكلمات مع صديق ابنتك، فأنا قابلته مرات كثيرة،  وسأعد لكم غداء سريعاً، ثم يبقيان معا، قد يحتاجان أن يكونا معاً، وأنا وأنت غير مطلوب منا أن نفعل شيئاً، سوى أن نبقى أبوين طيبين سعيدين بسعادة ابنتنا الوحيدة.

كانت جُملها غير مرتبة، وتشعر بأنها مرتبكة، وقد أحس     هو أيضا بأن    زوجته ليست طبيعية، همست له بصوت أكثر  هدوءا ونعومة:

- قد تكون تلك ليلة ابنتنا الأولى.

قال كمن لدغته عقرب:

- ماذا تقصدين بليلتها الأولى؟

قالت وهي تقترب منه:

- قد يفعلانها.

- ماذا يفعلان؟

قالت وهي تبتسم:

- لا أدري ولكن ما يرغبان في فعله، فهما حران في عمر يسمح لهما بفعل ما هو مناسب لهما.

صمت قليلا، يفكر(..............)

حسنا، أشعر الآن برغبة الراوي في التوقف عن السرد قليلا، وهذه مشكلة الرواية في هذا العصر بعدما استطاع الرواة الذين كانوا في الماضي شخصيات ورقية هلامية من صنع مخيلة الكُتَّاب، أن يسيطروا على مصائر الأعمال السردية وتكون لهم كلمتهم ووجهة نظرهم، بل حكت لي كلتوم فضل الله وإحدى صديقاتي الكاتبات أن راويا خبيثا في روايتها الجديدة، قد تحرش بها. بالطبع لم أصدقها، كثير ما يلتبس الأمر علي كلتوم وتضيع عنها الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال ولكنني لم أستبعد ذلك تماماً، فقد أصبح الرواة-خاصة الراوي العليم والراوي من الخلف وضمير المتكلم- سُلطة فوق سُلطة الكاتب، من يظن نفسه قديما جداً الخالق الفعلي للنص والمتحكم المطلق في مصائر شخصياته وأداة سرده التي في مقدمتها الراوي نفسه، مما أفقد الكتاب كثيرا من حيلهم الموروثة، بل ماء وجههم في بعض الأحيان ومقدرتهم على الخلق والإبداع، إذا  على رغبة الراوي سنتوقف هنا قليلا، وسيأخذنا إلى     ما يدور في مخيلة درويش أو هاينرش Heinrich في هذه اللحظات وكيف أن الرجل جالَ بخياله وصالَ، ولكن قبل ذلك من المفيد أن نوضح أن هاينرش Heinrich قد وضع في شفتيه ابتسامةً عريضةً وأنه قال وكأنه في غيبوبة أو نوم مغنطيسي، بما يعني أنه  سعيد جداً، وأن زوجته نورا فهمت ذلك.

كان الليلُ مضاءً بقمر نصف مكتمل، ونسبة للأشجار الكثيفة، فإن ظلالها تجعل الليل شبه مظلمٍ، القرية كعادتها تنام مبكراً، تبقى الكلاب وحدها مستيقظة لساعة متأخرة من الليل، ولا يتوقع أحدهم أن فردا من أسرته خارج مرقده، إلا إذا  كان في سفر وعاد متأخرا، أو كان في احتفال بمناسبة ما، وكثيرة هي المناسبات التي تقام في القرية في هذا الموسم بالذات، أى   موسم ما بعد حصاد الذرة، ولكن نسبة للحالة النفسية العابرة التي يمر بها درويش فهو لم يحتج لحبكة درامية جيدة تبرر خروج ابنته في هذا المساء وبقائها إلى     تلك الساعة من الليل خارج المنزل، بل لم يحتج إلى     أن يتخيل حفلا قرويا بهيجا في أحد أطراف القرية لدى بعض الأقارب ذهبت إليه    البنت وعادت متأخرة، أو أى   من الحيل السردية، فهو غالبا ما يصف نفسه بأنه علمي وله خيالٌ محدود، لذا عمل عقله بصورة مباشرة، ابنته ميمي تتمشى في الطريق الذي يمر عبر الحقول، كان القمر كما ذكرنا في بداية هذه الفقرة نصف مكتمل، والأشجار العالية الشوكية تصطف على جانبي الطريق كأنها جنود أسطورية تقوم بحراسة المشاة، تنمو بينها نباتات الحسك والبوص وبعض الأعشاب الموسمية الصغيرة، تعشش تحتها الفيران كبيرة الحجم التي تنشط ليلا عندما تخلو الطرق من المارة الذين قد يصطادونها إذا  ما وقعت عليها عيونهم الشرسة، لا أحدا يأكل الفئران في القرية، ولكن لا أحدا يستطيع أن يقاوم متعة قتل الفئران، فهي في كل الأحوال عدوة ومضرة بالزرع والممتلكات الشخصية، ويُشاع بين السكان أنها  السبب الأساسي لمرض الطاعون وفيروس الكبد الوبائي أو ما يسمونه باليرقان. هذا المكان الذي تخيله موجودٌ بالفعل في قريته، أى   أنه  لم يجتهد كثيرا في استدعائه، ولكن أيضا   علينا هنا توضيح أن هذا المكان الذي تسير فيه ابنته الآن ذكريات كثيرة، بعضها جميل وبعضها غير محبب لنفسه، وهو دائما ما ينسى تلك التجارب المُرة غير المستحبة، وقد يحتفظ بالجميلة، ولكن الراوي العليم بكل شيء كما هو الآن في هذه الرواية يعرف حدثا مهما وقع لدرويش في هذا المكان بالذات، ولقد نسيه درويش تماماً، وإذا خطر بباله ذات يوم عندما تمارس الذاكرة ألاعيبها الصغيرة على البشر وترميهم بأثقالها، قد يظن أنه  حدث وقع لشخص ما آخر لا تربطه به صلة، فابنته تمشي بصورة عجلة وهي تتلفت خلفها بين الفينة والفينة كما يفعل الناس عادة بينما يسيرون في الظلام في مواقع المخافات، ثم تتخذ طريقا جانبية صغيرة عادة ما يتجنبها القرويون بالليل، وهي ذات الطريق التي وجد فيها هو نفسه قبل ثلاثين عاما رجلا غريبا عن القرية مقتولاً، تبين فيما بعد أن أخيه الأصغر هو الذي قام بقتله لسبب تعلم به كل القرية ما عدا الراوي العليم بكل شيء، طبعا لم يبلغ عنه الشرطة حتى يكفي نفسه شر الأسئلة البوليسية اللئيمة، طالما أن بعضهم سيفعل في وقت ما، ولكن في الحقيقة لم يفعل ذلك أى   من سكان القرية، وبقي الرجل هنالك لزمن طويل جدا، نهشت جثته الكلاب والقطط السائبة، أكلت منه النسور وبعض الغربان، إلى     أن تعفن، ثم تحلل، ثم أصبح هيكلا عظمياً، وبعد ذلك أسهمت الريح والأمطار والحكايات وصروف الدهر في بعثرة ما تبقى منه في الأزمنة والأمكنة، ولكن عُرِفَ ذلك الممر الضيق بممر الرجل المقتول. درويش يرى الآن أن هذه القصة ليست سوى إحدى الأساطير التي يختلقها العقل الجمعي ذو الخيال الخصب المنفلت في أحايين كثيرة، ولكن الراوي هنا يؤكد أنها  حدثت بالفعل، لولا أن حكاية هذا الرجل المقتول ليست هي موضوع السرد لانبرى الراوي في الإتيان بالأدلة التي تؤكد وجهة نظره بطريقة فنية مقنعة للقارئ، بل لكاتب الرواية نفسه، لأن كاتب الرواية يميل لظنون البطل الأساسي وهو درويش، بالتالي يشك في حدوثها.

 كانت ميمي فتاة بيضاء، ليست مثل أمها ولكنها ليست في لون الأب الأسمر، وهي نحيفة على نموذج صديقاتها العصريات، لها شفتان مكتنزتان أو كما يحلو لبعض الرواة القول مثل كرزتين كبيرتين وهو الشيء الذي يميزها ويجعلها أكثر  جمالا من كثيرات حولها، طويلة ولها شعر شديد السواد، ولكنها هنا كانت في لونه أى   بُنية بدينة، تلبس جلباباً قروياً جميلاً، لها شعر ذهبي قصير، تفوح منها رائحة عطر بلدي أقرب       لعبق الياسمين، أنه  يغمر أنفه الآن.

عندما سمعتْ البنتُ هاتفا يناديها أسرعت الخطى، تلفتت للمرة الأخيرة، ثم مضت في اتجاه الصوت بينما زادت دقات قلبها، وتعرقت كفها وهي تحس بنشوة عارمة تجتاح كل خلية من جسدها، خليط من الخوف والشعور بالأمان وهو الإحساس المجنون الذي ينتاب المرأة عندما تلتقي برجل على انفراد أول مرة، ذات مساء به نصف قمر، في الزقاق الذي تنمو أعشابٌ موسميةٌ على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم: طريق الرجل المقتول.

قطع حبل خيالاته صوت زوجته نورا وهي تسأله إذا  كانت لديه رغبة في تناول بعض القهوة أجابها بكلمة واحدة

-اشناب "schnaps".

قالت مندهشة

- هل تشرب اشناب بالنهار، ماذا حدث لك؟

قال كمن يتحدث في الحلم:

- احتفالا بالمناسبة السعيدة.

قالت وهي تمضي نحو دولاب الخمور

- أنا أيضا   سأتناول البعض معك، أنه  يوم غير عادي، دعنا ننتشي قليلاً.

نريد أن نوضح هنا شيئا آخر، وهو أن هاينرش Heinrich يخاف من ردود أفعال زوجته وابنته، ولا يثق تماما أنهما قد لا تترددان في رميه في الشارع في أية    لحظة، بعيدا عن البيت الذي يمتلكه هو وحده، وهذا ليس مجرد تخيل منه، ولكنه حدث بالفعل قبل خمسة أعوام، حينما دخل في ثورة غضب- وهي الأخيرة بالطبع- وضرب ابنته في خدها بظهر كفه، وما كان من الأم إلا أن استدعت رجال الشرطة الذين أخذوه مباشرة للحبس، وتم حرمانه من الاقتراب من بيته إلا بعد إخطاره بذلك – أعادوه بعد شهرين- وأُدْخِلَ في برامج متابعة نفسية شديدة القسوة لعام كامل. وأصبح يؤمن بحقيقة تلك المقولة الشهيرة هنا، حول من لهم أولوية الحماية، كالآتي:

 (الأطفال أولا ثم النساء ثم الكلاب إذا  كان بالبيت كلب أو القطط في حالة عدم وجود الكلب، ثم الرجل)

الحمد لله أنه  لم يكن لديهم كلب بالبيت ولا قط، (فقد تخلص من الكلبين اللذين ورثهما من المرحومة أم زوجته نورا، السيدة لُوديا شولز، عندما كان يعمل معها كمُخَرِي للكلاب Die Hunde shitter، أودعهما بعد وفاتها مباشرة ملجأ الحيوانات الأليفة التي لا كفيل لها). كما أنه  كرجل أجنبي مشكوك في سلوكه ودرجة اندماجه المجتمعي"Assimilation oder Aufnahme"، وتحيط به الظنون، فقد يحتل- في هذه الحالة - موقعا بعد السيارة مثلاً. ولكن فوق ذلك كله يعلم أن نورا تحبه وابنته أيضا   تحبه جدا وهو يحبهما.  ولكن القانون لا يراعي أية    فضيلة للمحبة، ويعمل بصورة ميكانيكية، وعليه بالظاهر كما عليه أن يحافظ على الأخلاق الأوروبية المكتسبة عبر سنوات طويلة من نضال الإنسان ضد الظلم والتمييز ضد المرأة ومصادرة الحريات الشخصية وغيرها، أو كما لقنه المُرشد الاجتماعي، وهي خطبة طويلة مملة مكرورة ولكنها جادة جداً، وعليه أن يحفظها عن ظهر قلب إذا  أراد الاحتفاظ بأسرته. هنالك أيضا شيء جدير بالاهتمام وهو شخصية زوجته نورا وفقا لتاريخ حياتها الذي يعرفه جيدا_ سيتطرق الرواي لذلك بالتفصيل فيما بعد_  عليه أن يحذرها وألا يركن لما يظهر منها من تعاطف وعاطفة وحسن عشرة وسلوك، في عمقه لا يظن أن الإنسان يمكن أن يتغير بهذه السرعة الرهيبة، من متشرد إلى       مستقر يشبه الأمر لديه كتحول محارب غوريللا إلى        سياسي مدني في رمشة عين، كما حدث لزوجته نورا، يحدثه قلبه بأن    الأمر غير طبيعي، أو أنه  لا يفهم كثيرا في البشر، أو أن الإنسان الأوربي له بُنية نفسية غير تلك التي يعرفها عن البشرعامة. قالت له نورا وهي تضع كأسا بها اشناب مقطر من زهرة الهولوندا، ذلك ما يفضله دائماً:

- بعد خمس دقائق سيكون توني هنا، سيصل عند العاشرة.

وقبل أن يرد مرت ابنته أمامه في اتجاهها للحمام، لم ير شيئا مختلفا فيها اليوم، ولكنها كانت سريعة في حركتها بعض الشيء أو كما خُيِّل إليه، ترتدي فستانا قصيرا جميلاً جديدا، لم يره من قبل، الجزء الأعلى من صدرها عارٍ تماماً، حَمْلق فيها قليلا قبل أن تختفي في الممر الذي يقود للحمام، صَبَّ الكأس كلها في حلقه في جُرعة واحدة، وطلب كأساً أخرى، ثم دارت في رأسه  الدوائر:

كان قد خلد للنوم، مثل كل من في القرية، ولكنه استيقظ على صوت ابن عمه الأمين ود النور يصيح قرب رأسه، ويطلب منه أن ينهض بسرعة، أخبره بالأمر في ثوان معدودات وكلمات محددة وحادة، كأنها مُعدة منذ قرون لكي تُقال في مثل هذه المناسبة الثقيلة على القلب، لم يستفسر كثيراً، فقط مَرَّ على حجرة ابنته، في الجزء الآخر من البيت، أضاء النور لكي يتأكد من أنها  ليست هنالك بالفعل، فوجد سريرها خالياً، ولم ير أيضا   حذاءها، مر أيضا   مرورا سريعا إلى     المكان الذي تنام به زوجته، في البرندة الصغيرة التي تقع بين المطبخ وحجرة ابنته. سمع شخيرها وهي عادة اكتسبتها بعد أن أصيبت في أنفها في حادث صغير قبل عدة أعوام. عاد للديوان حيث ينتظره الأمين بعينين محمرتين من الغضب، عليهما دموع متحجرة حامية، على الرغم من الإضاءة الخافتة بحجرته إلا أنه  استطاع أن يتبين مدى غضب ابن عمه وتأثره بالحدث وهو ما يجب أن يكون عليه وجهه في تلك اللحظة الفاصلة في الحياة، حيث إن شرف الأسرة يغوص عميقا في الوحل، الفضيحة التي سوف لا يغسلها غير الدم. قال جملة واحدة سريعة، وكأنه يخاطب العالم كله الذي يبحلق فيه الآن وينتظر رد فعل شجاع وتاريخي منه هو بالذات وفي هذه اللحظة:

- سندفنهما أحياء.

بينما كان يأخذ سكينته الكبيرة من تحت المخدة ويمتشق عصاه وبطاريته. خرجا وهما يهرولان في صمت ظاهري وضجيج عنيف في صدريهما، نحو الزقاق الذي تنمو أعشابٌ موسميةٌ على جانبيه، المتفرع من الشارع العام الذي يطلق عليه القرويون اسم: طريق الرجل المقتول.