2009/07/27

(موجة التجديد).. في الرواية والقصة - صحيفة الرأي العام


إجراه : عيسى الحلو

مدخل: عبد العزيز بركة ساكن كاتب من الجيل الجديد استطاع ان يقدم أجمل القصص القصيرة وان يضيف للرواية.. وهو موجة جديدة في تيار الكتابة الابداعية السودانية الان.. وهو تيار يشق لنفسه طريقاً وسط صخور الكتابات الابداعية المستقرة ذات السلطة القابضة.. الا أن هذه الكتابات الجديدة تسعى لفتح النوافذ على فضاء اكثر اتساعاً وحرية. «المحرر».-------
? ما علاقة نصوصك بالنصوص المجاورة.. «الان.. والماضي»؟- ان نصوصي لها صلة بالنصوص الروائية والقصصية السودانية والعالمية. كما أنها امتداد لنصوصي السابقة حينما أثبت أشياء واتجاوز أشياء. في قصصي الأولى تأثرت (بادجار الن بو) وذلك في طرائق السرد الى جانب اللغة القصصية. ثم انتقلت الى مرحلة أخرى وأنا أقرأ الآداب العربية والافريقية بتركيز وتوسع. فحملت كل ذلك معي وأنا اجوب في كتابات ذات سمات فكرية وجمالية عالية. فتعلمت من الحياة ومن القراءة .. وتعلمت من النصوص السودانية، عمق عيسى الحلو في ذات الانسانية، عذوبة سرد الطيب صالح، سحرية ابراهيم اسحق وجنون بشرى الفاضل. وحاولت فوق كل ذلك أن احدد بصمتي الخاصة ومازلت أعمل في إطار شخصيتي الابداعية الخاصة.? الكاتب يبدأ من مكان ما.. متوافقاً.. او مختلفاً.. ما هو موقفك من المنجز الابداعي السوداني؟- اذا تجاوزنا جيل الرواد في فترة الثمانينيات والتسعينيات.. فالرواية تتأرجح ما بين الضعف الفني والمغامرة.. فما بين الجدة والاصالة (أعني بالاصالة العمق) فهناك أسماء مثل منصور..... وابكر أدم اسماعيل، وحمد المك والحسن البكري ومحسن خالد.. هؤلاء استطاعوا ان يحفروا أنهراً كثيرة وان يشيدوا أعمالاً جميلة. أما القصة القصيرة السودانية فهي في مصاف العالمية، أرى أن القدامي قد انجزوا مشروعاتهم وهي نتيجة واقع تاريخي معين. أما الجدد فهم أيضاً يعبرون عن راهنهم الجمالي والفكري والاجتماعي. فلا مجال للمقارنة بين الجيل القديم والجيل الجديد.? في كل من المعسكرين.. نجد هناك من يرفض الآخر ولا يعترف به.. شيء هو كصراع الاجيال.. وهذا الصراع يضعف المسألة كلها ويهزمها..؟- المسألة الاساسية في صراع الاجيال.. انه بدعة.. الستينيون والسبعينيون حينما عجزوا في أن يجدوا صلة فنية ما بين الفترتين، اما بسبب ضعف المنتوج واما لعدم جدية المشروع.. فهناك من يتخذ الكتابة تسلية او مجلبة للشهرة، مع ان الابداع هنا هو مشروع حياة. وهناك من يكتفي بكتابة قصةاو قصتين ويريد أن يصبح رائداً لجيل لا يعرفه.لقد استطاع التسعينيون (مع فقر المؤسسة والظلم الاجتماعي) والقهر السياسي الذي صاحب ظهورهم ان ينشئوا روابط عميقة بينهم والجيل الذي يتكون الان. بل سعوا لرتق صلاتهم بالاجيال السابقة.. وانشطة نادي القصة شاهد على ذلك.? هل الكتابات الجديدة تقدم تنازلات امام الكتابات المستقرة، حينما يجد الكاتب الجديد نفسه في موقف محرج.. كأن يقبلوه وفق شروط التنازلات او الا يساوم، فيقطع كل الشوط.. ولا يهم النجاح وقتئذ؟- لقد عانيت الكثير وما زالت من هذا.. من الشروط البالية للكتابة. فهي أما ان تكون تقليداً بالياً بحسب تسلط سدنة القديم، او يتم أهمال الكاتب الجديد بشكل تام، وهناك (لوبيات) معروفة في الخرطوم وهي قد فشلت في تقديم كاتب واحد. أنا أحاول أن استشرف آفاقاً أوسع.. ولا يهمني الاهتمام بي أولاً.القاريء الان هو قاريء كوني وهو يقرأ كل المنتوج العالمي، فالتحدي الان كبير جداً. فأما ان يكتب الكاتب وفق هذا السقف العالمي وأما ان يترك الكتابة الابداعية ليصبح ناقداً.. او ليفشل تماماً !!!? في اعمالك تجريب مستمر.. خاصة روايتك الجديدة (مخطوطه) .. (الجنقو.. مسامير الارض؟.. ماهو الجديد هنا؟- عملت هنا في ثلاثة محاور.. حاولت أن استلهم راوياً مرناً.. اذ لا التزم بتقنية الرواة كما هم في النقد.. وذلك لأن مهمة كتابة رواية (الجنقو.. مسامير الارض..).. كانت صعبة ومعقدة جداً. أردت أن يتحدث الاشخاص بلغتهم ولكن هذه اللغة هي لغة شفاهة ولغة الرواية دائماً هي لغة كتابة. لهذا يعجز الراوي الذي يتحدث بضمير المتكلم ان يقوم بهذه المهمة مع أختلاف موقعه. والمحور الثاني هو محور الحكاية أذ استلهمت الطريقة الشعبية في الحكي.. كما هي في (الاندايات) وبيوت المآتم والأفراح.. فالرواية عبارة عن حكايات غير متزامنة ولكنها مترابطة. أما مجال التجديد الثالث فقد كان في موضوع الرواية نفسه.? البعض يرى أنك قاص أفضل منك روائياً؟- مهمتي هي ان اكتب فقط. واقدم ما اكتب للقراء - ولا أذهب بعيداً.. فكل شخص حر في أن يرى مايراه.. وهذه رؤية نقديه شخصية نسبية تتراوح في صدقها من قاريء لآخر.? من هم الكتاب السودانيون الجدد الذين قدموا جديداً؟- مغامرة ابكر آدم اسماعيل في استخدام الحوار الدارجي، وتوظيفه بصورة جميلة. وعالم أحمد المك الذي يشبه حكايات واحاجي الحبوبات. منصور الصويم أستطاع ان يكتب رواية مغايرة في موضوعها. ومحمد خير عبد الله الذي كتب روايات يتولى البطولة فيها (المكان) وهي روايات ساخرة وهو نوع جديد في كتابة الرواية السودانية. والحسن البكري له مساهمة جيدة في استلهام التاريخ في روايته (سمر الفتنة).? من أهم النقاد الذين ناصروا الكتاب الجدد؟.. هناك النقاد الشباب.. وهناك بشرى الفاضل.. فقط!!!

2009/07/23

وَدْ أمونه مُتَبَلاً ... خاص كيكا ... رسم:نادر جني


عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القطيه، تأتي أصوات المكان مخترقة القش والأقصاب عَبْر الظُلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غِناءً جميلاً رقيقاً يتلمس سِكَكَه عبر الليل نحونا، قال ود أمونه:
دِيَّ بوشاي.
ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قِشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حَكّ أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها، مُثيرة شَبَقَاً وحشياً تؤجله دائماً حكايات ود أمونه المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مَرِح، عَنّتْ فِكرةٌ لألم قِشِي، عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة:
حَأعمل ليكمُ جَبَنَة-
هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن: يعملوا لك جَبَنة.
قال ود أمونه مواصلاً حكاية العازه، لم تستطع عازه أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونه في ذلك المساء: كنت في طريقي إلى عنبر النُسوان بعد أن عاد من مشوار كلفه به الشاويش خارج السجن، وعندما وصل ود أمونه الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النُسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تُمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه
. ما تخاف، دا أنا-
ثم سُحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونه
- عايز مني شنو؟
قال الطباخ
- إنت بكره ماشي مع عازه، طبعاً حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مُشْ عيب عليك يا ود أمونه، ما تقو لي مع السلامة؟
قال ود أمونه متضايقاً
. كويس، مع السلامة، يَلاّ فك يدي-
قال الطباخ محاولاً أن يكون رقيقاً ومهذباً
- لا.... ما كدا.. مع السلامة دي عندها طريقة تانية، وفي حفلة صغيرة أنا عاملها ليك في مخزن المطبخ برانا، أنا وأنت.. جِبت شمع وعندي ليك هدية، ملابس جديدة وجزمه وكرة وحلاوة وحاجات حتعجبك.
قال ود أمونه وهو يحاول نزع يده
. إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك-
فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
قال له ود أمونه
. أخير ليك تفكني-
بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه، شيء لم يستطع ود أمونه تمييز معالِمه في الظلام، ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونه، أحس به ود أمونه قوياً وطويلاً، قال الطباخ:
. الموضوع بسيط، وما بِيَاخُدْ دقيقة واحدة، وأنا أدْيّك أي حاجة عايزها-
وعندما مَدّ فَمَه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي، محمولة على عبق عَرَق العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونه بشيء الطباخ، كان مظلماً، كبيراً وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها، الشيء الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعباً في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بِركة المياه جنوب السجن، تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأولى، أقل أهمية، لأن أحداً لم يسمعها سوى ود أمونه، كانت أكثر بؤساً ورعباً. ثم سقط.
بصقت رأس الذكر من خشمي، كان شيء مقرف.-
قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصُبح في الساحة
- إنت حتمشي مع عازه إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.
رائحة قلي البُن الحبشي تملأ رئتي عبقاً لذيذاً، وصوت بُوشَاي الحُلو يغني، فيأتي به الهواء الدافئ من حي العُمدة إلى قطيه أدّي شَهياً، قالت ألم قِشي:
بعد دا كله.. الطباخ شغال لِسَعْ في السجن، سمين زي البغل.-
كنت أعرف هذا السجان، وقد سمعت بقصته هذه من قبل ولكني لم أعرف التفاصيل إلا الآن، ولم أحس ببشاعة الحدث و فداحته بهذا القدر، لقد كان هذا السجان يسكن في ذات القشلاق الذي كانت أسرتي تسكنه، فأبي يعمل بذات السجن،ويعرف الناس عنه غرابة السلوك، ولو انه لم يتحرش بأي من أطفال القشلاق، فلقد كان له رفقاء في عمره، لم أقل لهم أنني أعرفه، ولم أقل لألم قشي أن ما قالته عن استمرار عمله بالسجن و سمنته ليسا حقيقة، فلقد مات الطباخ بعد هذه الحادثة بسنة واحدة، لدغَه ثُعبانٌ في مخزن البقوليات بالسجن، لم أقل لهم أن هنالك صِلة قرابة تربطني به .
تحركت ألم قِشي وهي تحمل المِقلاة تطوف بالقُطيه مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
قال ود أمونه
- طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شئ، ما تفوت عليّ كبيرة ولا صغيرة.
أضافت ألم قِشي في زهو
. ما شاء الله.. ود أمونه دا... أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام -
صبّت البُن في الفُنُدك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين.
قال لي ود أمونه معتذراً
معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قِشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قطيه ما بعيدة من هنا.
بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز،من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر، كانت ألم قِشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين جميليتين، عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب، بدأ لي كصليب أو خاتم سليمان، أو ربما وردة سحرية، على كلٍ، كان شهياً وطيباً وطازجاً.
لا أفهم كثيراً في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي، في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام والدحوش وحتى العُجول ولم يكن ذلك ممتعاً، ولكنه مهماً حيث تبدو كبيراً وفحلاً أمام أصحابك وإلا لُقبت بـ المرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن، تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ، كانت الأكثر إدهاشاً وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، اعتادت خالتي التَاية أن ترسلني إلى المِطحنة عند الصباح الباكر، قبل الذهاب إلى المدرسة، لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع كِسرَة يوم غد، التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته لا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد منهم له معها قِصة، ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشيء الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضرباً مبرحاً، لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت فيما بعد بعض الشيء، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفاً حقيقياً عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له و أصحابي، كن نظن أنه شيئاً جميلاً، جذاباً مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئاً آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب،له فم كبير وربما أسنان أيضاً، بل له رائحةٌ كريهة،لا أدري كيف خُدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبداً،ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تُثير، أزالت مخاوفي، ثم عرفتُ كل شيء، أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة:
. بُول … بُول..... بُول -
وأنا لا أعرف كيف أبُول هناك، وليس لدي بُول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة:
؟ بُول، بُول الرُجال، إنتَ مَاكْ راجل-
ولم أعرف بُول الرِجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبَحلق فيّ فأرُها المتوحِشُ، وضربتني عندما اشتد بها الشبق.
. بُووووووووول -
فبللت ملابسي بسائل دافئ، له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البُول في لذة و ألم مُدهشين. ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبداً، حيث لم تتح لي فُرصة لذلك، أو أنني كنت خجولاً أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جُرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي، كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاماً والآن ، وجهاً لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي: امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فَهِمَتْ ألم قِشي ذلك، ولكنها قامت بكل شيء بنفسها، بدءاً من لِبسِ الواقي؛ انتهاءً بالبُول، بُول الرُجَال، كانت تسحبه من أعماقي بِجُنونٍ ولذةٍ لا يوصفان.

2009/07/17

THE MUSIC OF BONES


Abdul-Aziz Baraka Sakin

the Music of Bones
A short story
translated by Kat Stapley

The little battle, which I generously describe as trivial, we fought that battle against armed rebels, west of the Murra mountain in the Darfur region. Under an odious mountain range, with no water, no shade, not even any air to move the stubborn sunbeams that beat down on our cunning heads, the smell of the gunpowder was still in the air. The sighs of the injured and the yells of the wounded echoed in the open, confusing the heat of the still and heavy air which hung like an eternal mourning over all the death in the place. This place was a real paradise before the war. We were exhausted and scared because of everything, even the swift unexpected and inexplicable triumph we achieved. We had always expected a defeat or a very hard-won victory as we were besieged and left with no choice save dying slowly or fighting. We almost ran out of ammunition and fuel for our vehicles. Our water and food were depleted and the air force could not break the siege imposed on us by fierce and wily warriors who knew the place better than the snakes and wolves that lived there. We heard their voices and their laughter. We were wounded by their gunshots, but without seeing them. In the first desperate raid we launched against them, we defeated them, but we don’t know how. Here are their corpses and their wounded, crying out for help. Corpses are spread about everywhere covered in a mixture of blood and hot yellow sand. There were also fatalities and wounded amongst our brigade. We have not buried the dead yet, neither have we questioned the wounded, and that was a priority which we should have accounted for to study the battlefield well so as to anticipate how the situation would develop. That is one of the ABCs of military know-how. We were confused, worried and all over the place. We laid the wounded under a huge rock which had formed in the shape of a small cave that ran deep into the mountain. It might have been used by wild animals in the old days when there was still open space for wild animals. We left the dead to enjoy the sunset. We answered the cries and calls of the wounded rebels with insults and sometimes kicks, but we were clearly worried. However, Mousa, whom we called merciful Mousa, treated all the wounded indiscriminately and skilfully. He behaved responsibly and compassionately, which is what he was known for. He had learned it from the International Red Cross, as he always told us. Everything would have passed without problem had Al-Jaweesh[MO1] Al-Mahdi not insisted on killing one of the injured captives, claiming he deserved it for a reason which only he knew and would not reveal.
We were later told that the injured man had gestured to Al-Mahdi with his middle finger.
As usual, Mousa the merciful objected as he was the only one renowned for his beliefs prohibiting killing or torture or refusing to treat injured captives. He would defend his beliefs tooth and nail. He started a heated argument with Al-Mahdi. Then they started fighting. Then Al-Mahdi used the butt of his rifle, and in a swift acrobatic move Mousa was thrown to the ground. When we noticed the small fight between the two tall, slim men from the same brigade, all of us sixteen men and two women intervened to separate them. Al-Mahdi had already picked up a loaded rifle ready to fire, taking a defensive fighting position near the rock where the injured rebels were. They forgot about crying, moaning and calling for water or exchanging their wills. Instead, they stared at us wide-eyed. They scrutinized Al-Mahdi and Mousa the merciful, who was lying unconscious on the ground, uttering strange sounds. Their last chance of survival was ebbing away. Al-Mahdi ordered everybody to sit down, saying: “Otherwise, I will finish you off one by one.”
We sat down.
He ordered us to put our hands on top of our heads and face the north with our backs to him. He wanted that done “quicker than the wind”.
We did it.
He threatened that if anyone made a move, whether friendly or otherwise, he would “flatten him”.
We nodded, indicating that we understood.
When we heard the whirring of bullets, despite all the threats and promises, we all turned round towards him. He had his foot on the back of an injured captive who was facing the ground, his head sinking in the burning yellow sand under the weight of the boots and body of Al-Mahdi.
Al-Mahdi shot the injured captive in the heart: tak tak tak tak tak tak[MO2] .
Six deadly bullets from a Kalashnikov. The captive was finally silent. He was completely, totally, for sure, undoubtedly, absolutely dead: Six bullets from a Kalashnikov by old Jaweesh must have killed that injured captive: tak tak tak tak tak tak.
When Al-Mahdi lifted his foot from the head of the dead wounded captive[MO3] , the captive stood up dusty, tall and dreadful in complete silence. Al-Mahdi stiffened astonished, his mouth fell open, stupefied. He was absolutely unable to utter a single word. One swift punch to his head by the dead wounded captive and Al-Mahdi was lying on the ground half-dead. Then in another decisive move, the dead wounded captive turned Al-Mahdi over, fixed his foot on his back and bent his back into a horrible giant arch. He held Al-Mahdi’s head between his huge hands that were filthy with dirt. He turned the head gently and carefully to the right, then to the left, as if he was a doctor trying to examine a patient’s neck. Then with the speed of lightening and the devil’s skill, he whipped the head backwards at a sharp angle, letting us hear the bones of Al-Mahdi’s neck exploding, shattering, and accompanied by a deep impudent grunt similar to a Do Wa Za tune. The tune kept echoing in the air for a long time. Meanwhile, some Kalaj Kalaj birds sang as they flew eastwards in the empty sky. The dead wounded captive then lay down feeling a special pleasure. He laid his hands at the sides of his tall, heavy and calm body, and died once more.

Publication details to add,
title of work in transliterated Arabic and English, publisher, place, year.

[MO1] Is this really his name, or part of a description of him?

[MO2]I’ve amended the noises to sound English.

[MO3] It seems better in the English this way round, as the death happened last, and he was known to the reader first as a wounded captive. I think it works better with him dying again, too. The sring in the tail!

2009/07/14

على أنهار بابل (كيكا)




عندما خلقنا الخالق ذات صباح باكر. أنا و أنت. قُدَّ جسدك من الليمون. وجسدي من قشرة الليمون. قُدَّ جسدي من الليمون.


وجسدك من قشرة الليمون. بُنى وجهك من زقزة طائر الجنة جنة. وبُنى وجهي من رفرفة جناحيه. بُنى وجهك من رفرفة


جناحيه و بُنى وجهي من وجهك. رُسم فخذيك من طين النار ورُسم فخذي من نار الطين. رُسم فخذيك من نار الطين و


رُسم فخذي من قلبك. أَطلق لسانك من حكمة نبيين في ذاكرة المستقبل (كانوا سُودا كما الملائكة). و أَطلق لساني من


قُبلاتك. و أَطلق لسانك من لساني و أَطلق لساني من وجر النطق ووحوحة اللغة. فكنا في الخلق كفأرين. وفي الناس



كطائفة من العصافير و في البر كالريح.

لست هنا لأقول أني أحبك. فقد قلت لكل من أعرفهم ذلك. وقلت لمن لا أعرفهم أني أحبك. للريح وهي تمر عبر قصب


الحوش. للحوش. للجرو الصغير ينبح في إصرار غريب. للغرباء. لعلي نصر الله وصديقي الوسواس. للخناس. للناس


لرب الناس. قلت لليمامة تغني للربابة تُوتّرْ. للصبية تأكل الآيس كريم. لأبنة الجيران تخجل من قبلتي. لدرويش سكران


كان قد حدثني عن الله في صدره. لمريم. لولدين وشيخين لامرأة. قلت لطائر الطنان أني أحبك. و أني أراك في كل شيء


وردة و أرى نفسي طائر طنان.للبنت تُعشق وتَعشقُ. للسكة تُمشى وتَمشي. لأحمد زكي وهو صديقي أعرفه منذ أن إلتقينا


كعبدين أو ملكين أو شاعرين على أنهار بابل. لفاطمة و منى و سيدة و جعفر. للالايا. قلت أني أحبك مثل كل يوم يمضى


علينا متعانقين في قبلة و خمر. مثلما تعبث في ساقيك أناملي. مثلما يمر العام علينا ونحن لما بعد ننتشي في العُري و الليل.


ننتشي بك وبي.

لست أجمل امراة في الكون. ولست أطيبهن ساقاً و معشراً. لست أفسد امراة في القلب و الميناء ولست أطيبهن قبلة. لست


اشهى سيدة في الدرب ولست أنبلهن متعة. لست أطول أمسية للنهد. ولست أعمقهن عبيرا. لست سوى العالم يخرج من


رداء المعتاد و اليومي و المعروف و المألوف و الأغبى من صمت العارف. انت كل الليل وأنا ما يتبقي كل ليلة من الليل.


أنت كل النساء يمشين للنهر تضيء سوقهن الطريق و الطارق. أنت أجمل امرأة فيهن. أطولهن في النخل و أرسرعهن في


الغواية و أعرفهن في الجسد و البيت. لا أعرف كيف أحبك. لأنني أجهل فيك البنت. لا أعرف كيف أقول لك أني لا


أحبك. لأنك تُجهلين في الليل. ولم يكن ما يفعله الجسد في الجسد سوى جهل الشخص للشخص.ما يتبقى قليل من أمسية


تلتهمها قبلاتك مثل رغيف اللغات الشهي.

هنا أنت. وهنا أنت وحدك. وأنت. هنا أنت و أنا. هنا العالم يتبرج في عُري لذيذ. أحب العالم عارياً يمارس الجنس في


الطرقات. مثل كلاب أمي. أحب العالم كريما طيباً داعراً عاهراً و لوطياً نبيلاً. أحبُ العالم كما هو يتبرج لك ولي. و أنا و


أنت لسنا آخر غير العالم ذاته ولسنا نحن العالم. اذاً آتي إليَّ. أريدك الآن أكثر وحدك. وليكن معك بعض الأصدقاء الذين


تشع عيونهم حين الهفوة (مبارك كلبوس يعرف قيمة الخطيئة). أريدك مثل الفكرة. ومثلما كنت أريدك و أرغبك عندما


نكون وحدنا ومثلما كنت ترغبين فيّ عند الظل. هي الحياة يا حبيبتي لسنا وحدنا في العالم. ولكن يبدو ذلك أكثر و اقعية


عندما يعمل الجسد في الجسد فعل الجسد في الجسد.

قال لي الشاعر

سنلتقي في الروح.

قالت لي حبيبتي

أحب أن نلتقي في المكان.

و تضيق المسافة ما بين الروح و الجسد. ما بين الفكرة و المثال. ما بين الواقع و حبيبتي. ولا يسعنا هذا المساء مرقدا و لا


أغنية. تضيق الشوارع بنا و التلفونات ترن. و تضيق المكتبات بنا. والبنيات تحن. تضيق اللغة. عندما نلتقي كل شيء يصبح


لغة وكل ما نحتاجة من التكنلوجيا و العلم التطبيقي و العقل؛مكانا ما. لا يرانا فيه أحد.ونعرف كيف ننسى أن الله يرى كل


الأمكنة. نعرف كيف نمحو الخطيئة بالخطيئة البكر. لأنني و حبيبتي عندما نكون وحدنا نصبح بشراً تزهر في السؤِ


أشجارُنا. هنا قبل آلاف السنين قال لي الشاعر

- سنلتقي في الحب.

قالت لي بالأمس حبيبتي

ما هو الحب؟

العاشق من يفضح محبوبه. و العاشقة هي البنت التي تستطيع ان تهب روحها و جسدها في
قبلة واحدة و لا تدري ماذا


يعني ذلك. و الحكيم في الحُب من يكتفي بكل شيء ولا يُشبعه كل شيء.



الدمازين


21-5-2009




2009/07/09

الأعظم في الوحدة .. (من موقع كيكا)


اتخذت لنفسي صفة من صفات الناس سوف لا يحسدني فيها حاسد غير نفسي. وهي الفَاسِدُ. ولأنني لم اكتف بأن أكون فاسداً فحسب. فأنا المُفْسِد والمُفْسَدُ.والفسود الفَسِدُ. ويعرف العارفون أني أفسدههم معرفة أعرقهم مفسدة وأني أحبُ إذ أحبُ في الناس أضلهم. فالضالون هم وحدهم من يعرف طُرقاً أخرى للرب غير طرق الهداية. وهي سبيل بعيدة، شاسعة، مرعبة وعرة. ولكن بها لذّةٌ ذاقوها وظلوا عليها وسوف لا يحيدون. أما طرق الهداية فطيبة وباردة وأنها تميت الروح في الجنة. إنها كقفص من الثلج. وأني أسلك سلوكاً هوالأسوأ في النبات أقبَلُ الطائر والثعبان في آن واحد. وهوالأجمل في الحيوان. أعلم الشر ولا اتقيه. والأغرب في المسافة ابتدءُ في كل خطوة من جديد ولا نهاية لى. والأقبح عند الرجل. إني لا أقول حبيبتي. ولكني أقول حبيباتي. والأحلى في البنت: رجلٌ في القلب يزيده اتساعاً. واني أحب في البيت الفراش.وفي النساء عليه. تعلمت من صديق صيني: الرجل الفاضل يخاف على المرأة من كل الرجال إلا نفسه. أما الفاسد فهوالذي يخاف على نفسه من كل النساء إلا التي تعرف اسمه.
كنا في البيت طائر ووردة. في السكة يبقي الليلُ وحيداً يتحسس ظلمتة. كنا في البيت كشيئين طويلين بليدين. ولكنا الأعظم في الوحدة. الصبرُ أضيقُ أبواب الفُرجة. والأم تصنع من مِزق الفقر فطوراً. الأم تعلمني كيف أُحيك الصبر لباساً يتسلل من بين خيوط التيل. يمتد إلى ما دون الركبة. يتحسس دفء النظرة وكركرة الأطفال. الأم تعلمني الفُسقَ الطيبَ ونحن نمد أيادينا للناس نستثمر كنز الفقر ونضحك. من علمني الحرف؟ من يبصق في وجهي الكلمات؟ من يعرف اسمي غير الجن وأنتَ؟
كنا نتجول في وقع الحزن علينا. قالت أمي وفي يدها بقية قرش وقديد يتحرك فيه الوحش المقتول منذ سنين. لم ينفعك بعد بسم الله غير الوحش. ضحكنا. كانت أمي تشبه وجهي يسوّدُ كثيراً في الفرحة ويصبح جميلاً كالأسفلت حين الجوع. كبرتُ تعلمتُ الإغواء. يأتي الرجلُ حزيناً مرتبكاً يباعد بين الفخزين يمتص قليلاً من ثدي. يعبث ببقية ثوبي ينزعه.يتحسس شعري. يستفرغ في رحمي. يستفرغ في رئتي. يستفرغ في نهديّ. يستفرغ فِيّ بقايا الليلْ. يتبول في أودية القط فضيحته. أويصرغ مندهشاً. قالت أمي تهمس في أذني: الصبر أضيق أبواب الوحش ولوجا للذة.
اليوم يمر كألفي عام. اليوم يمر كزنديق يهرع نحو الله. يحسبة الناس صفيقاً ويحسبه السلطانُ نبياً مرسل. اليوم يمر تحت إبط البنت يدغدق ذاكرة الشيخ. كان الفاسدُ مثل الليل يموء وحيداً في الظلمة: يأتيه الشعراءُ كأجمل أطيار الجنة. كالأم. في ذاكرتى سجني وأنا اتخذ السجن قلعة حرية. أوردتي حديد السجن وقلبي مِطرقة الحداد. أصيغُ الفقر سلاسل ذهب وخلاخل فضة. اليوم يمر كقديس أعمى يرى بالقلب في الظلمة أكثر. لم يشهد ملكوت الله. لم يقرأ توراتاً. لم يحفظ انجيلاً. لم يتلو قرآناً. يرى في الظلمة نبض الإنسان. جاء الشعراءُ الأمواتُ يحتطبون الأجسادَ الكاسدةَ الثكلى في سُوق النخاسين بأمدرمان. أعرفهم.غناء السلطان يميزهم. يحترفون رويال الصمت. الأم تقول لهم: انتبهوا. يا شعراء الريح انتبهوا للأرض.
في بيتي جسدي. وأنا امتلك فيما أورثني جدي جسدي. امتلكُ الشجرَ الوارفَ والأصدافْ. امتلكُ البحرَ. امتلك الفُرجةَ في وجعي. امتلك العصفورَ طليقاً في السموات. امتلك الأرضَ: الحرب تعيق الحرب. السلم يعيق السلم. الفلاح يدق الفأس يحيل الأشياء إلى ضوضاء مثمرة ونقيق.
يا صوتي. يا امرأتي وبكائي وحدي. يا درويش الروح وقدس الأقداس.يا ليل الفاسد ونصرته. يا لحظات الشبق الأكرم. يا من ناديت ما اسمعت سوى جُرحك. يمضي اليوم ثقيلاً كالبهجة. منتعظاً كمسمار الأشياء. يضل الدرويشُ سبيلاً مأهولاً باللذة.يا سيتيت المدن المنسية في الفشقا. يا من يعرف اسم الوشم وكنيته: أنتِ حبيباتي. وأنا وأحدٌ ممن تَعْشَق البِنْتُ.
21-6-2009
الدمازين

2009/07/07

قصص أطفال


فَارِسْ بِلالة

كانت في الماضي قرية علي نهر شَارِي تُسمى التُنْدُرَايَا، يفصل بينها و النهر غابة صغيرة، يعيشُ القَرَويون علي ثمار أشجارها و فلاحة أرضٍ خصبةٍ على شاطيء النهر. يحصلون على حاجتهم من اللحوم عن طريق صيد الحيوانات البرية التي تتوفر بكثرة في تلك الغابة و أسماك النهر. يعتمدون في علاجهم علي ما تنتجه الغابة من ثمار ، أعشاب، لحاء و جذور. كانوا سعداء يعيشون في أمان وسلام، إلى أن حدث ذات صباح مالم يكن في الحسبان.
كعادة الناس في التُنْدُرَايَا يستيقظون في الصباح الباكر، حيث يمضي المزارعون إلى مزارعهم، و الصيادون إلى النهر و المُعْرَاقِيون وهم أطباء القرية، إلي عمق الدغل حيث تتوفر الأعشاب الطبية. الكل لديه ما يعمله، حتى الأطفال فإنهم يقضون وقتاً ممتعاً في الخلوة لدى المُعلم العجوز، و بعد الظهر يخرجون للغابة لإلتقاط الثمار أو صيد الأرانب و الطيور و اللعب و السباحة في ماء النهر وعلى رماله.
في ذلك الصباح الذي لن ينساه أحدٌ من سُكان القرية، وبينما كان القرويون يعبرون الغابة إلى مواقع عملهم، إذا بهم يسمعون صوتاً غليظاً مُرعباً يصدر من عمق الغابة، عرف القرويون منذ الوهلة الأولى أنه زئير أسدٍ، ولكنه ليس أسداً عادياً لأن زئيره لم يكن طبيعياً، بل كان كهزيم الرعد، هربت عند سماعه الحمير، الكلاب والحصين حتي التي كانت تحمل أصحابها على ظهورها، أطاحت بهم أرضاً وهربت، الأغنام تبعثرت في كل مكان، الأبقار أخذت تهرول كما لو أصابها الجنون، كل من في القرية دخله الرعب، وجرى الناس عائدين في اتجاه بيوتهم، وهم يموتون من الرعب، تمكن الأسد في ذلك الصباح من القضاء علي عشرين من الأغنام، بقرتين، حمار و كلب.
اجتمع سُكان القرية في الظهر عند بيت الحَبُوبَة حَرِيرَة أم جبرين، وهي عرافتها وخازنة أسرارها، ووالدة شيخ جبرين مؤسس القرية، كان القرويون يلجأون إليها في أوقات الشدة. تحدث أبكر وهو واحد ممن ادعوا رؤية الأسد بعينيهم:
- سُبحان الله، أول مَرة أشوف أسداً في حجم ثُور الجاموس.
وصفه البعض بأنه أحمر اللون، قال البعض إنه أسود، أكد أبكر أنه أبيض مثل ثوبه الذي يرتديه الآن.
كانت المشكلة الأساسية في كيف يتخلصون من هذا الأسد الذي سوف يدمر قريتهم، قال أحد الجُبناء:
- علينا أن نترك القرية، إلى أن يذهب الأسد عن الغابة، ثم نعود.
سخر الناس منه، ولكنهم لم يتمكنوا من أن ياتوا برأي أكثر رَجاحة، أخيراً تحدثتْ أمْ جِبْرِين قائلة:
- أين فارس بلالة؟
تلفت القرويون حولهم، لم يكن هنالك. لقد كان فارس بلالة هذا رجلاً غريباً غامضاً، مفتول العضلات، ضخم الجسد، يسكن في أقصي جنوب القرية وحده، لم يعرف الناس عنه الكثير،لا يخالط الناس كثيراً، يُرى دائما على فرس أسود ضخم، يحمل حربته وعلى كتفه سيفٌ،يلقبه الناس بفارس بلالة لما يبدو عليه مظهره الخارجي، على الرغم من أنهم لم يشهدوا له بواقعةٍ تؤكدُ فروسيته، قالت لهم الحبوبة حريرة:
- هيا نذهب إليه في بيته، انه هناك بلا شك.
كان في ذلك الوقت قد اشتد زئير الأسد، وازداد الناسُ خوفاً و رُعباً، ومضت القرية كلها إلى منزل فارس بلالة. كانت قُطيّتَه مغلقة، وحصانهُ مربوطاً في زريبة البيت، صاح الناس منادين:
- يا فارس بلالة نحن نحتاج إليك، أين أنت؟
قالت لهم الحبوبة حريرة أم جبرين:
- إنه بالداخل.
خَطرتَ لها فكرة عجيبة، لذا طلبتْ منهم أن يتركوه، و أن يأتوا بجلدِ عجلٍ طازجٍ، ويقطعونه في شكل حِبال. قام بذلك بعض الشباب بسرعة البرق، بعد ذلك طلبتْ من الشباب أن يخلعوا باب القُطِيّة، وعندما سمع فارس بلالة ذلك صاح من الداخل:
- ماذا تريدون مني؟
قال له أحدهم:
- ألم تسمع زئير الأسدْ؟
قال فارس بلالة بصوت مرتجف:
- وماذا يعني ذلك؟
قال له آخر:
- يجب التخلص منه.
قال فارس بِلالة:
- و ما دخلي أنا في ذلك؟
قالت له الحبوبة:
- أنت فارسنا، و أقوي شاب في القرية، نريد منك أن تخلصنا من الأسد؟
قال فارس بلالة من وراء الباب:
- أنا أكره ما أكره في هذه الحياة الأسود، أرجوكم أبحثوا عن شخصٍ آخر يقوم بهذه المَهَمة، وليأخذ فرسي و سيفي و عصاي.
بِأمر الحبوبة الحكيمة، هجم الشباب علي فارس بلالة، واقتادوه من قُطيته، وهو يصرخ ويقاوم بشراسة، ثم أتوا بفرسه الذي أخذ يصهل متجاوباً مع زئير الأسد، متشوقاً لملاقاته، لقد كان فرساً أصيلاً شجاعاً و جميلاً،ثم أتوا بالجلد الرطب، قاموا بربط فارس بِلالة على الفرس جيداً، ثم علقوا له سيفه على كتفه، وضعوا حربته على جرابها يمينه، واطلقوا الفرس نحو الأسد، الذي يزأر الآن بصوت أقوى، وهو يتبختر في الغابة، وانطلق الفرس جارياً في جنون صوب صوت الأسد. كان فارس بلالة يصرخ مرعوباً، يستعطف الناس أن لا يتركونه للأسد، أن يوقفوا الفرس، إلا أن الحبوبة حريرة كانت تقول لهم مطمئنة:
- هذا هو شأن الفرسان، بيدون شيئاً، ويفعلون ما هو جديراً بهم.
دخلَ الفرسُ الغابةَ. كان فا رس بلالة يقبض أفرع الأشجار محاولاً ايقاف الفرس، ولكن الأفرع الصغيرة حالما تنكسر بفعل قوة الفرس وثقل فارس بِلالة، حاول السُقوط من على ظهر الفرس، ولكنه كان مربوطاً بصورة صارمة بالجلدِ على الفرس، وكلما فشلت محاولاته، كان يقترب الفرس أكثر من الأسد، إلى أن رأي على مسافة ليست بالبعيدة الأسد هائجاً، يلقى بالأشجار الصغيرة تحت قدميه وهو يزأر. هنا جمع فارس بلالة كل قوته، ومسك بفرع شجرة عرديب عملاقة كان الفرسُ يمرُ من تَحتها، و استطاع أن يفلت من الرباط، بالتالي يتحرر من ظهر الفرس، ويترك الفرس ينطلق وحده نحو الأسد، حيث دخل في معركة مع الأسد غطى غبارها الأشجار وحجب الرؤية، كان فارس بلالة قد صعد علي فرع شجرة العرديب يرتجف من الخوف، إلى أن خرج من غمامة الغبار الأسد، كبيراً، غاضباً،مرهقا. لم يستطع أن يميز لونا محددا له، ولا حجما، بل كان يراه في حجم الفيل مرة، ومرة في حجم الجاموس، ومرة كالجبل. تقدم الأسد نحو الشجرة التي عليها فارس بلالة. يبدو أنه قد أُرهِقَ من جراء معركته مع الفرس. رقد تحت الفرع الذي عليه فارس بلالة، كان فارس بلالة يرتجف من الخوف، إلى أن تبول على الأسد، وعندما أحس الأخير بالبلل نظر إلى أعلى،التقت عيناه بعيني فارس بلالة الذي سقط من الرُعب على ظهر الأسد، وبدون إرادة منه أمسك بأذني الأسد الكبيرين، الذي أزهلته المفاجاة، ونهض وعلى ظهره فارس بلالة وجري مزعوراً نحو القرية، وكان الأسد يزأر خائفاً، وفارس بلالة يصرخ وهو في شبه اغمائة. إلى أن دخلا القرية، وعندما شاهد القرويون فارس بلالة يركب على ظهر الأسد، زغردت النساء، وهلل وكبر الرجال، وصاح الأطفال مشجعين ومندهشين، كان الأسد المرعوب يدخل البيوت، يقفذ علي الزرائب، يخترق الأشجار الشائكة و الرواكيب، يدور حول نفسه، وفارس بلالة يُمسك به بقوة ورعب، إلى أن سقط الأسد وسط القرية ميتاً من التعب،هُنا تجمع القرويون، ليأخذوا فارس بلالة من ظهره، لكن أكفه ظلت قابضة على أذني الأسد إلى أن قام الناس بقطعهما. وعُرف منذ ذلك اليوم، في كل القُرى المحيطة بنهر شاري، إلى ما بعد تخوم مملكة ودّاي ودار مساليت؛ أنه لا يوجد رجلٌ أكثر شجاعة من فارس بلالة الذي ركب الأسد كما يركب الناس الحمير.

عبد العزير بركة ساكن
الخرطوم14-2-2009

2009/07/03

أسنان لا تُغَنِّي


تعادلنا ثلاث مرات على طاولة التنس، هي سريعة الحركة، لها طاقة لا تحد، ماهرة كالشيطان، ذات حرفية مدهشة في تحويل كل كرات الرد إلى كرات زوايا بعيدة، يصعب التعامل معها، وعندما انتهت اللعبة، مسحت العرق عن وجهها ببطن كفها، أطلقت شعرها الأشقر على ظهرها وكتفيها، ثم استدارت، استدارة سريعة لتقف قربي، مادة إليّ كفاً بيضاء معروقة، تبدو الدماء الساخنة القرمزية منفعلة تحت بشرتها الناعمة، الندية بفعل العرق.
استطاعت أن تتعادل معي!
قلت لها وأنا أقبض على كفها البيضاء الناعمة، بكف سوداء قوية بها جفاف متوارث من جدود عديدين.
طالما كنت ألعب مع الشيطان، فكيف أكسب؟!
ضحكت إلى أن احمر وجهها الشاحب، ثم هزت رأسها مثل مهرة تحتفي بجموح يخصها استشعرته فجأة، قالت:
دعنا نتمشى قليلاًً على الجسر...
عندما خرجت من حجرة الملابس، رأيتها تقف على الجانب الآخر من الطريق، تلبس كالعادة بنطلون الجينز المحزّق اللاصق على فخذيها وكأنه جزء منها، قالت إنها تستمتع برياضة المشي وخاصة عبر الجسر، ثم سردت ليّ تأريخ بُناة الجسر، بينما كنا نهرول عبره، ثم، فجأة سألتني:
يقولون إنك من السودان!
نعم.
يعني ذلك أنك عربي.
في الحقيقة أنا سوداني، ومسألة عربي وغير عربي عندنا في السودان مسألة شائكة وتحتاج إلى تنظير لا أطيقه. قالت في (إلحاح):
- ألا ينتمي السودان للجامعة العربية؟!
قلت متضايقاً:
- نعم.
- وهو أيضاً ضمن الدول الإسلامية..
أنا عادة لا أحب الخوض في مثل هذا الحوار مع غير السودانيين، لأن ثقافاتهم ضحلة فيما يخص السودان ومرجعياتهم إن وُجدت غير دقيقة.. ولكن يبدو أن المرأة تعرف شيئاً.. قلت:
- السودان دولة عربية إسلامية كما هو معلن.. ولم ُيستشار أحدٌ في ذلك، المهم، المواطنون فيهم العربي وفيهم المسلم، وفيهم غير العربي وغير المسلم..
- ماذا عن نفسك أنت..
- أنا.. لست عربياً، ولكنني لست شيئاً آخر غير عربي، ولست مسلماً.. ولكنني لست شيئاً آخر غير مسلم، والأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير.. فدائماً ما أكتفي بأنني سوداني وحسب.
ضحكت، ربتت على كتفي، أشارت نحو الأفق، أبراج وطائرات، قطارات، سيارات، دخان عوادم، ضباب، نجوم، بشر، ألعاب نارية، وطاويط،، كباري طائرة، قالت
- نحن هنا أيضاً أمريكيون فقط..
سكتت قليلاً، قالت:
- أنظر.. هنالك.. نحو برج Leadsman العملاق، هنالك يوجد نادي ليلي.. غنيت فيه قرابة العامين،
- هل أنت مغنية..
- الآن لا.. ولكنني كنت مغنية. كنت أشهر مغنية في هذا النادي.. بل كنت معروفة في أمريكا كلها.. وغنيت خارج أمريكا أيضاً..
- لماذا تركت الغناء..
بدأت متأثرة وهي تقول:
- حدث لي حادث وبعده أصبح من المستحيل أن أغنى..
حملقت في وجهها، في هيئتها، علني أجد أثراً لهذا الحادث، لكن بدأت كاملة متكاملة، لم تبدُ على وجهها أية آثار لعملية جراحية، المهم، بيني وبين نفسي عرفت أن الحادث كان عاطفياً، نفسياً أو جنائياً، من الأحسن ألا أثير مثل هذه الشجون.. وقررت تجنب الخوض في الموضوع، كما أنّ اهتمامي بالغناء وخاصة غير السوداني، ضعيف، قالت..
- أنا أجيد صنع القهوة.
فوافقتُ، ولو أنني ما كنت أظن أنّ المشوار سينتهي بشقتها، لكن لا بأس، هؤلاء الناس لا يزعجون أنفسهم في محاولة التفرقة ما بين حياتهم الخاصة والعامة، اتصلتُ بإحدى شركات التاكسي، في سبع دقائق، كنا نمر بسرعة مائتي ميلاًُ في الساعة عبر شوارع نيويورك، بعد عشرين دقيقة أخرى، كنا في لتها الرائعة، يا إلهي، المكان لا يوصف، لاحظت أنني مندهش، قالت:
- بيت الأمريكي هو جنته.
- أنت دائماً تتحدثين معي كأمريكية.
- أنا لا اقصد شيئاً سوى العموميات.. فأنا أحب أمريكا، لكنني لا أفضلها على كل بلدان العالم.. الرجاء أن تفهم ذلك..
- ماذا تقصدين بكلمة عموميات ؟‍‍
- إنها لا تعني شيئا غير عموميات فحسب، ثم ابتسمت.
كانت داني جميلة ولبقة ومباشرة، لها عينان عميقتان تشعان رغبة وغموضاً وغنجاً، جلست على كنبة مريحة، أشعل كل واحد منا سيجارة، من جهاز الكمبيوتر الشخصي انطلقت موسيقى جاز كلاسيكية صاخبة، قالت
- إنه لويس آرمسترونغ،تركتني في محاولة التكيف مع المكان وآرمسترونق وعطر My Home، أحضرت لنا القهوة، جلست قربي، قالت:
- هل تسمح؟
وقبل أن أقول شيئاً، أخذت تمشط شعري بأظافرها الشاحبة غير المطلية، شعر رأسي الخشن المنكمش على نفسه في دوائر شبيهة بمنظومة من السلك، كنت في حاجة ماسة لمن يداعب أسلاكي تلك والعبث بها، تماماَ كما تفعل داني الآن.
- شعرك مدهش.. ثم أضافت بسرعة..
- هل أنت متزوج..
- نعم.
- أين زوجتك؟
- في السودان.
- هل لديك أطفال..؟
- طفلة واحدة اسمها سارة..
- كم عمرها الآن..؟
في الحقيقة ما كنت أعرف كم عمرها الآن، عندما جئت إلى أمريكا تركتها تمشي خطواتها الأولى، لا.. بل كانت تجري وتلعب، لأنني أذكر أنها جرت خلفي إلى الباب.. نعم، كانت تتكلم، سارة الآن قد تقارب الثامنة عشر، أهذا صحيح؟‍.. أين هما الآن بل أين هم: أمي، سارة، أمل، لقد قفلت هذه النافذة منذ زمن بعيد، ربما تزوجت أمل، ربما ما تزال في عصمتي.. الأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير، فعندما غادرت السودان.. غادرت كل شيء ويجب أن أعي حقيقة ذلك.. قلت لها..
- داني..
- نعم.
- أنا لا أحب فتح هذه السيرة.
- حسناً، كل إنسان في هذه الحياة لديه غرفة مظلمة مخيفة ممتلئة بالثعابين، لا يحب الولوج إليها ولا يرغب أن يدخلها أحد، أو يطرق بابها.. مجرد طارق.
كنت دائماً ما أستطيع تمييز أصول الأمريكيات، الأسبانية، الإنجليزية، الآسيوية، الفرنسية، الإيطالية، العربية، الكاريبية أو الزنجية، باللون أو الاسم أو اللكنة أو حتى مجرد مكان الإقامة، داني من أصل ايرلندي، وهي جميلة وبدينة بعض الشيء، كانت تتجلى في حجرة نومها، كربة صغيرة من البلور، مدللة. عندما عدتُ من دورة المياه وجدتها هنالك، جلست قربها، قبلتها، قالت ليّ وهي تدلك فروة رأسي:
- أريد أن استريح.
- وماذا يمنع؟
قالت وهي ما تزال تدلك فروة رأسي، ويبدو أنها أثيرت بصورة أو بأخرى.
- حرّكْ تلك المنضدة قريباً من هنا.
جذبت المنضدة ذات العجلات قريباً، كانت الإضاءة خافته ولكن الرؤية واضحة وجيدة، على المنضدة قفازان ناعمان ارتدتهما، عملت أناملها في عينيها، فأخرجت عدستين لاصقتين وضعتهما على صحن صغير أعد لذلك، عملت أناملها في فمها، فانتزعت صفين من أسنانها البيضاء الجميلة والتي كانت تشع مستجيبة لغزل الضوء الخافت، طالما أعجبت بهما في صمت، وضعتهما في صحن أعد لذلك. قالت بفم خالٍ من الأسنان وقد بدأ غريباً:
- أترى، أن أسناني مستعارة.
وابتسمتْ ابتسامة في شكل فراغ كبير مظلم، ولكنها لم تثر اشمئزازي فالمرأة كما يقولون في الظلام: جسد ودفء. وأنا بالفعل استجبت لأناملها في فروة رأسي، أكثر من أي شيء آخر.
قالت وهي تميل بكامل جسدها نحوي، حيث ملأ عطرها انفي تماماً..
- ساعدني في إخراج البنطلون.. أرجوك.
وكنت أظن أنني سأقوم بسحبه بالقوة، وقد بدأت في ذلك، إلا أنها أوقفتني قائلة..
- فقط حرر زرارين في الخلف.
ثم بسهولة سقط البنطلون على فخذيها، ثم جذبته بأناملها الرقيقة الشاحبة وتحررت منه تماماً، ولدهشتي، عندما وضعت البنطلون جانباً، كان ثقيلاً، وعندما انتبهت، وجدت داني بغير ساقيها، قالت في برود ورباطة جأش،
- أترى أن ساقيّ.. هه..
وقبل أن أسأل أو أكمل دهشتي، تحدثت داني،
هي حكاية عادية، كنت أغني للجنود الأمريكان شمال العراق جنوب السليمانية في عاصفة الصحراء، طبعاً لرفع الروح المعنوية للجنود حتى يتمكنوا من تحرير الكويت وهي بلدة عربية أحتلها صدام، كنا وسط أصدقائنا من الأكراد والأتراك وبعض فعاليات المعارضة العراقية، ورغم ذلك، كنا حذرين من المفاجئات، ولكن لسوء تقديرنا أن جندياً من المعارضة العراقية، هو الذي نصب لنا لغما،ً أودى بحياة ثلاثة جنود، وفعل بيّ ما فعل.. هي الحرب، أنا لست غاضبة من أحد، النار لا تفرق بين جندي أو مغنية بوب.
انتزعت قميصها بنفسها، وكنت انتظر مفاجأة أخرى، ولكن صدرها كان فتياً ونهداها معبئان جيداً، ولا توجد تشوهات في صدرها وبطنها وظهرها، بأناملها المحمومة أخذت تفك زرار ملابسي، وأنا لا أدري فيما أفكر، ولكني كنت أرغب بشدة في الانفكاك من هذا المكان ومن هذه المرأة الصلدة، التي رغم كل ما رأيت من مآسيها، تتعامل وكأنها تضع العالم كله في جيبها، قلت لها:
- أريد أن أذهب.
قالت بثقة.
- سوف لا تذهب.. ستبقى معي للغد.
ابتسمت، بدا فمها هوة عميقة غامضة، ثم أخذت تدلك فروة رأسي بأناملها في صمت، وعن طريق نهايات أظافرها الحادة، كانت تمشط شعري الخشن، أستطيع أن أسمع خشيش احتكاك الأظافر بمنابت شعري، عالياً مثل طرق صفيح فارغ.
أكتوبر200

ضلالات



1/ فراش
تقلبت قليلاً في فراشها الرطب، قبل أن تنهض و تضع ثوبها علي أطفالها الثلاثة، فالبطانية العسكرية القديمة المزيقة فقدت دفئِها علي مر الأعوام، بطانية الصوف الخضراء، ابنتها الوحيدة آممنة ستبلغ السابعة عشرة بعد شهور قليلة و لكنها تعاني من التبول الليلي علي الفراش، علي الأقل مرة في الأسبوع و الذى أصيت به منذ اليوم الذى تلقت فيه خبر مقتل والدها في كبويتا الصيف الماضي علي يد الثوار.
2/ مشهد
آمنة " ترقد علي عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مفترشة علي الأرض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش" زهرة تربت علي قدم ابنتها المتغطية بملاءة "" مالك ؟! "" ترفع الغطاء يظهر و جهها المحكوك بكيمياء الكريمات الرخيصة شاحبا"
زهرة: يا بت ما ماشة المدرسة و لا شنو؟!
تنهض آمنة في تثاقل ترمي بالملاءة بعيدا عن جسدها تشمم المكان علها بالت عليه ام لا، عندما لا تجد " أثراً للتبول تنهض واقفة، تستعدل قميص نومها، ترتدى سفنجتها، تجمع جوالات و تخرج بها من القطية، تذهب نحو الحمام تجرجر جسدها الثقيل و أردافها الكبيرة"
أبو ذر و معاوية: " يصطفون خلف القطية يتبولون في نعاس و لذّة"
3/ مشهد
" خارج القطية يجلس الأطفال الثلاثة علي عنقريب قديم يحتسون الشاى، آمنة تسرح شعرها و هي تترنم بأغنية غير واضحة الكلمات و اللحن و في وجهها طلاء أبيض، زهرة تأتي من راكوبة المطبخ، تقف أمام أطفالها، تصرخ "
زهرة:........ من بكرة الفطور في البيت.
آمنة: " تلوى شفتيها في إمتعاض "... كل يوم فلم جديد.
أبو ذر: أنا ما عايز فطور في البيت... عايز افطر في المدرسة.
معاوية: نجي من المدرسة لحدى البيت في الحي الجنوبي و تاني نرجع المدرسة حنلقي الجرس دقا و الأستاذ حيدقنا...و لكن مات في مشكلة...انا حاجي افطر في البيت.....يا أمي...بأى شىء....
زهرة: إخوانك ديل ما عارفين حاجة.... ببكوا و ما عارفين الميت منو..." بصوتٍ عال" القروش كملت... آخر ألفين حأعمل ليكم بيهم الغداء الليلة...بكرة و بعد بكرة و بعده حتاكلوا لقمة بزيت لمن تكملوا شوال الدقيق و شوية الزيت الجابوهم الجماعة ديل، و بعد داك حتموتوا من الجوع أو تاكلوني أنا ذاتي..." تأخذ وعاء قربها و ترميه علي الأرض بشدة " في حركة غير متوقعة.
آمنة: متجاهلة انفعال أمها، أنا ذاتي المدرسة ما نافعة معاى " تنتهي من تمشيط ضفيرة بحركة قلقة سريعة"... انا عايزة ابيع شاى في السوق الكبير أو الموقف أو كبرى ستة أو حتي في سوق النوبة... زى البنات...آها...كلمتك يا أمي، علي الأقل أساعدك في رسوم المدرسة و اشترى ريحة كزيسة و كريمات و اشوف الدنيا دى فيها شنو... أنا كرهت الفقر و الجوع.
معاوية: أنا عايز اشتغل في كارو...الم قروش الفطور و الرسوم بعد داك ارجع المدرسة أجمد سنة و اقرا سنة لحد ما اكمل المدرسة و اتخرج.
أبو ذر: أنا عايز اشتغل عسكرى في الجيش بس...
زهرة: " مغتاظة " عشان تموت زى أبوك و تريحنا.
ابو ذر: عشان اجيب قرنيت و أقتل بيهو آمنة (ال...) دى " يأخذ من وراء ظهره قرنيت يفك التيلة و يقذفه بإتجاه آمنة بحركة عسكرية رشيقة".
آمنة: " تنهض و تهرب بعيدا، يسقط القرانيت قرب رجلها و ينفجر مبعثراً قطع الطين و الزبالة و الحصي التي يتكون منها في الساحات شاسعة " يا وسخ...دا شنو؟
أبو ذر: عشان تاني ما تبارى الرجال...حأكتلك.
آمنة: أنا...
أبو ذر: ايوا..إنتي.. الأولاد كلهم قاعدين يقولوا كدا....
آمنة: أنا... يا وسخ... انا قاعدة ابارى الرجال ؟!
" يصمت الجميع، رتدون ملابسهم، يخرجون الي المدرسة تبقي الأم وحدها".
4/ ضلالات مشهد
تعرف الأم كل شىء عن البنت، ضلالاتها الصغيرة و الكبيرة، مراقدها و مقاماتها كل عشاقها الكثيرين، و يعرف الأطفال، و تعرف هي أنهم يعرفون و الأم تعزى إنحراف ابنتها الي سببن: غياب اسماعين و الفقر. كان سيكمل عامه السادس بالجنوب و بذلك تتاح له العودة الى خشم القربة، في الحقيقة لم تكن علاقتها بزوجها بتلك القوة التي دائماً ما يقتضيها الزواج، و لكن كانت ظروف معايشة و تربية أطفال لا أكثر، و لو ان اسماعين ما كان عنفياً غليظ القلب فظا مثل كثيرا من ازواج صديقاتها، و لكن كان الشهيد كسولاً غير مبالِ و بخيلا، لا يخرج الألف من كفه إلا بعد لأى و مجاهدة، و لكنه فوق ذلك كان يحب أطفاله و يشترى لهم رؤوس النيفة في كل نهاية و منتصف الشهر طوال فترة تواجده بخشم القربة.
نعم، انه يشرب البغو و العرقي، مثله مثل أزواج صديقاتها ليبدو رجلا فحلا و متكاملا، لكنه لا يضربها مثلهم و لسانه عفيف. لكن أكثر ما تعيبه في الشهيد رحمة الله عليه مغامراته النسائية و ما تزال أصداء فضيحته مع ابنة مبشر كاجيلا جمعة تملأ الحلة طنينا، رغم ذلك حزنت لموته حزناً حقيقيا، و ربما كان باطنه الخوف علي مستقبل الأطفال. زهرة لا تفهم كثيرا في الدين ، هي مسلمة حقيقية، تصلي و تصوم رمضان ولو أنها لا تحفظ من القرآن سوى سورة " الحمدلله رب العالمين " و سورة " قل هو الله احد، الله صمد " و دعاء " الذاكيات الصالحات" حفظتهم من أطفالها عندما كانوا يستذكرون دروسهم بصوتٍ عال. ظاهرها الديني هذا يضعها في الحى الذى تسكن فيه ضمن النساء المتدينات، إلا أنها ترفض فكرة ان يزف اسماعين كوكو مرفعين إلى حورية في الجنة تاركاً لها اولاده و بنته الملعونة لتربيتهم وحدها و هو لم يترك لها قرشاً واحدا.
ها هو الإحتفال يجرى الآن أمامها و في حوش البيتها تحجب سحابات غباره الرؤية و يكح لها الصغار و الحملان و الكتاكيت، و ينطط فيه العسكريون و كبار الضباط و بعض اللحى المدنية و غيرهم من الغرباء يعرضون و يبشرون لها، مشهد لن تنساه و يتكرر يوميا في صحوها و منامها. عندما ذهبوا، ذهبوا إجمالي ما تركوه كان كما يلى:
50 كيلو دقيق استرالى، جوال بلح باعته في حينه للنساء اللائي يصنعن العرقي في الجوار.
1 جركانة زيت سمسم، سعة خمسين رطلا.
10 رطلا من البن الحبشي، و كرتونة لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين، و كثير من الأغبرة و أثر العربات و بعض اطفال الحي بملابسهم الممزقة و سراويلهم المتسخة يفتشون في الأرض العملات المعدنية التي قد تسقط من جيوب جلابيب الراقصين الكبيرة، و تركوا صدى أيقاع و صوت فنان خليع يتلاشي تدريجيا في أزقة و قطاطي و رواكيب كمبو كديس ثم يموت للأبد بين أشواك المسكيت و لكن يظل الأطفال برددون اغنياته لأعوام طويلة.
لما تأكد سكان كمبو كديس من ذهاب الغرباء و تلاشت اغبرة عرباتهم الكثيرة، و صمتت مكروفوناتهم و خرس مغنيهم، جاءوا افرادا و جماعات يعزون في وفاة صديقهم الوفي ابن كمبو كديس البار اسماعين كوكو مرفعين، و في ذهن كل واحدة وواحد منهم آخر ذكريات تخصه مع اسماعين كوكو مرفعين و كل واحدة وواحد منهم كان يتحدث لمن يصادفه عن آخر مرة راى فيها المرحوم.... آخر ونسة... آخر كأس، آخر سوق، آخر حفلة و آخر كرنق، حليمة بنت الكرنقو سوف لا تغفر لنفسها أن حذلته مرتين، لكن مبشر جمعة وحده الذى يعرف أن اسماعين كوكو مرفعين لم يقتل عرضا، و لكن قتل عمدا، و هو الذى قتله، لقد ربطه بحبل بندا عند معراقي من الامبرورو يوم الجمعة الماضية و ها هي جمعته الثانية و التي ما كان عليه أن يحيا بعدها بأية حال من الاحوال... اسماعين خاين... كسر بتي كاجيلا و نكر و ابا يدفع كسر الباب... و حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو...... وجبت ليهو الجودية فوق الجودية... وهو عارف انا ما حاخليهو ساكت... حأكتلو.
كان مبشر جمعة أكثر الناس بكاءاً و اسفا علي وفاة اسماعين. كاجيلا تُحمَّل اسماعين الخطأ في كل شىء هو كسرنى مرتين... أنا سامحته في المرة الأولي ودانى الداية عدلتنى... و قلت ليهو اسماعين اختانى عليك الله... و لكنو تانى كسرنى قمت كلمت أبوى.
سمع كل سكان الأحياء المجاورة لكمبو كديس صراخ النساء صديقات أسرة اسماعين كوكو، بل سمع الصراخ بوضوح تام في قشلاق الحجر و كمبو كريجة و الإدارة المركزية و المستشفي.
زهرة كانت صامتة تعقد يديها خلف ظهرها و تمشي بين المعزين، تنظر إليهم في إستغراب.. الحاصل شنو ؟ قبل شوية مش كنتو بترقصوا و تعرضوا و تغنوا هنا... ليه هسع بتبكوا و تصرخوا!.. الحاصل شنو ؟! و فاقت زهرة عندما صفعها أبكر جنى الملايكة البلالاوى علي خدها الأيمن ثم بكفه الآخرى علي خدها الأيسر و عندما فهمت مَنْ رقص و مَنْ و مَنْ مات.

5/ مشهد
أبو ذر: " يرمي شنطة المدرسة المصنوعة من كاكى الجيش علي بنبر خارج القطية في طريقه الى داخل القطية يرفس القطة التي تتسول بقايا طعام علي الأرض، يدخل القطية، ينظر الى امه الراقدة علي العنقريب يسأل " الغداء الليلة شنو... أنا جعان....
بينما لا أحد يجيبه يسمع صوت معاوية يدندن بأغنية، يقترب من القطية، يرمي شنطته علي البنبر " و يدخل القطية، يسمع صوت آمنة من بعيد تغني أغنية هابطة، تقترب من البنبر، ترقص في إنتشاء، تهز كتفيها طربا، تلقي بشنطتها علي البنبر، تدخل القطية، ترمي بجسدها الصغير علي العنقريب.
آمنة: هييه ازيكم....
زهرة: ممتعضة وهي تنظر اليها من ركن قصي من عينها " اهلاً...
آمنة: " ترمي بطرحتها علي العنقريب الذى يخصها، تخلع قميص المدرسة دفعة واحدة و ترمي به هو ايضا علي العنقريب، ترفع ذراعها اليسار الى اعلي تتشمم رائحة إبطها " هه هه...
زهرة: " تلوى شفتيها، و تعرف ان رائحة جسد ابنتها اصبحت و منذ فترة رائحة امرأة،و تعرف أن رائحة المرأة ربنا خلقها لكي تجذب الرجال و رائحة بنتها غير عادية، أنها أكثر كثافة و قوة من رائحة كل النساء اللائي عرفتهن.... و تعرف أن زهرة تعرف. وتريد أن تبقي رائحة جسدها كما هي لذا رفضت العطر الرخيص الذى اشترته لها أمها من السوق بما اقطتعته من خبز البيت" مش أحسن تستعملي الريحة بدل من ريحة اباطك العفنة دى... الريحة ليها شهر قاعدة في الدولاب.
آمنة: " ترقد علي العنقريب بقميص النوم محاولة وضع رأسها ما بين البرش و المخدة " دى ريحة ميتين يا أمي... أنا ما بستعملها.
أبو ذر: مش أحسن من ريحة البول والصناج!
آمنة: "تنهض من رقدتها و تجلس علي العنقريب فجأة في وضع هجومي " لو ما ولدك الوسخ ده... أما حأكون ليكي... أخير يختانى.... انت عايز مني شنو ؟ عامل قدومك الطويل ده.
أبوذر: " يضحك، يخرج من القطية يمشي نحو المطبخ ، يعبث بالأواني و طبق الكسرة، فجأة ينادى بأعلى صوته " تعالوا شوفوا في شنو في المطبخ... اجروا تعالوا شوفوا البرميل في النار.
معوية: " معاوية و آمنة يجريان نحو المطبخ، يعود معاوية بسرعة الى أمه يسألها في حزن " ده شنو يا أمي ؟
زهرة: "تبقي في مكانها تحملق نحو باب القطية"... كعكة... كعكة كبيرة سويتها للملايكة.
آمنة: سجمي... أمي جنت.... " تجرى نحو أمها و التي لا تبرح مكانها مبتسمة في بلاهة، تحتضنها و تبكي بحرقة.
أبو ذر: " يجرى خارج المنزل و هو يصرخ في هستيريا " أمي... أمي.. أمي..
6/ الملائكة
الجيران والباعة بسوق النوبة،و زبائهم الكثيرون، الأطفال العائدون من المدارس، المتسكعون بالشوارع، جزارو سوق النوبة، أصحاب الكوارى، كمال زكريا، السكارى الذين كانوا بالكنابي المجاورة، و كمبو كديس، الصادق حسين باباكر في صحبته عشرين من عمال الكمائن، علي رمرم، غادة الجميلة، كلبان، الأطفال و الشباب الذين يلعبون الكرة في الخور الكبيرة. امتلأ الحوش الصغير بهم، أولاً أطفأوا النار من تحت البرميل الكبير، تولى جبرين الجزار و حمدو العسكرى و زكريا و حاج عثمان ألقاء البرميل علي الأرض و دفق محتوياته، ثُم هم المحسنون بتحرير الأشياء من العجينة الضخمة: أحذية الأطفال، البطانية القديمة العجوز، الملاءات ال، آنية الصيني و التي اشترتها بعرق دمها من سنوات مضت، حبال جوال السكر البلاستيكية، الملابس الداخلية، الكبابي، شظايا زجاج دولاب العفش القديم و الذى كانت دائما ما تفتخر به، كراسات المدارس القديمة، ما تبقي من معاش اسماعين ألفان من الجنيهات وجدا معا وسط الكعكة العظيمة، جرادل المياه، آنية رمضان و مسبحتها، صابون الغسيل، عطر آمنة الذى رفضته، توب الجيران، قفة الكجور، و طواطم الاسبار.
كانت كعكة، لم يرِ احد أكبر منها في حياته، تعوم في الزيت السمسم و يفوح منها عطر السيد علي بطعم السكر و ما تبقي من ملح و كول و لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين.
بينما كان الناس مشغولون بتفكيك الكعكة... طفلاها و ابنتها يصرخون، كانت هي ساكنة و علي شفتيها ابتسامة رضا عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة أحتفاءاً بعرس الشهيدة: التي كانت هي نفسها.

بت الجزار


بدأت أفكر في الموضوع بصورة قاسية بعد أن تحرك البص مباشرة متجهاً نحو الخرطوم، الأفكار المظلمة تنتابني بين لحظة وأخرى لدرجة أنني تمنيت أن أجدها قد توفيت ولو في حادث سير، كنت لا اعرف كيف تلتقي أعيننا بعد أن حدث منها ما حدث، هل سينتابني ذلك الشعور الحلو الذي دائماً ما يسيطر عليّ وأنا أراها وهي تكبر يوماً بيوم وتزداد عقلاً وخبرة في الحياة وجمالا ويتجلى وجهها الأسود الحلو الناعم براءة، كنت حينها أحس كما لو أن كل خلية في جسدي تتجدد وأنني اكثر طمأنينة وأقرب للحياة مني إلى الموت، بالرغم من تقدم العمر وأمراضه الكثيرة.. واكثر ما يعذبني فكرة أنها خانتني، خانتني أنا بالذات، ولكني أيضا أفكر في الأمر من جانب آخر. من جانبي أنا .. لأنني ما كنت انظر لعلوية كامرأة أبدا، يبدو أنني أضعها في مكانة رجل ما فوق الأربعين كامل النضج ومستقيم السلوك.. أما أن تذهب علوية مع رجل غريب إلى خلوة وان يغويها أو يلمسها مجرد لمس..بكامل رضاها ودون أن تحس ولو بعقدة الذنب أو خيانة الثقة التي أعطيتها إياها ... وان ... لا ... أمر لا اصدقه كيف يتسنى لعلوية ابنتي أنا التي أنشأتها منشئاً سليماً وربيتها من مال حلال اكتسبته بعرق جبيني واودعت من اجلها مالاً في البنك تسحب منه لمصروفها كما شاءت ... أن تتزوج زواجا عرفيا.. أكون أنا آخر من يعلم، كل القرية تعرف ذلك، جميعهم.. جميعهم.. إلا أنا .. لماذا تجعلني صغيراً تافها أمام الناس وأنا ما يملأ عيني تراب الدنيا كلها... كيف تنظر إليّ... ماذا تقول... هل تنكر ذلك... أتبكى.. ربما، هي نفسها ضحية لذئب لا يرحم لقد قرأت كثيرا في الجرائد عن زواج الطالبات العرفي، ولكني أحلته إلي أسباب مادية، إطلاقاً لم أفكر لحظة في علوية.. أن تكون علوية واحدة من هولاء البنات المطلوقات كما كنت اسميهن، ومازلت، البنات اللائى عجزت أسرهن في توفير مصروفهن، أو تربيتهن تربية كريمة تكسبهن العفة أو ربطهن في البيوت.
لم استشر أحدا في كيف أتصرف، لقد وضعت سنوات خبرتي الطويلة في العمل المدني والعسكري وتجاربي الحياتية ومخزوني المعرفي موضع التحدي.. فإذا لم أتمكن من عبور هذه المحنة وحدي بكل هذه المكتسبات فلا فائدة من الحياة التي عشتها. هذا التشجيع للنفس لم يمنع الضعف والانكسار الذي أحس به الآن والخوف.. نعم الخوف الحقيقي من إنني أقوم بفعل قد يحسب ضدي، بل قد يسئ إليّ والى أسرتي وآخرين غيري. في الحقيقة كنت مرتبكا عكس ما أبدو عليه في الظاهر، بحثت في جيوبي وجدت أنني أخذت ربطة من المال عشوائياً تحتوي على خمسمائة ألف جنيه سوداني، حسبتها مرتين، انقطعت دائرة البلاستيك التي تحيط بها. أدخلت المبلغ كله في الشنطة محتفظاً برباط البلاستيك المقطوع، اصدمت أصابعي بشيء صلب بالداخل..إنها السكينة الكبيرة، دخلت الشنطة نتيجة للاستعجال أو الإحساس الداخلي بأنني قد احتاج إليها، أو ربما دسها ليّ شخص فكر في الأمر بطريقة مختلفة، أخذت الهي نفسي بلعبة قديمة كنا نلعبها في طفولتنا مستخدماً رباط النقود المقطوع، كنت في حاجة لأي فعل يلهيني عن التفكير في علوية... عندما أجدها سأفكر في الحلول في ساعتها، لا احب ان يملي عليّ أحد رأيه، حتى ولو كان أخوها. في المقعد المجاور امرأة أربعينية غير متزوجة، طوال الطريق تقرأ مجلة حواء، يفوح منها عطر قوي، تسرق النظرات إلى لعبتي من وقت لآخر، وكنت اهتم بها، ولكنني اخفي ذلك بصورة جيدة كما أنني لا احب التحدث والونسات أثناء السفر، لان السفر هو فرصة جيدة لكي أخلو إلى نفسي دون أن يزعجني أحد، قد أنوم، النوم أيضا لا يتوفر في حياة سريعة ملآنة بالكد والجري وراء الرزق ولكن من اجل من؟
- بتكلم معاي.
- منو .. أنا ..آسف ..رأسي ملآن بالمشاغل وظاهر عليَ قاعد اكلم نفسي..معليش.. أزعجتك
قالت وهي تلم ثوباً أنيقا إلى جسدها.
- ولا يهمك الناس كلها مشغولة.
حاولت النوم حتى لا أتكلم مثل المجنون وضعت رأسي على المقعد الأمامي، أغمضت عيني، أخذت أفكر: أين تكون علوية الآن.. في أي وضع.. في النوم نزلت عليَ ملائكة الأسئلة بجواب خطير.
**
نزلت عند الجامعة بعد أن أكد لي سائق التاكسي إنني سوف أجدها أو أجد صديقاتها في ذات المكان الذي أنزلني به وفعلاً وجدتها بسهولة ويسر، وربما هي التي وجدتني، حين رأتني من مسافة بعيدة وأنا أمر إمام الكافتيريا، هرولت نحوي ومعها صديقتان، وجدت نفسي دون شعور مني انظر أولا إلى بطنها، بصورة غير طبيعية، وربما لاحظن ذلك، علقت الصديقتان على إنني أبدو كما لو كنت أخا لعلوية وليس أبا، يشرن إلي مظهري الخارجي وما يتوهمنه من صغر السن، كن يتحدثن باستمرار، أسال نفسي أنا أيضا باستمرار، كم منهن متزوجة زواجاً عرفيا،ً كم منهن يدعرن، كم منهن عفيفات؟! عندما خلوت بعلوية، فاجأتها دون مواربة أو مراوغة،
- انتي متزوجة زواج عرفي مش كدا؟!
قالت وقد انهارت تماماً من هول المفاجأة،
- عرفت!!
- نعم..عرفت.
وبحركة سريعة سقطت على رجلي، أخذت تبكي بصورة جعلتني أتعاطف معها، وربما اقف في صفها، إذا كنت اكثر صراحة أقول إنني لمت نفسي، بدأت لي طفلة في عهدها الأول، تجمعت بعض الطالبات، سألن إذا كان قد توفى أحد أفراد الأسرة أو إن هناك خبراً أسوأ.. ولكن لم نجب بشيء، طلبت منهن أن يتركننا سوياً لبعض الوقت، لم تستطع أن تقول شيئاً، كانت تنظر إلى الأرض وتبكي في صمت قلت لها،
- انخدعت فيك يا علوية.. انخدعت؟1
قالت بصوت مبحوح،
- كنا حنعلن زواجاً قريب جداً ..ولكن كل شئ بإرادة ربنا..
- القرية كلها تعرف.. ماعدا أنا فقط.. الجميع يضحك عليّ .
سألتها ،
- وين الزول دا؟
**
قالوا لي انه في الحصة الآن، بعد ربع ساعة يمكنني مقابلته، شربت الماء البارد جلس قربي خفير ثرثار، ما ترك شيئاً لم يسألني عنه، لم ينجدني منه سوى الجرس الذي، دق كمطرقة في رأسي، قال لي الخفير وهو يشير بفمه ويده وعينيه نحو أستاذ يمر أمامنا،
- دا هو أستاذ سالم.
فالتفت الأستاذ إلى ومضى ظاناً أنني أب لأحد التلاميذ، ولكن الخفير صاح فيه منادياً،
- الزول دا من الصباح منتظرك.. يا أستاذ.
طلب كرسي، جلس قربي في البرنده سأل ماء من اجلي، كانت يده ملآنة بالطباشير ويبدو مشغولاً جداً حيث تتحرك عيناه هنا وهناك بحثاً عن مفقود ما، كنت أحاول أن أجد ملمحاً فيه يدل على فعلته ولكنه كان شخصاً عادياً مثله مثل كل الناس، قدرت عمره وأخلاقياته وجزره العرقي أيضا.. قلت له معرفاً بنفسي.
- أنا من قرية الدومات.. هل تعرف زول من القرية دي ؟
فكر قليلاً ، قال
- ..لا ..
- علوية ..علوية..هي من قرية الدومات، علوية ما بتعرف علوية؟
قال باستغراب،
- علوية..منو؟
- علوية إبراهيم عثمان وردان ..
- آه ..نعم علوية البتدرس في كلية التربية، ايوه قاعدة تحضر العملي هنا عندنا في المدرسة .. في شعبة الرياضيات .. أنا رئيس الشعبة.
قلت له،
- بس!!
قال،
- تقصد شنو ؟
- أنت متزوجها زواج عرفي مش كده..
" قلت معتمداً الصدمة والمفاجأة كطريقة لها فائدة كبيرة في الحصول على اعتراف المجرمين"
قام من الكرسي ثم جلس، قال للخفير الذي أرخى أذنيه واخذ يستمع للحوار بتلذذ تام،
- امش من هنا .. امش شوف شغلك،
ثم قال موجهاً كلامه لي،
- ده كذب .. علاقتي بعلوية ذي علاقة كل المدرسة بيها ..لا زواج ولا غيرو.. أنا شخص محترم وأستاذ ..وما عندي وقت للهضربا البتهضربا دي ..أنت ذاتك منو ؟
قلت له ببرود،
- أنا إبراهيم وردان، لواء شرطة ،، بالمعاش،، اعمل في سعاية الماشية،، برضو بذبح،، بذبح باستمرار،، عندي جزارة صغيرة في البيت، في وقت الفراغ بشتغل مُعْراقي، عارف معراقي يعني شنو.. لحظة.
أدخلت يدي في جيبي أخرجت ورقة بيضاء صغيرة مفتولة في حجم راس الإصبع الصغير في شكل إنسان،
- ده أنت سالم علي عباس الوالدتك نفيسة جبرين العيش.
هززت الشيء أمامه وقمت بوضعه في الشمس، كان يحملق في الشيء بتركيز واهتمام بالغ وبعد ثواني معدودات هرب الشيء من الشمس بتلقاء نفسه واستقر في الظل... كررت العملية ثلاث مرات، أخرجت خيطاً طويلاً من الشنطة النوع الذي يستخدم في صيد الأسماك، بالسكينة الكبيرة قطعت منه ما يقارب ربع المتر، أعدت السكينة في الشنطة، أحطت بالخيط عنق الشيء في شكل انشوطة، قلت له وهو ينظر في ذهول،
- دا أنت سالم ود نفيسة.
وقمت بجذب طرفي الانشوطة فمسك عنقه وصرخ في جنون، صرخة جمعت كل المدرسة في دقائق أحاطوا بنا، قلت له،
- في خمسة ثواني فقط حاتموت.. اها عرفت معنى معراقي .
قال بصوت مبحوح بينما يتصبب عرقاً.
- كنت حاتزوجا علناً في الإجازة،
انتبهت لكف تربت في كتفي وصوت وقور هادئ،
- أنا مدير المدرسة..تعال يا حاج إبراهيم..تعال معي إلى المكتب.
اخذ بيدي إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة الكتب وعبق الطباشير، أكد لي المدير انه يعلم بزواج سالم من ابنتي عرفياً، وهو منذ البداية ضد الفكرة، لكنه أيضا أثنى على سالم وخلقه القويم وانه رجل مسئول، قال بإمكانه أن يلعب مع البنت، لكنه فضل الزواج العرفي .. أكد لي انه سيلزم أستاذ سالم على إعلان زواجه والآن..وأضاف بحماس: إنه بمثابة ابني.
**
قال المدير وقد فرغنا من الاحتفال الصغير الذي أقيم في بيته إحتفاءاً بإعلان زواج ابنتي علوية للأستاذ سالم،
- نحن الآن أصدقاء وأهل.. وأنا عندي طلب واحد منك يا حاج إبراهيم، طلب بسيط جداً .. !
- شنو ..اطلب اي شئ بسيط أو غير بسيط.
- عايز الموضوع بتاع العروق دا ..والله أنا عندي مشكلة في الدنيا مابيحلها إلا الشيء العندك دا ..الحلّ مشكلة بتك علوية..حايحل مشكلتى .
قلت له،
- أنا موافق، ولكن توعدني ما تحدث أي شخص كان، لما يدور من حديث بينا الآن.. وعد شرف
قال،
- أوعدك وعد شرف
قلت له،
- الموضوع بسيط، يحتاج إلى رباط بلاستيك النوع البيستخدم في ربط القروش، وورقة صغيرة مقوية وخيط متين، وأستاذ رياضيات جبان، ومدير مدرسة عندو مشكلة معقدة لا أكثر.