2015/03/19

الرجل الخراب التخريب الخلّاق للبنية السردية - عاطف الحاج سعيد






دُشنت الرواية الجديدة للروائي السوداني الكبير عبد العزيز بركة ساكن الموسومة بالرجل الخراب في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي انعقد في الفترة من 28 يناير الى 12 من شهر فبراير 2015 بأرض المعارض الدولية بمدينة نصر. وتصادف انعقاد المعرض مع زيارة أقوم بها للقاهرة لذلك استطعت أن أتحصل على الرواية في اليوم الأول من طرحها للبيع. أعدت مؤسسة هنداوي للثقافة والتعليم، الدار الناشرة للرواية، حفلا لتوقيع الرواية في يوم الخامس من فبراير كان من المفترض أن يحضره بركة ساكن ولكن لظرف ما لم يتمكن ساكن من الحضور للقاهرة ونتيجة لذلك تم الغاء الحفل وطرحت الرواية للبيع مباشرة للجمهور.

من المعلوم أن الروائي بركة ساكن قد انضم منذ أكثر من ثلاثة أعوام الى قائمة الطيور السودانية المهاجرة (أو المُهجّرة!) خارج أرض الوطن وأنه اختار دولة النمسا مقراَ لإقامته، وتمثل هذه الرواية أول الأعمال الأدبية التي يكتبها من منفاه هذا، وسيكون تأثير تجربة النفي والهجرة واللجوء والاحتكاك بثقافة أخري مغايرة تماماً لتلك التي تربي في كنفها ماثل للعيان عند قراءة هذه الرواية. وأري أن هذه الرواية هي ثمرة مباشرة (دون اختزال بكل تأكيد لميكانزيم الكتابة الإبداعية في المعايشة والمعاناة المباشرة) لتجارب معرفية وحياتية ومعايشة عن كثب لظروف الهجرة غير الشرعية لأوروبا ولأوضاع وظروف وهموم المهاجرين والتي يأتي على رأسها موضوعة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة والتي تمثل الثيمة الأساسية التي بنيت عليها الرجل الخراب.

حظيت الرواية باستقبال طيب من الفعاليات الثقافية العربية في مختلف البلدان العربية وفي مصر على وجه الخصوص مع تجاهل شبه تام لها من قبل وسائل الاعلام السودانية وهو أمر ليس بمستغرب نظراً للسجال الطويل والمستمر بين بركة ساكن والمؤسسات الثقافية الرسمية فيما يتعلق بحرية النشر ودور الوصايا على ذوق القارئ السوداني الذي تقوم به هذه المؤسسات بإصرار غير مستحب في مثل هذه الاحوال. وكُتبت الكثير من المقالات مرحبة بالرواية ومعرفة بها ومنها الاستطلاع الموسوم ب: الرجل الخراب .. رواية المتناقضات بين العرب والغرب الذي قام به الأستاذ محمد نجيب محمد علي لصالح الجزيرة نت والذي قدم فيه للرواية واستطلع كاتب الرواية عنها كما استطلع عدد من المثقفين حول الرواية وصدورها. ولكن يبقي المقال النقدي الذي كتبته الناقدة التونسية ابتسام القشوري المعنون ب: الرجل الخراب للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن: وهم التعايش مع الاخر وأزمة الهوية والذي نشر في صحيفة القدس العربي اللندنية يوم 11 فبراير 2015 أي بعد ستة أيام فقط من صدور الرواية، يبقي هو الأبرز في تناوله لهذه الرواية حتى الان رغم اختلافنا معها في بعض رؤاها وتحليلاتها وهو خلاف لا يفسد للود قضية. يجب أن نشير ايضاً الى أن هناك مقال استبق النشر الرسمي الرواية كتبه الناقد عماد البليك الذي كان قد اطلع على مسودة الرواية وعنّونه ب: بركة ساكن وخيانة الرواية في "الرجل الخراب" ونشره بصحيفة ورق الالكترونية في يوم الثاني من يوليو 2014.

قبل الخوض في غمار هذه الرواية يجب أن نشير الى أن الرقابة على المطبوعات في السودان قد اضرت ضررا بليغا ببركة ساكن وهو امر نتفق عليه جميعا ، فمازالت اعماله الإبداعية على قائمة الحظر مما حجّم كثيرا من تواصله مع جمهور مهم جداَ ألا وهو جمهور القراء في السودان، ربما مسألة الرقابة هذه وقناعة عبد العزيز باستحالة قبول السلطات لتداول هذه الرواية في السودان وبيعها في المكتبات ربما دفعه هذا الامر لجعل أجزاء كبيرة من الرواية متاحة عبر الشبكة العنكبوتية لجمهور القراء حتي قبل صدورها في نسخة ورقية، فهو قد قام بنشر جزء منها بتاريخ 27 مايو 2014 أي قبل سبعة أشهر من صدور الرواية في نسخة ورقية من دار هنداوي وتم هذا النشر في صحيفة التغيير (صحيفة الكترونية سودانية) تحت عنوان فصول من رواية جديدة : فاكهة الليل ويقابل هذا الجزء الفصل الأول من الرواية في النسخة الورقية والمعنون ب: توني لا يكره العرب والذي يبدأ من صفحة 11 وينتهي في صفحة 22. كما قام بنشر جزء اخر من الرواية بتاريخ 26 يوليو 2014 على مدونته الشخصية تحت عنوان فصل من رواية الرجل الخراب اخر اعمال الروائي عبد العزيز بركة ساكن ويقابل هذا الجزء الفصل الثاني من النسخة الورقية الموسوم ب: مُخرّي الكلاب الذي يمتد من صفحة 23 الى صفحة 33. كما قام أيضا بنشر جزء اخر من الرجل الخراب بتاريخ 28 أغسطس 2014 على موقع صحيفة التغيير الالكترونية تحت عنوان تفاصيل الرحلة الى أوروبا على شاحنة خنازير! ويغطي هذا الجزء الصفحات من صفحة 39 الى صفحة 44 وهو ما يمثل جلّ الفصل الثالث من النسخة الورقية والذي يمتد من صفحة 35 الي صفحة 44 والموسوم ب: درويش.

وواضح كذلك أن لهذا النشر الالكتروني المبكر لأجزاء من الرواية هدف اخر، وهو هدف تسويقي مشروع يستهدف سودانيي الدياسبورا وغيرهم من الذين بمقدورهم الحصول على الرواية من الدار الناشرة سواء بصورة مباشرة او عبر البريد.

تقع رواية الرجل الخراب في 122 صفحة من القطع المتوسط، فهي اذاً من الروايات القصيرة دون أن يكون لحجمها أي تأثير بكل تأكيد على قيمتها الفنية. تتوزع الأحداث فيها على أحد عشر فصلا تكاد تتساوي في عدد صفحاتها. تحمل فصولها العناوين التالية بالترتيب: توني لا يكره العرب، مُخرّي الكلاب، درويش، الفضيحة، الأجنبيُّ، السيدة لُوديا شولز، البنت والأب، سيرة المرأة، حوار من أجل البنت، الفصل الأخير، الرجل الخراب. وهي عناوين مباشرة تلخص محتوي الفصل المعني ومجري أحداثه أو تمهد للقارئ مدخل مريح للفصل المعني.
يبتدر الروائي بركة ساكنه روايته ببيت شعر يقول: أيها القارئ المرائي، يا شبيهي، يا أخي! وهو البيت الأخير من قصيدة الي القارئ للشاعر الفرنسي شارل بودلير وهي القصيدة الافتتاحية لديوانه الأشهر أزهار الشر التي يقول مقطعها الأخير:

إنه الضجر، تلك العين المغرورقة بدمع لا إرادي
تحلم بالمشانق وهي تدخن النارجيلة
تعرفه، أيها القارئ، هذا الوحش الرهيف!
أيها القارئ المرائي، يا شبيهي، يا أخي! C’est l’Ennui, l’œil chargé d’un pleur involontaire,
Il rêve d’échafauds en fumant son houka,
Tu le connais, lecteur, ce monstre délicat,
Hypocrite lecteur, mon semblable, mon frère !

وهو استهلال لا يخلو من دلالات رمزية، كأني بالروائي يقول لقارئه: أنت أيها الماكر تعرف مثلي الكثير لذا لن العب معك لعبة الايهام، فأنا سأكون موجودا بجانبك وسأكون شفافاً بما يكفي معك وسأحميك من الاعيب هذا الغاوي إن كان في الإمكان نعت الراوي العليم بذلك. سيتضح هذا الأمر عند استعراضنا للبنية السردية المُخرِبة التي تتفرد بها هذه الرواية والتي تمثل الرهان الأساسي للكاتب بركة ساكن.

كما أن استلهام بركة ساكن لقصيدة ت. س إليوت الموسومة بالأرض الخراب هو أمر مشحون بالدلالات العميقة. فقصيدة الأرض الخراب (أو اليباب في ترجمات أخرى) مثلت نقلة نوعية فارقة في كتابة قصيدة الشعر في القرن العشرين من حيث الشكل والموضوع. يستلهم أجواء هذه القصيدة ليحكي لنا حكاية الرجل الخراب أو درويش السوداني من جهة الأب المصري من جهة الأم النمساوي بالتجنس فيما بعد وكيف أن أزمة الهوية التي لاحقته في كل مكان ذهب اليه وفشل مشروع اندماجه في المجتمع الأوروبي وفقاً للشروط التي يفرضها ذلك المجتمع، كيف حوله كل ذلك الى رجل ملعون ومُخرّب. يصور الروائي بركة ساكن وبحرفية عالية الكم الهائل من الصراعات والتناقضات التي تعتمل داخل هذا الرجل. ويبدأ بركة ساكن أحداث الرواية من ذروتها، من نقطة الغليان، من النقطة التي وصل فيها الصراع داخل درويش أو هاينرش الى ذروته. عندما أعلمته زوجته النمساوية نورا شُولز أن ابنتهما ميمي اقترنت بصديق وان البنت ربما تمارس الجنس مع هذا الصديق الليلة:

"همست له بصوت أكثر هدوءاً ونعومة: ~ قد تكون تلك ليلة أبنتنا الأولى!
قال كمن لدغته عقرب: ~ ماذا تقصدين بليلتها الأولى؟
قالت وهي تقترب منه: ~ قد يفعلانها.
~ ماذا يفلان؟

قالت وهي تبتسم ~ لا أدري، ولكن ما يرغبان في فعله، فهما حُرّان في عمر يسمح لهما بفعل ما هو مناسب لهما" ص16.
يمثل هذا الحوار علامة فارقة في حياة درويش أصبح عندها مشروع اندماجه في المجتمع النمساوي على المحك، مشروعه الذي من أجله عمل مُخرّيًا للكلاب بالرغم من أنها في ثقافته نجسة وملعونة وتخلى عن أسمه ليصبح اسمه رسمياً هاينرش شُولز بدلا عن حسني درويش جلال الدين وتزوج من نورا شولز المسيحية المشردة من غير محبة ليحصل على الجنسية وعاهد نفسه ألا ينظر للوراء ويبتعد عن سيرة الغليان لكن يأبى الغليان إلا أن يتبعه.
تدور الرواية حول شخصية رئيسية واحدة هي شخصية درويش والتي تحيط بها شخصيات ثانوية كثيرة منها السيدة لُوديا شُولز التي عمل عندها درويش مُخرّياً لكلبيها أول وصوله للنمسا وعند موتها أوصت له بمعظم تركتها، ثم شخصية نورا شولز أبنة السيدة لُوديا شولز التي كانت تعيش حياة أشبه بحياة المشردين بعيدا عن أمها ثم تزوجت بدرويش بعد وفاة أمها في صفقة يحصل بموجبها درويش على الجنسية النمساوية مقابل أن تشاركه نورا في تركة أمها. ثم ميمي أبنتهما وصديقها توني ذو الأصول اليهودية. ثم هناك شخصية صلاح سعد الاريتيري نصف المخبول والمقيم في نزل المهاجرين غير الشرعيين في اليونان ثم شخصية ناديا صامويل الرواندية التي تنتمي الي أقلية التوتسي والتي رافقت درويش في رحلته من اليونان الي النمسا داخل شاحنة تقل خنازيراً. وهناك أيضاً الشخصيات التي التقى بها درويش في معسكر اللجوء الأول ومنها السوداني الجنوبي غومار كانج والنيجيريان اللذان اقترحا عليه أن يدعي انه مثلي الجنس وان حريته الشخصية مهضومة في بلاده حتى يستطيع الحصول سريعا على حق اللجوء.
عبر هذه الشخصيات ومصائرها قدم بركة ساكن للثيمات الأساسية التي تحملها الرواية وهي ثيمات كُثر مثل الاندماج الاجتماعي والهجرة غير الشرعية وأوضاع المهاجرين في البلدان المضيفة وصراع الهوية وصراع الحضارات. بالرغم من أن كثير من هذه الثيمات قد استهلكت كثيرا في الأدب العربي ابتداءً من قنديل أم هاشم ليحي حقي مروراً بموسم الهجرة للشمال ومدن بلا نخيل لطارق الطيب وغيرهما كثير، لكن جاءت الرجل الخراب، التي قدمت مقاربة مختلفة لهذه الثيمات، في وقت صعد فيه الصراع الى القمة وباتت مسألة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين العرب المسلمين في المجتمعات الأوروبية من المسائل المقلقة لهذه المجتمعات ولهؤلاء المهاجرين أنفسهم خصوصا مع تصاعد موجة الرفض العنيف من قبل مجموعات معتبرة من هؤلاء المهاجرين من مختلف اجيالهم لواحدة من القيم الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية وهي قيمة الحرية و على وجه الخصوص حرية التعبير. كما أن الشكل السردي الذي اختار الكاتب أن يقدم به ثيمات عمله فيه من الجدّة والتجريب ما لا يخفى.
توصف الرواية في الدرس النقدي بأنها قبل كل شيء بنية سردية تشيدها ثلاث مكونات رئيسة هي الراوي وهو الشخص الذي يخبر بالحكاية وهو شخصية هلامية لا وجود فيزيائي لها علي أرض الواقع يبتدعها المؤلف أو الكاتب (وهو شخص حقيقي) ليعبر من خلالها عما يريد قوله وعادة لا يظهر هذا المؤلف في ثنايا الرواية بصوته المباشر أو بالأحرى يجب ألا يظهر أبداً. ثم المروي وجوهره هو الحكاية التي يسردها الراوي والتي يحكمها إطار زمكاني، ثم أخيراً المروي له وهو متلقي الرواية. هذه المكونات الثلاث تحكمها كثير من القوانين التي تنظمها وتنظم العلاقات بينها لن يسعنا المقام في الاستطراد فيها. حاول بركة ساكن في روايته هذه العبث بمكونات هذه البنية السردية وارباك العلائق القائمة بينها وارباك المتلقي كنتيجة حتمية لذلك، فهو متلقي منمّط يعيد بناء معني النص استناداً على خبرات نصية سابقة.
في الرجل الخراب يتداخل الراوي بالكاتب بالشخصيات الثانوية والشخصية الرئيسة لتتشكل بذلك شبكة سردية مربكة ولذيذة يصبح القارئ طرفاً فيها، يحدثه الكاتب ويناقشه في محاور الرواية ويستقوي به ضد الراوي العليم ويعبث به وتصبح سلطة هذا الراوي موضع نزاع مستمر على امتداد الرواية الى أن ينتهي هذا النزاع باختفاء الراوي وتسلم الشخصيات الثانوية لزمام السرد.
تبدأ الرواية على لسان الراوي "نورا شُولز، تبدو اليوم أكثر سعادة من أي وقت مضى في حياتها..." ويستمر الراوي ممسكاً بزمام السرد الى أن يبرز صوت الكاتب مقاطعاً في صفحة 16 "أشعر الان برغبة الراوي في التوقف عن السرد..." ليقدم بعدها الكاتب بيان احتجاج ضد سلطة الراوي التي تتحدي في كثير من الأحيان سلطته ككاتب وتفرض عليه ما لا يرغب فيه. يؤسس بيان الاحتجاج هذا لمشروعية الكاتب في التدخل اثناء السرد انتصاراً لاستقلاليته وتأكيداً لسيطرته على روايته. ثم يسلم بعدها الكاتب زمام السرد للراوي الذي سيسرد للقارئ ما يدور في ذهن درويش أو هاينرش بعدما أخبرته زوجته بأنه ربما ستمارس ابنتهم الجنس لأول مرة في حياتها مع صديقها توني الذي لا يربطه أي رباط شرعي مع البنت وأن يتم هذا الأمر تحت سقف بيته وبرعايته واشرافه ومطلوب منه ان يظهر سروره بذلك! ثم لا يتوقف بعدها الكاتب عن التدخل وتقديم التبريرات الكافية لتدخله، فهو يتدخل مرة لينفي عن نفسه صفة التواطؤ مع الراوي في استخدام هذا الأخير لتقنية الفلاش باك، ومرة أخري ليظهر تعاطفه مع شخصية درويش الذي لا يحب أن يسرد الراوي جزء من سيرته الذاتية يرى أنه مشين، ومرة أخرى ليحاور القارئ في تنبؤاته لسيرورة الرواية والمحاور التي ستتخذها ثم يسلم زمام السرد لدرويش لأنه سهل القياد على النقيض من الراوي العنيد والمتسلط وفقاً لما يقول هو. ويستمر هذا الحال الي أن يعلن الكاتب اقصاءه للراوي تماما بسبب تعجل هذا الأخير لإنهاء الرواية "... أما الراوي الذي يتعجل نهاية الرواية ليحرر نفسه من أجل أغراض أكثر أهمية، في ظني، وليس كل الظن إثم، فالموت أولى به" ص 108. ونلاحظ أنه ابتداءً من صفحة 106 وحتى صفحة 108 يحدث تناوب في السرد بين الراوي العليم ودرويش، يتحول درويش من مروي عنه الى راوي بصوته ويتم ها الأمر في انتقالات رشيقة لا يكاد يحس بها القارئ المأخوذ بالحكاية. ثم يظهر الكاتب في الفصل الأخير ليسلم زمام الأمر لنورا شولز التي تختار نهايةً للرواية تختلف عن تلك التي كان يخطط لها الكاتب ثم تُروي هذه النهاية بأصوات ثلاث شخصيات يري الكاتب أنها ثانوية هي توني وميمي ونورا شُولز كلٌ من موقع رؤيته. ألم أقل لكم إنها شبكة سردية مُربِكة لكنها ممتعة. سيقول كثيرون أن بركة ساكن يحاول أن يؤسس لرواية اللاراوية ونقول ان الرواية جنس أدبي حديث نوعا ما قياساً بالأجناس الأدبية الأخرى وأن تقنياتها ستتطور ولا يستطيع كائناً من كان أن يضع شروط ومعايير وقوالب لهذا التطور، إذا لبركة ساكن كروائي متمكن من ادواته وواعي ومتمثل لمنجزات الرواية في كل أزمانها له كامل المشروعية في التجريب الى ما لا نهاية.

يتضح من القراءة الأولي لهذه الرواية أن نصها يتعالق مع نصوص أخري سردية وشعرية سابقة من التراث الإنساني العالمي، لذلك نستطيع أن نرصد تناصات كثيرة لنص بركة ساكن مع نصوص أخري مثل قصيدة الأرض الخراب للشاعر إليوت أو مائة عام من العزلة وإرنديرا البريئة وجدتها القاسية لماركيز وأزهار الشر لبودلير وغيرهما. ونعني بالتناص هنا "ذلك الحوار الواقع بين الكتابات المختلفة التي تقع للكاتب قبل أو أثناء كتابته، لأن الكاتب لا يكتب انطلاقاَ من عدم، واستعماله للغة مشتركة تتقاطع فيها نصوص لا تعد ولا تحصي تشكل محفوظة الذي يؤسس ثقافته، ويهذب ذوقه، ويخلق دراية لسانه، ففي ذلك الزخم الطامي من النصوص تتشكل ملكته، مستفيدة من اجتهادات سابقيه" كما يشير بذلك الناقد حبيب مونسي في مقاربته لأعمال عبد الملك مرتاض. وسأعطي مثل واحد لهذا التناص هو مشهد ناديا صامويل وهي تقترح علي زعيم البدو في سيناء المصرية ان يطلق سراحها مقابل ان تعوضه خسارته ببيع جسدها لأفراد عصابته وتهبه المال بعد ذلك لتفدي نفسها:

"فقلت ذلك بوضوح لشيخ البدو، وهو الحاكم الفعلي للخاطفين، والرأس المدبر لكل شيء، واقترحت عليه أنني أستطيع أن أجلب له مالاً كثيراَ جداً إذا تركني في حجرة وأدخل عليّ من رجال عصابته من يريدني، فهم بلا نساء يقيمون في معسكرات صحراوية لشهور كثيرة، اعجبته الفكرة وبدأ هو بنفسه" ص 41.
نجد أن مثل هذا المشهد أو فكرة الافتداء أو الغرم مقابل الجسد ترد مرتين في عملين للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز هما مائة عام من العزلة وإرنديرا البريئة وجدتها القاسية، مع بعض الاختلافات في التفاصيل، ففي رواية ماركيز نجد أن الجدة القاسية هي التي أجبرت حفيدتها على ممارسة البغاء لزمن طويل لكي تجعلها تعوض قيمة الخسارة التي تسببت بها عندما تسببت بإهمالها في حريق قضى على الكثير من ممتلكات الجدة.
يبدو لي أن دراسة التعالقات النصية بين نص بركة ساكن ونصوص أخرى سابقة له مجال خصب للدراسة النقدية ربما ينتبه له نقادنا الاجلاء ويثرونه بالدرس المنهجي العميق.
يجب أن اشير قبل أن أختم هذا المقال الي بعض النقاط التي أرى أنه من المهم استعراضها دون الانتقاص من القيمة الفنية العالية لهذا العمل. أشير أولاً الى أن الاستخدام المتكرر لمفردات من اللغة الألمانية في مناطق متفرقة من الرواية لم يكن له ضرورة ملحة من وجهة نظري الخاصة في كل مرة وردت فيها، مثال على ذلك استخدام كلمة (ein Freund) الألمانية بعد كلمة (صديقاَ) في الجملة "فقد وجدت ابنتها ميمي أخيراَ صديقاَ" ص 11، أو استخدام عبارة (Assimilation oder aufnahme) الألمانية عقب عبارة (اندماجه الاجتماعي) ص 20، فكلمة (صديق) وتعبير (اندماجه الاجتماعي) هما شديدتا الوضوح ويفسرهما السياق الذي وردتا فيه بجلاء وحتى لو كان هناك غموض في معانيهما لا أظن أن اللغة الألمانية هي الوسيط المناسب لمنح المقابل نظراَ لجهل الغالبية الساحقة من قراء العربية بهذه اللغة. كما أنه ليس من الضروري كتابة أسماء الأماكن باللغة الألمانية طالما قام الكاتب المبجل بتعريبها بصورة مقروءة جداً، أعتقد أن هذا الأمر مُربك للقارئ. كما يتحول الكاتب كذلك الي استخدام مقابلات من اللغة الإنجليزية لبعض المفاهيم التي يوردها باللغة العربية مثل استخدام كلمة (Adultery) بعد كلمة (زني) ص 37، أو استخدام كلمة (Homosexual) بعد كلمة (مثليَا) ص 62، فالكلمتان واضحتان جداً ولا تحتاجان لأي تدعيم من أي لغة أخري. ثم ما المنطق الذي يجعل الكاتب يستخدم مرة اللغة الألمانية ومرة اللغة الإنجليزية لتدعيم الكلمات المختارة بدلالات لا تؤديها، وفقا لرؤية الكاتب، المفردات في اللغة العربية؟

أشير ثانياً، وفي حدود معرفتي، بأن الكاتب نسب الى ت. س إليوت ما لم يقله البتة عندما كتب في صفحة 107:
"أما القارئ المرائي المغامر الصعلوك الذي تحدث عنه "ت. س إليوت، فقد يكون له رأي اخر"
بل هو بالأحرى الشاعر شارل بودلير الذي تحدث عن ذلك القارئ المرائي في قصيدته التي سبق ذكرها في مكان اخر من هذا المقال.
كما أشير ثالثاً الي أن الرواية نشرت تحت عنوان الرجل الخراب، لكن الكاتب يشير داخل الرواية الي ان اسم هذه الرواية هو فاكهة الليل، فقد كتب في صفحة 53 من الرواية موضحاً:
"وقد لا يغيب عن فطنة القارئ أن عنوان هذه الرواية هو "مُخَرّي الكلاب"، باعتبار أنها ما يشبه السيرة الذاتية لدكتور درويش، ولكن أصرّ الراوي على عنوان مربك هو "فاكهة الليل"".
ويبدو أنه الاسم الأول الذي اختاره لها بركة ساكن قبل ان يغيره فيما بعد، ويعزز هذا الرأي أنه في المقتطفات الأولى من الرواية التي نشرها على الانترنت قد قام بنشرها تحت عنوان فاكهة الليل. غالبا ما يكون نسي الكاتب ان يعدل هذه الفقرة من النص ولا اعتقد أن الامر يتعلق بواحدة من الاعيب الكاتب، على العموم هذا أمر ثانوي ولا يحدث خللاَ ذا بال في بناء الرواية.
في الختام لا يدّعي هذا المقال أية مقاربة نقدية معمقة وشاملة لهذه الرواية، بل هو مقال احتفالي يحتفي بمنتوج واحد من الكتاب السودانيين المبدعين ويعرّف بهذا المنتوج ويضئ إشارات هنا وهناك الي أن يحين وقت الدرس النقدي العلمي المنهجي ليس فقط لهذه الرواية بل لمجمل الإبداع الكتابي للروائي عبد العزيز بركة ساكن الذي أرسل جذور ابداعه عميقا في حقل السارِدين العظام.
عاطف الحاج سعيد
القاهرة، 19 فبراير 2015