2012/10/08

فصل من رواية “مسيح دارفور”


طِرْ


القوة العسكرية المنوط بها حسم الأمر لا تتجاوز ال66 جندياً، وفريقا كبيراً من النجارين المهرة وشبه المهرة تم جلبهم بالقوة من نيالا وكاس وزالنجي. في الحقيقة كان هذا العدد كاف جدا للقضاء على ثورة نبي كاذب كما تم وصفه من قبل القادة الميدانيين وبعض الساسة الضالعين في إطلاق الألقاب الجيدة، كل قوته التي لا تحمل أي من الأسلحة هي 15 رجلاً وامرأة واحدة. وما يسمونه بالنبي الكاذب هذا قد أحيا في الجُمعة الماضية، أربعين شخصاً من الموت، وشكَّل من ريشة واحدة غُراباً حقيقياً جميلاً وقال له طِرْ: فَطَارَ.

الشخص الذي صمم طريقة القضاء على الرجل، كان يمتلك خيالاً خصباً يُحْسَد عليه، كما انه يتسم ببرود أعصاب وإصرار علي القتل بصورة مُدهشة، وكان عليه أن ينجز الأمر بأسرع ما يمكن، وخاصة بعد أن تناوله الناس المروجون من المتربصين بالحكومة الوطنية في الفيسبوك والتويتر والمواقع الالكترونية العميلة مثل الراكوبة وسودان فوراول وغيرهما، كما أن الأمم المتحدة التي تدخل انفها في كل شيء فيما يخصها وما لا يخصها تتداول النقاش مع بعض الدول على إرسال مبعوث خاص لمعاينة موضوع النبي الدافورى الغريب كما أسمته الصحافة الغربية، من قربٍ كافٍ ورفع تقرير بذلك، كما أن الجماعات التي أعلنت إيمانها المطلق به حتى قبل أن تعرف تفاصيل دعوته، تتجمع الآن من كل أنحاء العالم وتسير في قافلة عملاقة نحو دارفور،عليه أن يقطع الطرق أمام هذا وذاك ويقوم بالتخلص منه بقتله، ولكنه يريد أن يقتله بطريقته الخاصة، بأسلوبه الذي يحب، يريد أن يختار له نهاية تليق بأسلوب ادعائه، يقول إنه المسيح، ليس متشبها به، وليس داعيا بدعوته، وليس احد تلامذته، ولا مريديه وليس المسيح الدجال ولا المهدي المنتظر، ولا برمبجيل، يقول إنه السيد المسيح بلحمه ودمه، وبهذا يستحق صلباً حزيناً بائساً يجعل كل من يحاول أن يدعي النبوة- وهم كُثر في هذه الأيام- أن يفكر ألف مرة قبل أن يعلن ذلك.

كان النجارون وأشباه النجارين مشغولين في صنع خمسة عشر صليباً من أفرع أشجار السنت المقطوعة حديثاً الصلبة وعليها بقايا الشوك، كانت صلبانا ثقيلة، يحاولون أن يجعلونها أثقل ما يمكن، يختارون السوق الأكثر رطوبة، المروية جيدا بماء الأنهر البعيدة في عمق الأرض، يضعون حولها دعامات ثقيلة من سوق أُخرى أكثر ثقلا، يدقون في أعماقها مسامير غليظة من الحديد الصلب ذات نهايات حادة، ويتم تذكيرهم بين وقت وآخر أنهم قد يُصلبون على ذات الصلبان التي يصنعونها الآن إذا لم تكن جيدة الصنع، كان النجارون وأشباه النجارين مجتهدين، يصِلون الليل بالنهار، أمامهم ثلاثون ساعة لا غير، العساكر لم يكونوا على أهبة، ولم يصبحون كذلك، لا يمكن أن يؤذي من لا سلاح له، بل من يقول انه سوف يبارك قاتليه؟ فكانوا لا يكفون عن لعب الورق، والشجار حول من الذي صنع البندقية الكلاشنكوف؟

الجنود ال66 شرسون، حاربوا في كل بقاع السودان، كانت لهم صولات وجولات في الجنوب والشرق والغرب، وقد يقاتلون في ميادين أخرى من ارض الوطن الحبيب، وهنا تكمن خطورتهم، أنهم متخصصون في القضاء على ثورات مواطنيهم بالذات، أي مثل القطط التي تأكل أبناءها، وتهرب من نُباح كلب الجيران، الجنود ال66 مدججون بأسلحة ثقيلة وخفيفة، دبابتين، ناقلتين للجنود وعربة لاندكروزر مزودة بدوشكا، يلفون رؤوسهم ووجوههم بشالات ملونة وكأنهم فرسان من قبيلة الطوارق، من الخطأ التعامل معهم وكأنهم شخص واحد، هم يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض، في النشأة، والموطن، استخدامهم للسلاح، حبهم للحياة، وفي فهمهم للحرب، بل في إيمانهم بالقضايا التي يحاربون من اجلها، أسرهم،عشيقاتهم وأحبائهم، من له أبناء وبنات ومن هو أعزب ومن ليس له غير نفسه، حبهم للحياة، مقدراتهم على التضحية بالروح والدم، فال66 جنديا، هم في الحقيقة 66 إنسانا، يكتشف ذلك من يقترب منهم أكثر، من يستمع لنبض قلوبهم، من يتحسس جريان الدم في شرايينهم، من يستطيع أن يدخل أصابعه في جيوبهم ويلمس لزوجة فقرهم وحرمانهم، الجنود ال66 مستعدون لتنفيذ الأوامر في الحال.

إبراهيم خضر، ليس هو القائد الميداني، كما انه ليس صاحب قرار في مصير الرجل، وهو أيضا ليس من مهمته إقناعه وقيادته إلى جادة الطريق، كان مكلفا بفهم آراء الرجل، وكتابة تقرير وافي عن ذلك، لا أكثر ولا اقل، تحت عنوان وإرشادات معطاة مسبقة، ولا نريد منك أكثر من ذلك، وليس من ضمن تلك الأسئلة القائدة سؤال مثل: هل هو نبي أم لا؟ كان بوده أن يُسْأل مثل هذا السؤال، ولكنهم للأسف يعرفون ويؤمنون بأنه ليس نبيـا فآخر الأنبياء في الدين الإسلامي هو النبي محمد (ص) وآخر الأنبياء عند الدين المسيحي هو السيد عيسى المسيح أما البوذيون والصوفيون وغيرهم فيتمسكون بمقولة: كل عقل نبي، ويفتحون بذلك الباب واسعا لكل من هبَّ ودبَّ. الذين أرسلوه في هذه المَهمة، لا يخطر ببالهم مجرد خاطرة أن يكون هذا الرجل نبياً حقيقياً، أو كما يقول هو عن نفسه: عيسى ابن الإنسان.

وكان الجنود يلعبون الورق، يشربون المريسة اللذيذة التي يصنعونها من بقايا خبز الطعام وأشعة الشمس الحارقة، كانوا 66 جنديا، ينضوون تحت كتيبة جاءت لدارفور من شرق السودان، لذا يسمونهم الشرقية، شعارهم خنجر، عندما تراه تحس به يتوغل في جسدك، يخترق جلدك، ليقبل قلبك الخائف قبلة أخيرة لا فكاك منها، ليسوا بجة جميعا، بل في الحقيقة ليس من بينهم بجاوى بالمعني الدقيق، يعني أن البجة بهذه الفرقة الصغيرة عددهم خمسة أفراد، ليست لديهم شعور كثة، وليست بوجوههم أوشام، كتلك التي لدى جدودهم منذ ما قبل مملكة كوش، اقصد تلك الخطوط الثلاثة الأفقية، التي تشير للرب وهو في ذلك الزمان الفيل حيث انه كان اكبر المخلوقات حجماً، للأرض، والسماء. الشرقية بها تشكيلة من كل سكان السودان القديم والحديث، يوحدهم شيء واحد، وهو أنهم شجعان ولا يعصون الأوامر وإنهم يلعبون الورق في هذه اللحظة.

أما النجارون وأشباه النجاريين، فكانوا مرهقين جدا وناقمين وليسوا سعداء بالمرة، ولم يخفف عنهم دوام العمل الطويل المُمِل العمال المائة اللذين الحقوا بهم، وهم قاطعوا الأشجار الذين يتولوا توضيب الأخشاب،  الذين يثبتون المسامير في مواضعها، وطارقو  المسامير الحديدية الحادة القاسية، وصانعو  الطعام والشراب، الذين يرفضون رفضا قاطعا صناعة المحرمات مثل المريسة، كما أنهم ليس لهم خبرة في صنعها، كانوا لا يعرفون لم يصر القائد الميداني على صناعة الصلبان، أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومن يتبعه بالرصاص، نعم انه مزعج ومخيف ويصدر ضجيجا مرعبا، ولكنه سيريحهم من صُنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة، الثقيلة، كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئاً عن يوسف النجار، وحدثهم خطيب صلاة الجمعة، إن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم، لأن الله رفعه للسماء وانزل بدلاً عنه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود وهم يظنونه عيسى ذاته، لِمَ يصر هذا العسكري على صلبهم، بينما لم يُصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذاً ما ذنبنا نحن النجارين؟

العسكر ال66 لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم، أنهم من اسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق، وتقيم الصلاة أيا كانت في الكنيسة أم في الجامع أو في أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تُقْتَل النفس البشرية، وانه حرم ذلك، ولكن من يطلق الأوامر هو من يتحمل الذنوب والخطايا التي تُرتكب في الحرب، أنهم سيطلقون الرصاص إذا أمروا بذلك ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هو القائد الميداني وهو الوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر، إنهم يعرفون ذلك جيدا، وهذا اخطر ما في الأمر لأن ضمائرهم ستصاب بالموت، بالخدر البارد مثل الطين المخلوط بماء آسن، أي أنهم عندما يذهبون إلى منازلهم بعد كل معركة، سوف لا يحملون في ظهورهم أوزار موتى أبرياء أزهقوا أرواحهم قبل ساعات قلائل، القادة الميدانيون بدورهم يحمِّلون جرم ما يفعلون لقادة اكبر يتسكعون في المركز، يستحسنون شُرب القهوة المعطرة بحدائق أوزون، وبيرة بافاريا على شاطئ النيل الحبيب، وهؤلاء يقولون إن القاتل هو من أشعل الحرب، أي ذلك السياسي الرقيق الذي ينام في بيته مع أطفاله بعد أن يغني لهم بعض التبتبات ويرضي زوجته المتبرمة بأوقية من الذهب الخالص، والسياسي الحصيف، يقف وراء المايكروفون قائلاً: أمريكا وإسرائيل– وأخيرا أخذوا يضيفون حكومة جنوب السودان- وراء هذه الحروب، بذلك يكون قد ولغ من الدم ما يُشْبِع روح غول رحيم.

النجارون وأشباه النجارين، يصنعون الصلبان في مقاس واحد فقط، وهو يصلح للجميع، نساء ورجالاً، يعملون عليه بصورة نظرية، فليس لديهم تصور على كيفية عملها، لأنهم لم يروا ذلك من قبل، بل لم يشاهدوا صورا لأشخاص مصلوبين، لقد أُعطوا المقاسات من طول وسماكة الأخشاب وقوتها وعدد المسامير ونوعها، وفوق ذلك كله طُلب منهم أن يقوموا بدق المسامير على المصلوبين فيما بعد، لا يوجد أكثر حرفية من نجار في دق المسمار، أليس كذلك، ومن الأحسن أن تكون أنت من يَدُق المسمار وليس من يُدق المسمار في جبهته وكفتي يديه، وواحد طويل وسميك في منتصف الصدر.

الرجل ومحبيه ومؤيدوه كانوا يجلسون في مكان مجهول لدي الجميع، بما فيهم العسكر الذين جاؤا لقتلهم والنجارون الذي يصنعون الصلبان وإبراهيم خضر إبراهيم نفسه، ولكي يتضح هذا اللبس، دعونا نلقي نظرة على المكان، وهو عبارة عن موقع لقرية قديمة تم حرقها وإزالتها من الوجود قبل عامين، تقع في وادي عميق خصيب، حولها سلسلة جبلية مستطيلة، تحيط بنصفها الجنوبي والغربي، يوجد في لصق الجبل الغربي منبع مائي صغير، وكان هو من الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه، وإنهم فيما بعد جلبوا إليه بضعة مئات من الجمال لترعى فيه مع بعض الأسر، ولكننا الآن لا نرى إي من هؤلاء الجنجويد وأسرهم، لقد قضى عليهم الرجلُ بكلمة واحدة، قال لهم اذهبوا نحو بلدكم: فاخذوا جمالهم وأطفالهم ونساءهم وعادوا للنيجر، تركوا بعض بعر الإبل وقليل من الوبر متناثرا هنا وهنالك، ورائحة بول ماشيتهم ظلت عالقة بالهواء لأيام معدودات ثم زالت أو أنها لحقت بهم. هكذا بكل بساطة ويسر، على مبعدة من النبع ببضعة أمتار تُوجد مغارات كبيرة وصغيرة، وهي بقايا ثكنات دولة الداجو القديمة في قرون ما قبل الميلاد، مرسوم بها تفاصيل حياتهم اليومية، أنهم يقضون وقتا طويلاً بالداخل، لا يدري احد ما يفعلون، ولكنهم يخرجون في صبيحة كل جمعة، ويبقون في ظل راكوبة كبيرة منصوبة بين الأشجار التي تحيط بالنبع، وفي هذا المكان والزمان سيجدون جنودنا في انتظارهم والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي.

النجارون وأشباه النجارين تعبوا من معالجة الأخشاب الصلبة الحمراء، استعانوا بالأغنيات التي تذخر بها ذاكراتهم المملوءة بنشارة الخشب، فحيح المناشير وانين الأشجار، بالنسبة للكثيرين منهم أن هذه المهمة التعيسة قد توفر لهم كثيرا من المال أو بعضه بالقدر الذي يمكنهم من توفير مصروفات منزلية ملحة ظلت عالقة في حبال المشيئات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر، وقد تبدو بسيطة تافهة لدى البعض مثل أحذية الأطفال، أو ثوب جديد للزوجة التي لا تملك سوى بعض الأحلام، قل بيتا صغيرا، أو تحسينات في القطيات القديمات، أو سروالاً جديداً لطفل كبير: قد  يعطوننا مالا كثيرا. أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان وان المال الذي سوف يجنونه من ذلك هو مال حرمته مؤكدة،يقيسون في لا وعيهم بتحريم الإسلام للخمور، فما حُرّم شُربه تقطيره حرام بالتالي ما حرم لبسه فحرام صنعه، وهاهم يفعلون ما حرم الخالق، ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن: يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رؤؤسهم.

 الجنود ال66 والنجارون وأشباه النجارين، لا دخل لهم بما يدعيه الرجل من نبوة أو إلوهية أو ما يشاء، وما تنوي الحكومة من نوايا تجاهه، هو لا يضر بنا بشيء كما أن ما تنويه الحكومة لا شان لنا به، ولكنهم كانوا لا يسألون أنفسهم مثل هذه الأسئلة، اقصد أنها لا تخطر ببالهم، بمعنى آخر، أنهم لا يمضون بها إلى حيث نهاياتها، لم ينالوا فيما قبل المعرفة التي تمكنهم من صياغة مثل هذه الأسئلة، لقد حالت أسئلة اليومي دون أية أسئلة أخرى، أسئلة أكثر جمالا وتعقيدا، أو بالإمكان القول: لقد حيل بينهم وبين الأسئلة الفعلية أو طرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخصهم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرار  في نهاية المطاف.

سمعوه يقول فيما بعد:

السجانُ هو سجين باختياره، والصليبُ لنا، ولمن صنعه.

ويقول أيضاً:

لا يصبح حراً من لا يستطيع أن يتبين أسئلته.

وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرارا مثل طيور السمبر، ولم يتحدث يوما عن الإجابات، لأنها كما علموا: متغيرة.

في الجمعة السابقة خرجوا من أوكارهم وتمشوا قليلاً ناحية ما كان في الماضي وسط القرية، وقف الرجل عند كوم تراب عليه بعض الحجارة، قال لأصحابه، بلغة دارفورية قديمة يجيدونها جميعا عربا ودارفوريين:

من منكم يرى ما بداخل هذه الكوم من التراب؟.

كانت مريم، تلك المرأة الجميلة التي سُميت فيما بعد بمريم الحبيبة، ومن قبل سماها القائد العسكري المتمرد شارون بمريم المجدلية، قبل أن تتركه وتنضم لجماعة الرجل. قالت له:

أنا لا أرى شيئاً.

وكذلك أكد بقية أصحابه أنهم لا يرون شيئاً، قال لهم إن بإمكانهم أن يروا إذا أرادوا، وكانوا يريدون ولكنهم لا يرون شيئاً، وقال لهم أشياء كان يقولها كثيرا، تخص الموت والحياة والإنسان وقدراته غير المتناهية، وفي تلك اللحظة هبت ريح خفيفة، كانت بها ريشة طائر، هبطت الريشة على كتف احد أصحابه وكان يقف قريبا منه، أي بينه ومريم الحبيبة، اخذ الريشة، لونها رمادي تميل للسواد، كانت أشبه بريشة غراب أو طائر سمبر صغير، قال لهم:

- إن الريشة هي الطائر.

 وبينما كانوا مندهشين ينظرون، إذا به يرسم غرابا على الأرض، يضع الريشة في مكانها المناسب، بل الصحيح، تنمو بقية الرياش في أماكنها بالقرب من الريشة الأولى، تكتمل بنية الرياش، من ثم يظهر المنقار، القوائم، المخالب، إلى أن اكتمل الغراب، يبتسم، ثم سألهم:

- هل منكم من يستطيع أن يجعل هذا الغراب يطير؟

 قال رجل من الأعراب اسمه حامد:

-لا أظن أن احدنا يستطيع ذلك.

فقال للغراب:

- طِرْ.

 فطار الغراب وحلق بعيداً، تقلب في الفضاء مستعرضاً جناحية وسواد أرياشه، نعق مخترقا  السماء الصافية نحو الشرق إلى ما لا يدرون، إلى أن اختفى عن دائرة نظرهم جميعاً، فقال لهم:

- إذا كان قد قال أي منكم  لهذا الغراب كما قلت له لفعل، كل ما ينقصه هو كلمة: طِرْ.

وقال لهم:

-إذا كانت الريشة تدري الكلمة، لقالتها لنفسها، فجمعت أشلاء الجسد الذي كانت تنتمي إليه، استدعت دمها ونعيقها، وروحها وطارت، لما انتظرت مجيئُنا لحظة.

وظن الكثيرون انه قد يعني بذلك أن الكلمة في الأحياء كما هي في الأشياء.

وقال لهم:

اعدوا العدة للموكب.

وما كانوا حينها يدرون ما هو الموكب، ولكنهم أخذوا يعدون له العدة.

وقال لهم:

الموكب الموكب.

كان النجارون وأشباه النجارين، مشغولين بصناعة الصلبان الثقيلة، الجنود ال66 يلعبون الورق، والرجل يعلم الكلمة للمؤمنين به وللكافرين على حد سواء، ويعدهم للموكب، لا يدرون متى قال لهم:

 الكُفرُ يا أحبائي درجةٌ بالغةُ التعقيد من الإيمانْ