2010/09/28

بَيتيَ:غَابةٌ صَغيرةٌ وَجبلٌ،بَيتُهَا قَلبَيْ. - (مجلة الى الثقافية)

قلبي زرائبُ خنازيرٍ، أعشاشُ دجاجِ وزنبقةٌ سوداءْ. في فصل المطر تمر البروق عبر نافذتي، تستريح قليلاً على لحافي الباردِ، تدفئه، تغني لي بهزيمها العنيف. تدهش دجاجات القلب و خنازيره، قلبي مطرقةٌ وعيناها طبلانْ.
في هذا الصباح، لا امرأة لي، لذا ظلت أظافري تطول، نمى الفطر الطيب في إبطيَّ، وعلي هامتي يسكن العنكبوت. عندما لا تكون امرأتي في البيت، أذهب الى المقبرة ، احمل لها بقايا ماتركت في غرفة النوم، جرائد صفراء، قصائد لم تكتمل، اشرطة فديو لحفل تخرجها من الجامعة، احذيتها الكثيرة الخالية من الكعوب، ورود و اناتيك صغيرة، جهاز موسيقي عاطل، قوارير عطر كثيرة،هاتفها الذي ظل يرن الليل كُله- كنت اخشي ان تكون هي من يتصل- آنية المطبخ، جواربها، صور طفولتها، سريرنا السنطي الفسيح، عيناها مسمرتان في كل زوايا البيت، يدها تلوح لي خلف الستائر، حقائبها الكبيرة المملوءة بالأشياء، التي لم تستخدمها قط، صورتي الشخصية في ملف المرض اللعين، لحظة أن شاهدتها أول مرةٍ، أحمل لها قُنينة الدواء، مصاحفها و كتيباتها الصفراء.
عندما لا تكون في البيت فانها حتما تكون هنالك، تملأ الغياب اغنيات باهيات، لماذا يترك لك الراحلون مسئولية ذكرياتهم، لماذا يتركون لك البيت وحدك، لماذا يتركون ملابسهم هنا وهنالك، لماذا لا يحملون معهم بعض الأمتعة الخاصة، مثل اشجار الزينة و الأصص، دولاب الملابس المحشو،عطر الصندل، الأعشاب الطبية، والجدران. لماذا يتركون رائحة اجسادهم في المكان، لماذا لا يأخذون ارواحهم أيضاً؟
عرفت الآن الحكمة من أن أجداي كانوا يدفنون مع الراحل كلما يخصه، لأنهم كانوا يعرفون، ان الراحل يبقي حزينا في متعلقاته.
في هذا الصباح لا امرأة لي، ليس هنالك من يطقطق اصابعي لينبهني ان وقت العمل قد آن، و أن الأطفال سيمضون الى المدرسة و ان الطريق اليوم به وردتان، ولا موسيقي غير نشيد الحياة، كل تلك الأغنيات سوف لا تجد شفةً تموسقها، وجسداً يرقصها، تبقى في أغبية الروح، ما بين دجاجة وأخرى خنزير، يمرق انوفه في الوحل، يبحث عن اصل الأشياء، تقرصه دودتان، الرجل الذي قُدَّ من عُشبة الخريف، لا يثمر الا في ساعة الفصول. يرتب ايقاعِه بنشيد الوقت، ولا وقت لي. أنام في ارجوحة صمتي و لا صمت لي. اتجول مابين اليوم و غروب الشمس، لا شمس لي. أعرفُ كيف اضحك بنصف قلبٍ و أبكي بالقلب كُله، مثل صديقي أحمد زكي. تعلمتُ من الطائر فلسفة الريشة، فكتبتُ. وتعلمتُ من الريشةِ حكمةِ الطيران، فحلقتُ بعيدا في سماوات الحبيبة. علمتني الحبيبة ألا اثق إلا في الجسد ، فهو لا يكذب بل يبقى مثل الوجود: فانيا ودائما.
في هذا الصباح تحكي لي العُشيباتِ ما يبكيني و يضحكني، تحدثني عن الله، وكنت اظنني قد مررت على الجبل مرات كثيرة، و أنني خبرتُ الغابة مثل كف يديّ، و أظنني في الوحدة صرتُ العالم كله، وكان البرقُ يمر بنافذتي، يقبِّلُ طينَ الشبابيك، يتوعدني بهزيم يطيح بالعالم خلف الطرقاتِ المنسية. العالمُ يبقى دائما تحت سطوة البرق، يبلل المطر شفة البرق، يلعق بلسانه الروج البني، تتبسم العصافير الصغيرة المتخفية تحت النافذة، عصافيرُ الكُلجْ كُلجْ.

صباحي يخلو من امرأةٍ، أعني : يخلو من طعم الخبز الطازج وثرثرة الماء.

على كفي تنمو اشجار الجوغان، تمتد اغسانها في دمي، تظلل وجهي وتركُ عليها اليمامات، تزرغ اليمامات في عيني، وعندما ينتهي موسم المطر الصيفي تثمر الذكرايات الجميلة. لم يكن ضمن احلامنا الموت، كنا نتجاهله و نثور عليه لأننا لم نتعرف على ثروته العدمية بعد ، لعبنا على ظهره الفسيح ورسمنا تمائم البقاء في ساقيه بالحناء و الحنظل، وظننا – وكنا محقين- إنَّ الموت مات، و قلنا لي: احذر الحياة. الحياة تغويني كسُرَةِ الطَفَلةِ. كسرطان حميم يذهب بأنفاسك الشهية نحو بئر الإختناق، مثل كابوس لا فكاك منه إلا بالرحيل.
يخلو الصباح منك: يخلو مني، يبدو غريباً عن نزق الفجر ووسوسة اللإنتشاء.

عبد العزيز بركة ساكن
الكرمك
26-7-2010

ثِمَارُ البَيتِ - خاص كيكا

قال لي جدي:
ثمرة البيت الظل، ثمرة الشوكة الوخز، ثمرة الوخز الآهة.
ثم نام، قلت له: ما ثمرة النوم؟ قال : الأحلام.
ثمرة الأحلام الإنسان.
وثمرة الإنسان الحروب.
ثم شرع طبوله في وجهي، شرعت في وجهه كتاب الانفجار الكبير لجيمس هاوكينج.
وأخذنا نتجادل في معنى الكون.
عرجنا لسبل الخير و المعصية، تجادلنا في أنني – إذا صُمتُ- أصبح طودا و أكبر كذاكرة الأطفال، وان الطفل يولد مختل الأخلاق فيفسده أبواه أو يصبح مثلي – من رحمه الله- مفخرة الضالين.
أنا لا اكتب شعرا.
بل أكتب نثرا بأدوات الشعر، أو اكتب شعرا بألوية النثر، أو أني أتحرر من قيد الاثنين الذهبي معا ، و أمشى في الظلمة ممتطيا شاع الروح المجنون كسعلوات العقل الغيبي.
جدي يفهم معنى الشعر المكتوب بغير حروف وصياح، ويفهم في موسيقى الضوء وكيمياء الوشم وأنا الجاهل بما يجهل جدي، و العارف في السر: حريف الروح.
من يغضبك يثير جنون ذنوبك.
من يكرهك، يقول أبي: جنبك شرور محبته.
ثمرة البيت الأطفال، ثمرة الأطفال الأم، ثمرة الأم أبي.
ثمرة الشوكة خوف الشجرة، وثمرة الشجرة أن يألفها الطير.
ثمرة النوم سفر الروح، ثمار الروح السيَّاف.
ثمرة الأحلام بنات الليل، ثمار البنت الأحضان.
ثمرة الحرب.
ثمرة الإنسان.
ثمرة الوهم.
ثمرة النص السردي كتابُ هكذا تكلم زرادشت.
ثمار زرادشت الأديان.
ثمار الأديان.
ثمار الأسئلة.
ثمار طيور الفجر.
ثمار المخبول الموتور: في أديس أببا، كل شيء بارد.
ماعدا النساء و البيتزا دي- نابولي.


أديس أببا

14-9-2010

2010/09/16

فِي المِحْنةِ شَخْصَانْ - خاص كيكا

أنا شخصان: طينيٌ ورمليٌ. في جوفي قلبان: بنيٌ و أسودْ. تعشقني بنتان: تُوتا وهند. وفي نحري ملكان: سيفٌ وحربةْ. لي قبران: روضةٌ من رياض الجنة وقبو من نار. فابعثني يا صاحبي،أينما شئتَ. ابصقني، كيفما كنتَ. ارسمني على كهفك أو كفك أو في بوصلة عينيك. اصلبني أو توجني، فأنا فعلان و مفعولان: نَبِيٌ فِي معركةٍ وفي الأخرى شيطانْ. ش
استيقظُ إذ استيقظُ من نومي سكران. أتوهم أني ملك و أني صعلوك و أني كعبةٌ تربةٌ. أتوهمُ أني أتوهمُ، فيفجعني الإعلام بان لي وطنان. وطنٌ كالطين و آخر كالطيان. ابني منهما عرشي، اغسل فيهما وجهي، وأتبولُ أو أتوضأُ بالنيل الأزرق و الأبيض و الأحمر و الأسود كأسماك البلبوط الوحلانة في ألم الطوفان. واني أتذكر إذ أتذكر كل نِساء العالمِ فِي قُبْلةْ.
واني استنكر إذ استنكر هذا الليل المتبرج و المفتون بقطرة ماء يستخلصها من إبط الوردة طنانٌ مجنونْ، استودعُها- باسم الله - رحم البنت.
لم يخلقني في تلك الليلة ربي، لم يقرأ جدي في أذنيَّ : "إنَّا أنزلناهُ في ليلةِ القدرْ"، لم تُطعمني أُمي مِنْ ثدييها لُغةَ الشعَراءِ المُنْتَعِظِينْ كهوائيات التلفون. كان الصبيةُ مَشْغولين بصناعة مركب نوح. يخلقها أطفال الحارة من عُشب البيت و أقصاب البوص. لم يُتكاثرَ كالطحلب أو يُسْتنسخَ أو يُتصورَ في المَاءِ أو العُشبةَ حبيبي، بل كُنا مُنذُ الطلقة شخصٌ واحدٌ.
يطلقَ النارَ على كبدي و يهتفَ منتصراً.
بعد قليلٍ، يسْقُطَ مَيْتَاً.
ويُسمى في بيت الزوجةِ مقتولاً، ولدى الأم: قتيلان.
فأنا في عُرفِ الطلقةِ مجرد لحم يُثْقبْ، مَحض دماءٍ يتدفق من أوردة وشرايين شتى، محض صُراخ وآهات يصدرها مَلْحُومٌ مكلومْ.
ابعثني يا صاحبي في حضن حبيبي. ابعثني كالطير ملائكة و خيول. ابعثني في الليل نبياً بغير كتابٍ و قمرْ، بدون جناحين. أتبركُ بوحلِ خطاياي. فأنا شخصان بإثمين وفضائح شتى، ابعثني يا صاحبي. سَئمتُ القبرَ. سَئمتُ الجَنةَ ولم تدهشني بُنياتِ الحورِ "المفعوصات" وتطواف الوِلْدَانْ.
وَطني مُنذُ الطلقةِ أوطانْ. و أنا شَخْصٌ وَاحدْ، لكني في المِحنةِ شَخْصِانْ. لا أعرف اسمي بالفطرة، في الواقع: لِي اسمانْ.

الدمازين
1-9-2010