2009/06/30

(من كتاب ) ما يتبقى كل ليلة من الليل


سوف لا يُدَّقُ الجَرس الإلكتروني اليوم، سوف لا يُدق، والريح الطائعة السكرى سوف تتجنب العبور وإهداء صفيرها المجاني، لأنها تحتفظ بالأشياء من أجل أن ترقص على أفرع الشجيرات الحذرة ..

كانوا يكتبون الجوابات للصبيات تحية لاستدارة أطرافهن وانتباه أجسادهن وفي ذكرى اللقاءات التي لم تتم..

أنا أكتب إليك لا لأجل هذا ولا ذاك، فقط لأنني اتخلص من سحرك برسمه على جدار الكهف ثم رميه بالحجارة الحادة واحاطته بالتمائم،أحمد أبو جميزة الذي تعرفينه الذي خلص أبي من القيد وحرره ثلاثين مرة في يوم وأحد، كنت وأصحابي الأطفال نهتف خلفه وهو يحمل (كُوكَاباً) ويحارب الضالين كنا نشجعه مندسين في طفولتنا وأحلامنا الصغيرة ومن كُرات ثمار العُشر نصنع قنابل الغد ونهديها إلى أفراس أبي جُميزة الصافنات، وهي تطحن الغبار الحار وتمزجه بعرق الجند الفقراء.. تخطف الدم من شرايين العدو قطرة قطرة..

لا يمكن لأية سيدة أن تأخذ نقطة حبر وتدعي النبوة وتَسْجَحْ في رشاقة وغنج، وأنا لا تدهشني وسوسة النسرين ولا جموحك ، لا تبطل تميمة أجدادي السحرة تلك البسمة الممطرة، لأنني ببساطة أعرف أين مكمن الجهل في علم العالم، واتبصر بذات ايروسيتك علم الجاهل بدأب النملة وصبر السيالة: أحدق..

هنا، أينما يممت وجهك أنت تصلي نحوي ثم، قد لا، أجد مبرراً لنزعهما معاً في آن وأحد، أن يمسخني الحب عبداً وأن أحمل نفسي في قفاف السوقة وأدعو الناس أن اشتروني، من أجلك تبقى الفراشة زهرة تحلم بالطيران..

أليس بالإمكان فعل ما هو أكبر من الحب والعاطفة والجسد وضفائر تسدلها البنت آخر الليل لرجل تمزق أحشاءه أقلام كثيرة؟! أليس هناك ما هو أقوم وأدق وأمتع وأجن وأفسد وأحن وأصلح من الجسد؟! أليس بالإمكان أن يتكور الصوت الآتي عبر هواء الأقمار قناة تخلقها ذبذبات اللغة قليلاً فقليلاً تخرج من أذنيّ إلى أرض الكوخ بلا تاريخ أو أقطان ورطانات بلا وطن، عارية كالصوت أقبلها وألثم غفلتها وانبهها على كفي، على صدري، على شجري، على الدنيا.. على كرسيك اقرأها ضلالاتي وأفسدها وأفسدني وأبني في صباحاتي لها ظلاً، بئيساً، قصير العمر لا يُغني ولا يَفنى..

ما لديّ سوى ذهب مغشوش بالرماد يسميه العاشقون الصدق.. واسميه: أمل.. ما لديّ سوى ما يتبقى كل ليلة من الليل يتجنبه السكارى في نباح الكلاب وحذر القطط..

ما لديّ هذا المطر الذي يأتي من النهر خلف كوخي بين شارع المدرسة ومنازل بائعي النيفة الباردة، على الريح..

لديك القليل الذي يدرك ما لم يدركه الكثير الكثير.. مثل شرارة الجمر التي سرقها برومثيوس..

لديك هذا الحلم، سوف تقتسم نصف الرغيفة ونصف الأغنية ونصف الرغبة.. والنصف الآخر، الذي يخص البحر وحده نهديه إلى جنيات الماء العذراوات..

وما يخصنا.. للسحابة..

ـ (أظننا وحدنا الآن)، وهذا القمر أعمى لا يشتم الرائحة..


وحدهُ يَبْقى الشاعرُ

مِنْ الليلِ

أجل، أبيعك بقبلة، يا سيدتي وورقة نحاس صفراء، تلوحين لي من بعيد شاكرة أم غاضبة لا أفهم، يداك تعرفان السر، أصابعي تتفقدان حموضة الشجرة وتتوهمان ـ بين لحظة وأخرى ـ أن ينفجر الكنز المسحور ينثر أقماراً كثيرة وبرتقالات وزيتوناً وزيتاً!!

لا يدهشني القطن الأسود، سوف تثارين وتَقبلين ثمن القبلة ملحاً.. والمجد الذي يبنيه الأطفال على الرمل الذهبي.. بالتأكيد في شكل قصور وقطاطٍ وذرة شامية ـ مجد لا يقاس بمسبار اللحظة أو اللذة أو حتى طنين الجسد..

بقدر ما يوحي لي الحبر أحبك، حباً كثيراً يكفي قشلاقاً حدودياً من الطمأنينة وسر الليل، قد نتبادل نشوة الجسد ونحتفي بالروح ونهتف على بقايا الورق والأصباغ والأصدقاء بما يكفي من سخرية ولكنا أبداً لا نكتفي من الحنين الأسود الزاهي، لا يكفي الليل كله ولا المرقد وسقسقة ماء الحياء الحار، تنامين على كفي طوال العمر وتحلمين مثلك مثل العصافير الصغيرة..

العمر كله ثم الأقمار بين نهديك دون هدي أو سكرى، مثلي يبللها العرق النقي الحلو فتموء الأصابع الرشيقة، تأتي أقمار لا تعرفها الأقمار إلا بالندى، ترضع الأطفال ـ وهم يكبرون ويزدادون سواداً ـ ويبقيني الحرس خارج أسوار المدينة موسماً بعد موسم اتحمل ثقل الريح ونهيق الرعد وحوحة البرق المشاكس على أسوار المدينة ، حدي أحبك..

أسمع الآن طنين الصمت وأرى كما يرى الحالم ذراعيك تبرزان من بين السواد تُلَوحان في الهواء وتقبضان لا شئ أو الملائكة الذين يوجدون حيثما ، يحصون لحظات الجسد الخفيفة طازجة بآلاتهم الحاسبة، وأحدة تلو الأخرى..

هي ذاتها دهشة كل شئ يحدث للمرة الأولى، هي ذاتها مأساة أن ينتهي..

هي..

ذاتها..

أن نعيش لنهدم ما بناه الميتون، كم قبلة تبقت من هذا الليل، كم لمسة ساق وعنق، وشوشة إبطٍ حنون، كم نخلة تنتظر عند الباب مولد يسوع، يحترق جذعها شوقاً لرعشة متوحشة تنطلق عبر خلايا الجسد كعنكبوت مسحور، أطرق أبوابِ المُدن التي تحاصرنا، أنادي جميع الحراس بأسمائهم وألقابهم وكنية حبيباتهم ونسائهم وأقول لهم: إني أعرف كيف يسمون أطفالهم وإني أفهم سر بنادقهم التي لا تطلق النار أبداً ولكنها تخيف وتقتل وتسرق الدم من الشرايين؟!..

حينها يفتحون البوابات، تستيقظ العصافير والوطاويط والعناكب المتوحشة فاستقبلها بأحضان عطشة، تطل امرأة تبدو دائماً في الظل وشهية تحت ضوء الشمس وعفر الرمال..

آهـ.. سبعون عاماً وغداً يومٌ جديد، له شمس مكرورة وذات الآذان وثغاء البقر، وله ظلُ ذات الشجرة البعيد.. سوف يتمطى هذا الصباح بيني وبينك، رامياً بأجنحته الكثيرة في الفراغ الأخضر والطين والحر والراديو وما تبقى لي من بخور مسحور.. لا شئ يبقيني مستيقظاً غير ذاكرة الطين الحار تزحف مثل جيوش النمل المشؤوم..

كم قبلة تبقت من الليل.. كي يصير ليلاً، كم نشيد وبوليس يذرع الطريق المظلمة غادياً ورائحاً في خوف فطري، كم أنثى.. كم لحظة عميقة تحسبها الملائكة دهراً ونيف..

كم أغنية؟!

كم حبيبة حافية تخوض النهر ثم تجلس على ضفاف لا اسم لها تمشطها حوريات القاع السحيق بزيت الماء ويدلكنها برمل الشطآن الشهي تحت عرديبة اسميها عندما ـ نلتقي ـ نفح وردة الكَرَبْ المنسية.. وتحكي..

)على أنهار سيتيت..

حيث جلسنا..

وبكينا(

مثلك يا حبيبتي ينبع النهر من العاصفة وتخونه حدأتان فتلقيان به إلى الأرض حيث الجنة التي يصنعها ويصبح موضوعاً لها.. ما تبقى من الليل قبلتان.. غمزةُ نجم، شرطيٌ نعسان، بقيةُ ماء في الكأس، وردة تذبل تدريجياً، شظايا عطر تبرقُ هنا وهناك، ضفائرٌ مبعثرة على الفراش، وقلم، فارغ..

و ..شاعرٌ.. ينام وحده على قهقهة المروحة العجوز..