2012/10/08

المَوتُ نَشْوةً: فصل من رواية ذَاكِرَةُ الخَنْدَرِيسِ




لم تعد علاقتي به ذات جدوى، أنا لا أفكر بطريقة مادية أو براغماتية، لقد أحببت بإخلاص، أظن أنه كان ومازال مخلصا في حبة لي، لكني الآن على مشارف الثلاثين من عمري، أريد أن أتزوج. في الحقيقة بصورة أدق أريد أن يكون لي طفل، أظن أن ذلك هدف نبيل وإنساني في مجتمع يدعي المحافظة والتمسح بقيم فوق ما نستطيع. مجتمع يقدس المظهر ولا يهمه جوهر الأشياء في شيء، في هذا السياق الذي هو واقع الحال لا يمكنني أن أنجب طفلا بغير أب. لآن تلك جريمة في حق الطفل وحق الأب وحقي، فالتربية الجيدة للطفل تبدأ من قبل ميلاده، ويجب أن يلاحظ أيضا أنني لا أريد أي أب كما اتفق، أريد أن أنجب طفلا من رجل أحبه، عندما أقول رجلا أحبه لا أعني غيره هو بالذات.
الأمر ليس بهذه البساطة. فكرت كثيرا فيما إذا كنت أحبه من أجل الطفل. أقصد من أجل تصوري الخاص للطفل الذي هو إنسان الغد. يعجبني أسلوبه في الحياة، علي الرغم من أن هذه الجملة عامة، قد لا تعني شيئا بالذات إلا أنها تعني الكثير بالنسبة لي، أو أنني أتوهم أنها كذلك. علمني حب الأطفال، كان يقول لي دائما إن الرجل مثل ذكر النحل لا فائدة منه ترجي إذا لم يستطع أن يضع أطفالا أقوياء في رحم سيدة، وإذا فعل ذلك فلا فائدة منه بعدها. عليه الرحيل. والمرأة الذكية هي التي لا تحتفظ بالرجل، لأنه سوف يسعى لنيل مكانة في الأسرة لا يستحقها في الغالب. يريد أن يصبح سيدا، ملكا وربا. كان الأحق بهذه المكانة الأطفال. هذه الفكرة رغم بدائيتها، في عمقها تحمل كثيرا من الدجل والاحتيال العاطفي، يهدف من ورائها بوضوح – هذا الوضوح أحبه فيه أكثر – أن يهبني طفلا دون أية روابط شرعية، أي بغير ذلك الطقس الاجتماعي البغيض لدينا نحن الاثنان، الذي لا مستقبل لأطفال في هذا المكان دونه. علمني حب الأطفال. علمني كيف أحب الأطفال، كل الأطفال في ذات اللحظة التي حرمني منهم فيها. كنا نراهم يوميا، يعومون في دفء سائلنا الأبيض الحميم، لهم طعم لاذع، كنا نراهم في المنازل، في الطرقات، المدارس، الأندية، ومن ثم ارتبط عملي بهم، فأنا أعمل في دار رعاية للمتشردين من الأطفال أو باسم ألطف “الأطفال فاقدو الرعاية الأسرية”. هي دار لمنظمة مجتمع مدني تطوعية. نقوم بتوفير الحد الأدنى لهم من متطلبات الحياة : إفطار بالفول المصري أو العدس، ماء للاستحمام، النظافة الشخصية وغسيل الملابس المتهرئة القديمة الممزقة، التي لا تتحمل الغسيل في الغالب، فتتمزق أكثر. نقدم لهم أيضا خدمات طبية عند الطلب. لكننا في الحقيقة لا نقدم لهم شيئا مهما، فقط نبقي علي الوضع كما هو. “العمل الفردي أو في جزر بدون تخطيط اجتماعي حكومي للمدى الطويل والقصير لا فائدة ترجي منه، ويظل كل ما نقدمه مجرد إبقاء علي الوضع كما هو بل تعقيده أكثر” وذلك لشح الإمكانات وقلة المحسنين الذين يقتنعون بأن رعاية المتشردين بها أجر أو ثواب في الحياة الأخرى أو تشبع حاجاتهم الآنية من المساهمة في دعم الخير الإنساني والمشاركة في استمرارية الحياة بألم أقل. مقابل الفكرة الأخرى التي ترى في المتشردين الشر في اكتماله وكامل شيطانيته. بل يحس البعض بأن المتشرد مخلوق أدني بكثير ليس اجتماعيا فحسب بل إنسانيا أيضا. كنا نحبهم ونحب بعضنا، كنت أحبه بغير شروط، نعم أخذت الشروط تنمو قليلا قليلا مثل الطحلب فوق سطح حجر علي ضفة النهر. عندما تحب المرأة فإنها تفكر بطريقة لا تشبه التي ورطتها في الحب، فإنها تفكر في الأطفال، البيت والزوج. وهذا طبيعي، لكنه قد يعيق فكرة الحب التي تنهض علي سلطة الجسد: رغائبه واختياره داخل دوامة الانتخاب الطبيعي.
كنت اقتنع بكثير من آرائه. القليل منها يستهويني، الآخر أتحمله بفريضة المحبة، وهو يفعل كذلك تجاه أفكاري الشاذة أيضا، وترددي المتكرر لكل منا ما يخصه من جنون وخير، لكن يبقي الحب القاسم المشترك وهو ما يبقينا علي صلة. وهذا التحليل مضللٌ أيضا، لأننا لسنا دائما علي ما يرام ولسنا دائما في حالات حب، قد يقع خصام بيننا يدوم لأيام طويلة، قد أكرهه، وتمر بي أيام قد أقع في حب شخص آخر وحدث ذلك مرتين خلال فترة علاقتي به وهي الآن في عامها الرابع. إذ ليس الحب هو الذي يبقينا معا: إنهم الأطفال. هذا ما توصلت إليه أخيرا، الأطفال الذين تستحيل عملية إنجابهم وتتعقد كلما مضي يوم من حياتي بدون أن يكون ذلك الشيء قد تخلق في رحمي.
كنا نمر سريعا أمام مستشفي أم درمان التعليمي. في اتجاه قبة الإمام المهدي. الجو كما هو في مايو حار جدا. كنا مرحين وقريبين من بعضنا البعض على الرغم من الحزنِ الذي يغمر قلبينا، لولا خوفنا من الشرطيين وخشيتنا من أن يرانا أحد أفراد النظام العام المتنكرين في هيئة مدنيين، لتلامسنا بأيدينا بل لأمسكنا بكفينا معاً ونحن نسير في هذا الطريق الفسيح. كانت دائما ما تغمرنا تلك النشوةُ الإنسانيةُ الجميلة كلما اختلينا ببعضنا في مكان آمن. نستطيع فيه أن نتعرى، نقبل بعضنا ونصلي صلاة الجسد. لقد فعلنا ذلك قبل ساعتين في بيت الخليفة عبد الله التعايشي الذي يطلقون علية تجاوزا”مِتْحَف”، تحت رعاية وحماية بعض الرسميين. هو أكثر الأمكنة أمانا لدينا نرتاده عندما نشتاق لبعضنا البعض، حتى ولو كنا متشاجرين لأن الجسد لا علاقة له بالخصومة، إذا وقعت فإنه يصلحها. اكتشفنا ذلك المكان بالصدفة البحتة، أقصد الغرفة السرية التي تقع تحت غرفة الخليفة مباشرة. بوابتها تفتح في الحمام المهجور، لا ندري في ماذا كان يستخدمها الخليفة، هل كان يخاف أن يتآمر عليه البعض وهو نائم، لذا كان ينتقل لهذه الغرفة الآمنة ليلا لينام بدون كوابيس؟ أم أنها كانت سجنا سريا أو بيت أشباح يستضيف فيه الخليفة وأخوه يعقوب جراب الرأي بعض المارقين الكفرة من جدودنا المشاكسين؟. لقد زعمنا حين اكتشافها أن إدارة السياحة نفسها قد لا تعلم عنها شيئاً. قمنا بمرور الأيام بفرشها بمفارش من الخيش و ملاءات كنا نهربها إلى هنالك كلما سنحت لنا فرصة لحملها في حقيبة اليد، قد شَرَدْنَا القطط المسكينة التي كانت تظن نفسها سيدة المكان الوحيدة، آخذة ذلك الحق من كونها أول من اكتشفه أي بوضع اليد. كنا نسمي الغرفة بيت جدنا التعايشي، وهو مؤسس الدولة السودانية الحديثة، بالتالي الأب الشرعي لعلاقتنا المربكة والراعي التاريخي لها، حيينا الحرس. كانوا يعرفوننا لكثرة ترددنا إلي البيت مدعين بأننا نقوم بدراسة أكاديمية عن بيت الخليفة، لكننا لم ندخل مرة أخري بل عبرناه إلي الحديقة الصغيرة التي تقع في مثلث تحيط بها طرقات الإسفلت. كانت الحديقة مزدهرة في يوم ما، لكنها أصبحت الآن بفعل الإهمال ما يشبه المزبلة، ولو أن الغرف التي استخدمت في الماضي كبوفيه مازالت قائمة.
كانت دكتورة مريم في انتظارنا ترتجف قلقا، تسيل الدموع من عينيها الطيبتين الواسعتين. أعطاها عبد الباقي القارورة البلاستيكية. فتحتها بيد مرتعشة. مضينا خلفها إلي الحجرة الخلفية حيث تخفي الأطفال. كانوا يموتون ببطيء شديد. يتلوون من آلام مبرحة في بطونهم، قد تقيئوا كل شيء، يشتكون من صداع يجعلهم يصرخون في ألم آلمنا نحن أيضا. سقتهم بترتيب بدا لنا عشوائيا، لكنها بكلمات متقطعة قالت إنها تفعل ذلك وفقا للمرحلة المرضية التي فيها كل طفل، والغريب في الأمر كان الأطفال يتحسنون بصورة سريعة أو هكذا بدأ لنا. وبعد نصف الساعة تكلم اثنان وبقي اثنان في حالة احتضار. بعد ساعة مات واحد وتحدث الآخر. كنا قد قمنا بتهريبهم من أحد الشوارع الطرفية حيث كانوا يقيمون بصورة دائمة في مصرف للمياه. وهو مكان مكشوف بالنسبة للفرقة حيث إنهم يستطيعون الوصول إليهم بسهولة ويسر وما يعده الأطفال مخبأ يراه الجماعة قلب المصيدة. أصيب الثلاثة بالعشى. وتوقعت دكتورة مريم أنهم سوف لا ينجون من العمى إذا نجوا من الموت. لأن مادة الميثانول التي أسرفوا في شربها خلال العشر ساعات الماضية. تقوم بتدمير شبكية العين. طبعا هذا بالإضافة إلي تدمير كثير من الأنسجة الحساسة بالأحشاء مثل الكبد والبنكرياس وغيرهما. سقيناهم كل العرق الذي استطعنا أن نحصل عليه بما لدينا من نقود قليلة. بعض بائعات العرق الكريمات عندما عرفن أننا نحتاجه لإنقاذ أطفال مهددين بالموت أعطيننا من لدنهن وسعهن. ودعين من قلوبهن الجميلة النقية السوداء لهم بالشفاء ولنا التوفيق.
أنا، عبد الباقي ودكتورة مريم، نمثل فريقا واحدا من عدة فُرقٍ أخرى تقوم بالمَهَمَّةِ ذاتها في الخرطوم، بحري وأم درمان. الهدف الرئيسي هو الوصول للأطفال المصابين قبل أن تصلهم الفرقة، وليس الوصول إليهم فحسب بل إخفاؤهم لأنهم في حالة خطر دائمة وسيصبح مصيرنا مثل مصير أصدقائنا في فريق آخر تم القبض عليهم وجُلدوا بحد حامل الخمر وغرموا ولعنوا ثم أُبقوا تحت الإقامة الجبرية بمنازلهم، وأصبح العمل أكثر تعقيداً خاصة بعد أن أفتي مُسلمٌ طيبٌ حريصٌ علي الدين أن العلاج بالعرق والأثينول حرام قطعا وأن الأفضل لهؤلاء الصبية الموت لأنهم إذا ماتوا سيموتون شهداء ويدخلون الجنة مع الشهداء والصديقين وحسنُ أولئك رفيقا. خيرٌ لهم من أن يحيوا ويعيشوا مجرمين ثم يموتوا بسوء الخاتمة: اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين. كنا نشعر أن واجبنا الإنساني يحتم علينا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأي أسلوب كان. و نشك بعمق في ان الفقيه المفتي طيب الذكر قادر علي ضمانة دخوله هو نفسه وبعض عشيرته الأقربين إلى الجنة، دعك من ترشيح الآخرين لها. أو كما أفتى لنا أحد الأصدقاء وهو يرمي في وجهنا أرقاماً مجنونةً عن أن السودان هو من أكبر المصادر للميثانول والأثينول وهما من فصيلة الكحول.الذين يستخدمهما الغرب بعد تنقيتهما لصنع ألذ أنواع الخمور المحرمة هنا في السودان ولا تفوقه في ذلك غير دولة البرازيل حيث إنها تمتلك أكبر مخازن الميثانول في العالم. وإذا كان هذا المفتي تقيا بما يكفي و لا يخشى لعنة رأس المال الإسلامي بالسودان. التي سوف تصيبه في مقتل. لتطرق ولو بحرف واحد لتقطير الكحول في مصنع السكر العملاق. وكأنما سمعه مفتى أكثر ذكاء، وأكثر منه مالا، حيث إنه قال بالحرف الواحد: لا حرمة في إنتاج و بيع الميثانول والأثينول فالبلح والعنب حلالان طيبان وهما مصدران للنبيذ الخبيث وهو محرم. فالعبرة في الاستخدام وليس في إنتاج المادة ذاتها، وإلا حرمنا البطاطس والسكر والذرة بجميع أنواعها، بل كثيرا ما أحل الله لنا من نعم الدنيا والعياذ بالله من غضب الله: أتحرمون ما أحل الله؟؟
إلى اليوم 20-7-2011 تم التأكد من موت ستة وسبعين متشردا وفقا للصحافة، وذلك في غضون أربعة وعشرين ساعة منذ أن اُكْتِشِفتْ أول حالة، واتضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامته جريدة السودان في اليوم نفسه . أن وزير الرعاية الإنسانية قد فوجئ هو نفسه بالأمر وبدا عليه الحزنُ العميق، ووصف الأمر بالمأساة. ربما كان مشغولا بالإعداد لزيارته الأخيرة للبرازيل. أما مسئول الشرطة فقد نفى نفيا قاطعاً أن هنالك جهة حكومية وراء اغتيال المتشردين. إنه يحتفظ الآن بعشرة من المدنيين المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه يؤكد أيضا أن الأمر غير منظم وغير مقصود. اندهشنا جميعاً لآرائه القاطعة قبل انتهاء التحقيق. همست دكتورة مريم في أذني قائلة:
إذا أردنا معرفة الرقم السليم للمقتولين علينا دائماً أن نضرب رقم الصحافة في ثلاثة على الأقل.
قلت لها وبقلبي حسرة

هذا متفق عليه، للأسف.
كان الصحفيون حذرين كعادتهم تحت قانون الصحافة والمطبوعات الحازم الذي روعيت في صياغته مصلحة البلاد العليا. إلا أن أحدهم سأل سؤالاً لم يجبه عليه أحد، وتجاهلته حتى جريدته ذاتها. قيل إنه لم تقم له قائمة بعد ذلك، أقصد استغنت الصحيفة عن خدماته الجليلة بخطاب شكر ضاف مهذب، مرتب ثلاثة شهور، وأمنية حارة له بالتوفيق في جريدة أخرى. المشكلة كلها أنَّ سؤاله الضال. غير المسئول. الذي لم يرع فيه حُرمة المصالح الوطنية والدور الرسالي للأمم السودانية. حرمها من إعلانات بمبلغ يعادل مليون مرة مرتب الصحفي وأبيه وأمه إذا كانت حية وتعمل، وأبناء عمومته إلى يوم الدين، لأنَّ الشركة المعلنة الخَيَّرة تقصد من وراء الإعلان دعم خط الصحيفة الملتزم الوطني ورفع المقدرات المالية لمالكها الهمام، قد بدا لَنَا واضحاً الآن أنَّ: جريدتكم تستخدم براغيث وجرذان، وليس صحفيين محترمين.

أكد الأطباء أن أسرع علاج للتسمم الميثانولي الحاد هو شرب جرعات خيرات من أخيه الأثينول وهو كما يعرفه العرب بالعرق، الذين هم أول الشعوب التي قامت بتقطيره في العالم. كلاهما سم قاتل، لكنهما يتعادلان. تشرح لنا دكتورة مريم ذلك علمياً كما يلي: التركيبة الكيميائية للميثانول…
كان الأطفال يرجوننا أن لا نتركهم يموتون، هم أيضا يريدون استعادة نظرهم. يرغبون في أن يرون العالم مثلما كانوا يرونه من قبل: ملوناً جميلاً ويجري أمامهم مثل القطط الضالة، نحن لا نملك الشيئين. كان يقول لهم بُقْا عليهم بالصبر والإصرار علي الحياة. في الحقيقة كانوا أكثر إصرارا علي الحياة من أي مخلوق رايته في حياتي. أبي كان رجلاً ميسور الحال فهو ليس ثرياً لكنه لم يكن ينقصه شيء. بالتأكيد لا مجال لمقارنة حياته مع حياة هؤلاء البائسين. علي الرغم من ذلك لم يكن شديد التمسك بالحياة كان سعيدا جدا لم يصب بأية أمراض مؤلمة لم يخنه أحد لم يدخل السجن. لم يقض ليلةً واحدة باكيا شاكيا. وكان يمتلك زوجة رائعة وفية: التي هي أمي الجميلة. يحب الحياة يعيشها بمتعة خاصة وله الحق في ذلك فلقد أعطته الحياة كل شيء. مات وهو في ريعان شبابه وما ذلك في رأيي إلا لأنه لم يكن متمسكا بالحياة تمسك هؤلاء المحرومين. الذين لم يعشوا يوما واحدا طيبا بأية مقاييس كونية، لكن الحياة في تقديرهم ثروة لا يمكن التفريط فيها. قالت لي أمي ذات يوم وكنت قد حدثتها عن طفلين مشردين مصابين بالسل ماتا ذات صباح: الموت خير لهم هؤلاء المساكين.
ولو أن الوقت غير ملائم للتحقيق إلا أننا كنا نريد أن نعرف من أين لهم بهذا المشروب القاتل. كيف تحصلوا عليه وهو غير مشاع، غير رخيص ولا يباع في البقالات أو عند الطبليات أو الباعة المتجولين. كانت لهم إجابات مختلفة، لكن أغربها هي إجابة آدم سانتو- توفي فيما بعد – الذي قال إنه تحصل عليه من المصري، كأن هذا المصري علماً علي رأسه نار. لكن البقية تحصلوا عليه من زملائهم الذين تحصلوا عليه من زملاء آخرين هكذا بلا نهاية ولا بداية. يفضل الأطفال المشردون عادة السلسون وهو مادة تستخدم للصق يدخل الميثانول في تصنيعها. رخيصة ويستنشق عبقها المثير. أنبوب واحد صغير يكفي لسكر عشرة متشردين وينيمهم مجنبا إياهم مشقة البحث عن طعام. يهبهم في الحلم الحياة، الراحة والجمال الذي ينشدونه. قد يستخدمون ما يقع في أيديهم من مسكرات أو مخدرات، خاصة الأشهر البنقو، المشكلة الوحيدة التي تمنعهم من تعاطي كل شيء هي المال. إنهم فقراء. عاطلون عن العمل حتى التسول فإنهم لا يتسولون، لا يسرقون، لا يرقصون ويغنون ويضحكون ويبكون في الطرقات مثل مشردي البرازيل، لكي يحصلوا على ثمن وجبة تافهة وجرعة كراك. لكنهم يرقدون هناك تحت ظل حائط أو نيمة أو وكر أو في بناية مهجورة. يأكلون البقايا باستمتاع قذر. المزبلة هي أعظم سوبر ماركت طبيعي وهبه الله للمتشردين. يتسلون بممارسة الجنس فيما بينهم. قد تكفي سيدة مجنونة واحدة نزوة شلة من المتشردين. أما المتشردة الجميلة – وهي كذلك دائما – فلا يمكن مسها بغير مقابل. ويصعب اغتصابها لشراستها. الأكثر عرضة للاغتصاب هم المتشردين الجدد نساء كانوا أم رجالا. طفلات أم أطفالا. وذلك قبل انتمائهم لشلة تقوم بحمايتهم وقائد يرعاهم. في الغالب يصبح المُغْتَصِبُ الأقوى هو من يقوم بالحماية لاحقاً حيث يصبح المُغْتَصَب واحدا من ممتلكاته الخاصة وفردا من شلته: وفياً ذليلاً طائعاً و لقوية ممتعة.
إذا توفر لدي المتشرد بعض ما يسكر، قليل مما يطعم، وشيء من الجنس من نوعه أو النوع الآخر لا يهم، فهو الأكثر سعادة والأكثر غني من رئيس دولة في العالم الثالث.
يتسلل الشيء إلي المعدة. يسمونه فيما بينهم الإسبرت وهو من مشتقات كلمة انجليزية تعني الروحsprit وربما كانت اختصاراً ذكياً لجملة المشروب الروحي. في اللحظات الأولى من احتسائه، يهب الشخص لذة مجنونة لا تقاوم، وعندما تبدأ عملية الأيض أو التمثيل الغذائي، تحمل الأعصاب وشايا سريعة إلي الكبد مخبرة إياه بأن سما زعافا يتغلغل في أحشاء ذلك المتشرد الذي نُعني بحمايته، وعلينا مسؤولية حياته، فيفرز الكبد الوفي إنزيم نازع الكحول. وهو متوفر ومحفوظ بصورة جيدة لمثل هذه اللحظات الصعبة والحروبات غير المتوقعة، لأن الكبد يعرف نزق وشيطنة سيده الإنسان، متشردا فقيرا كان، أم سياسياً غنياً. فيتحول الميثانول الذكي إلي مادة الفورمالدهيد شديدة السُمية ثم خلال ثلاث دقائق أخري يتحول إلي حمض النمليك، بهذه المراوغة الشيطانية. يفقد الكبد إمكان السيطرة عليه، لكنه يظل يفرز الأنزيم نازع الكحول، وتتراكم النواتج الاستقلالية السامة للميثانول بصورة متواصلة دون أدنى مقاومة من الجسد، بعد أن حيدت سلطة الكبد، من ثم تظهر أعراض التسمم. ولأن المتشرد هو مخلوق جائع، يحتسي هذا المشروب من أجل أن ينسي ألم الجوع، العوز، خيانة الأصحاب، مرارة الاغتصاب، ظلم الشرطي، إهانات المارة، قلق الحنين إلي الأسرة، الوساخة الشخصية، القمل، برغوث الثياب، والأمراض الكثيرة التي تنهش جسده، فإن الميثانول يجد بيئة جيدة ليُمتص سريعا عبر المعدة الخاوية الشرهة التي تنتظر ما يشغلها ويخفف عنها ألم إفرازاتها المُرة النشطة. لا يحس الشخص بأعراض التسمم إلا بعد مضي ست ساعات إلى ثلاثة أيام، هذا إذا شرب الشخص النحيل ذي الوزن الهزيل جرعة زائدة من الميثانول، هي في الغالب لا تتوفر لديه، فما يتوفر لديه بعض ملي غرامات من الأثينول، يضيف إليها خمسة أضعافها من الماء القراح، لذا لا تظهر علامات التسمم فيه إلا بعد شهور أو سنوات. أي بعد أن يقوم الأثينول بتدمير خلايا الكبد والبنكرياس. ذلك تماماً كما يفعل العرق “الميثانول+ الأثينول” للمدمنين عبر سنوات طويلة من اللذة، النشوة وأحلام اليقظة علي أنغام موت بطيء وبارد، تفسير هذا الموت السريع للضحايا هو أنهم قد تناولوا كميات كبيرة من الميثانول، ليس ذلك القدر الضئيل الذي اعتادوا على تناوله من صنوه الأثينول، فالتشخيص الطبي الباتع لحالاتهم يُطلق عليه الأطباء : التسمم الكحولي الحاد.
ما يقلقنا الآن أكثر، كيفية التعامل مع الجثة التي ترقد أمامنا مغطاة بأسمال باليات تفوح من فمها رائحة الموت مختلطة بقيء الأطفال علي أنغام شخير بعض من نام منهم. كنا نعي جيدا خطورة أن تُضبط الجثةُ في حوزتنا. يحزننا أيضا تركها في هذه الغرفة المهجورة مع الأطفال المرضي الذين لم يحدد مصيرهم بعد. الذين سيصبح مستقبلهم “علي كف عفريت” إذا وجدتهم الفرقة، فسيحقنون في الحال- حسب ظننا وبعض الظن إثم – بمادة الفورماليين الرخيصة القاتلة و يودعون الحياة التي يحبونها جدا رغم قسوتها إلي الجنة البغيضة التي أعدها لهم ذلك المفتي الفصيح، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئا أكثر مما فعلنا . أن سقيناهم العرق وأطعمناهم اللبن الطازج ووهبنا إليهم جرعات كبيرة من زيت الخردل لتقوية معداتهم الملتهبة. كان الأمر كابوسا حقيقا. لكنا اُجبرنا على المغادرة السريعة وتركهم كما هم عندما اتصلت بنا حكمة رابح صديقتي وأخبرتنا أن الفرقة في طريقها إلينا. شاهدهم البعض قريبا جدا من مسرح البقعة يتعثرون في زحمة المرور، يطلقون صفير إنذار ونجدة، يردد العسكر المتحمسون صرخات الحرب وهم محشورون في عربة لنقل البضائع “دفار جامبو” عملاقة. أضافت:
لقد قاموا باعتقالات واسعة لناشطين، في أم درمان و الخرطوم، ولا ندري من هم وكم عددهم حتى الآن.
تقع الحديقة، قريبا جدا من مسرح البقعة، جنوب بيت الخليفة التعايشي، شرق سجن الخليفة، في الطريق إلي مستشفى الدايات، تحتل الحديقة المهجورة هذا المثلث الصغير. كان علينا أن نهرب في اتجاه بيت الخليفة، هذا هو الحل الوحيد، اقترحت دكتورة مريم أن نقوم بزيارة البيت، سوف لا يشك فينا أحد. تبادلتُ النظرات مع عبد الباقي، ابتسمنا لبعضنا، ونحن نسرع الخطى نحو البوابة القديمة الأثرية، التي تحرسها جماعة من الرسميين. قمنا بزيارتنا الثانية للبيت في اليوم نفسه. اندهشت دكتورة مريم عندما شاهدت الحفاوة التي استقبلنا بها الرسميون. في الحقيقة كانت هذه الحفاوة الدافئة، نتاج علاقة قديمة مستمرة سوف لا تخطر ببال صديقتنا الدكتورة، خاطبونا بالأساتذة ولم يأخذوا منا رسوم الزيارة المعتادة. كانوا يحسون من أعماقهم بأنهم يجب أن يقدموا لنا المساعدة المرجوة لربما تكرمنا بذكر أسمائهم في البحث الذي نقوم بإعداده أنا وعبد الباقي عن بيت الخليفة، ذلك المشروع الوهمي الذي سوف لن يُنجز أبداً.

جلسنا عند الفسحة أمام العربات التاريخية المهلهلة المهملة المغطاة بطبقة من الغبار سميكة. كان الظل باردا، تيار الهواء يمر شمالا جنوبا بحرية. كنا نحتاج لقدر كبير جدا من الهواء البارد لإنعاشنا وإعادة الحياة إلينا، قلوبنا وآذاننا تقفز خلف الجدران لتعانق موجودات الحديقة في الخارج، تحوم حول الأطفال المشردين. كان هتافهم قاسياً وعنيفا، مختلطا بصفارات الإنذار المرعبة، عندما أخذ الزوار يخرجون من بيت الخليفة مهرولين يتقصون ما يحدث في الخارج، خرجنا معهم. دارت العربة العملاقة دورتين قبيحتين حول الحديقة الصامتة، كانت مليئة بالجنود الشباب المتحمسين لفعل كل ما يؤمرون به. ليس بإمكانهم أن يلاحظوا شيئا بهذه الطريقة الاستعراضية الفجة في البحث. لأن الأطفال كانوا يرقدون في داخل الغرفة. ليس في حوش الحديقة، توقعنا أن يتوقفوا ويهبطوا ويدخلوا. لكنهم عندما أكملوا دورتهم الرابعة، اتخذت العربة الشارع الجانبي الشرقي الذي يقود إلى الإذاعة، تلاشى صراخهم الرهيب خلفهم تدريجيا، إلى أن اختفي نهائيا عندما انعطفت الشاحنة بهم يمين الإذاعة القومية متخذة طريق الطابية إلى مستشفى القوات المسلحة بأم درمان، أو إلى أي جحيم آخر لا ندريه.
لم نعد إلي الأطفال والمشردين بالحديقة، على الأقل الآن، كان هذا رأي الجميع، كما أننا لم نرجع إلى بيت الخليفة عبد الله التعايشي، مرة أخرى.
تشير الساعة إلى الثانية بعد الظهر، دكتورة مريم ستعود للعمل بمستشفى الحوادث بالخرطوم عند الثالثة والنصف، قد تحتاج إلى ساعة كاملة تقضيها في المواصلات العامة بين أم درمان والسوق العربي، لأن الوقت هو زمن ذروة التزاحم المروري، فالطرقات ضيقة وهي مصممة في عصر الاستعمار لبضعة عشرات من السيارات الصغيرة يستغلها السادة السياسيون والإنجليز، الآن على ذات الطرق أن تتحمل ما لا يقل عن مليوني سيارة في اليوم. فكان الخيار الأرجح أن نذهب معها أنا وبُقا إلى الخرطوم، من هنالك يذهب هو للسلمة وأنا لبحري، وسوف ننسق الخطوة القادمة عن طريق التلفونات أو الرسائل النصية القصيرة. تعرفت على دكتورة مريم منذ سنوات كثيرة مضت، أي منذ أن تخرجتُ في جامعة الأحفاد قبل خمس سنوات، كنت أقوم بقضاء فترة تدريبية بمنظمة رعاية الطفولة السويدية، التقيت بها هنالك، تعمل حينها منسقا لمشروع حماية الطفل بالمنظمة احتضنتني، وشملتني برعايتها منذ اليوم الأول الذي تقابلنا فيه، هي التي جعلتني ألم بالجوانب النظرية والعلمية في مجال حقوق الأطفال، ولم يكن فارق العمر بيننا كبيرا، كنت أصغر منها بثلاث سنوات، وهي تكبرني بخبرات عملية وإنسانية تفوق الخمسين عاماً، ومثل كل سودانيين يتقابلان في أي زمان أو أي مكان يجدان شخصا مشتركا بينهما هذا إذا لم يكتشفا أنهما أقارب، فبيني وبينها شخص عابر في حياتي، لكنه خلف فيَّ أثراً كبيراً ونهائياً، وهو أحد أقربائها بل ابن خالتها حسن إدريس. المرأة لا يمكنها أن تنسي الشخص الأول في حياتها، حتى إذا كان وقحا وناكرا للجميل مثل هذا الإدريس. أنا لا أحب أن أخوض في هذه الحكاية التي يؤلمني ذكرها الآن، هو لم يخدعني لكنني كنت أتوقع منه موقفا أكثر مروءة وإنسانية، أي ما تتوقعه كل فتاة من رجل تورطت معه في علاقة حميمة أدت إلى أن تجعلها حُبلى بِطفل. أتمني ألا أعود لهذه الحكاية مرة أخرى.

الفصل الأوّل من رواية ” مسيح دارفور”

يبدو أنّ مصائرهما  قد ارتبطت ببعضها البعض  رباطاً لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، و عملت أياد نجسة- وسمياها فيما بعد شيطانية- كثيرة في جعل ذلك  اللقاء مؤلماً و نهائياً .
في 23  نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساءً، عند نقطة تفتيش سُوبا على مشارف  مدينة  الخرطوم، توقف البص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان و الزمان، ترجل السائقُ وفي معيته  المضيف اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل  يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد وبالأخرى قلماً أزرق ماركة بك، يرتدي بدلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة، في ثوان معدودات شاهد كل الركاب، نظر الى القائمة، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من البص و يتبعونه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمةٍ واحدةٍ، نزل خمسة من  الشبان  في أعمار متقاربة،بصمت، في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمةً من الكانفاس غبشاءَ،تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفصٌ  من  الحديد به نوافذٌ صغيرةٌ للتهوية  منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحاً، بائساً و مثيراً للتشاؤم . وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه أنه أشبه بقبر من الحديد  على الأسفلت.
يصعب تتبع الدَوّامَات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما، لأنها كانت سريعة بل تمر بصورة لولبية وعنيفة  لا تصدق، أُدخلا عدداً من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانِبها رائحة الورق و السجائر البرنجي مختلطة بزنق الجوارب المتعبة، قابلا رجالاً من العسكر و المدنيين لهم نفس الملامح و السحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا و تكراراً،وقيل لهما ذات  الكلام مرارا و تكرارا وحُذِرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين و الذين أخطر منهم وهم (العسكرومدنيين)، طلب أبراهيم خضر، وهو الأصغر عمراً، كان شحيما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة وهي عادة ورثها جد عن جد، طلب منهم ان يتركونه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى و زيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، ان يوصلها الى الداخلية و يكمل اجراءات تسجيلها ويعود اليهم مرة أخرى، ضحكوا من  سذاجته و قالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل. و اكد له (عسكرومدني) نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لا ارادياً، ان الحكومة سوف تعين لها من يسهل كلما يخصها، فقط عليه ان يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية وان يمضي الى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري تو تو كوه. الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى انه لم يزرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين عندما اقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن العجور  نحو ما لا يعلمون من البلاد لكنهم جميعاً كانوا  موقنين انهم يتوجهون الى ميدان معركة ما حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد ان قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوماً السابقة، وكانوا يعرفون انهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا اذا كانت في الجحيمِ مدينةٌ  بهذا الإسم.
الشخص العادي و اقصد  هنا الطبيعي، في رأي ابراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في ان يحب مدينة نيالا و يعشق الأستاذ محمود محمد طه،لا يوجد ربط بين الأثتبن غير انهما ينطبقان على الشخص  الطبيعي،شيكيرى توتو كوة لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل ان يلتقي بابراهيم خضر  الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معاً، ولا نظن ان ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو  كوة شخص طبيعي شيئاً، ولكن والده تُوتو أخبره كثيراً عن مدينة نيالا، وحكى له عن اخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها،لأنه غريباً وكان دائماً ما يُوحي له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها تتوسط عُشبٍ كثيفٍ و ابقارٍ و أغنامٍ  ترعى، و مطرٍ لا يتوقف. كان  أسمُها خريفية تُور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به  الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر.لابد أنها قد أصبحت عجوزاً كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم  الذي اختيرا فيه عشوائياً من قبل ايد ما، للعمل ضمن وحدة  الأستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أُدغما فيها، وعندما شاهدا  بعضهما البعض تذكرا ذلك  اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة  الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين و  عشرين مجنداً، وكان المجندون  اما مشغولون بالهرب، لأن الفرصة  الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات بالرغم من الحراسة المشددة  التي به، إلا ان المجند إذا لم  يتمكن من الهرب منه،فإنه لا محالة مواجهاً للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، اما أنهم مشغولون بمحاولة الإتصال باحد زويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر  الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيُشاع أنّ من  بين المجندين مُندسين يعملون لصالح السُلطة، ولا يُعرفون إلا عند  الذهاب للقتال، حيث أنهم يتخلفون،وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض ما يسمونهم الطابور الخامس و المربك في الأمر أنّ أي  من المجندين عرضة لكي يُصنّفْ طابورا خامساً ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضاً بل لمجرد لون بشرته. لذا لم تتوطد علائقٌ لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شِكيري تُوتُو كُوة، وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين احدهم و اي انسان آخر. ونستطيع ان نقول الأيام الأولى لهما في شعبة الإستخبارات شهدت  شُكوكا متبادلة بين الأثنين، و مشدات عنيفة كادت ان تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب ابراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما  وجدا نفسيهما معا ذات موقف انساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيداً عن البيت لا يعني شيئاً غير العدم،والصحراء  لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يُدفع للحروب دفعاً،الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات و مطامع تخصهم،حتي إذا كانت ضد قبيلته و أسرته بل مسقط رأسه, مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاماً في ميدان معركة ولا يدري شيئاً عمن يَقتُل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف. ذلك الجنديُ الحزين. وكان ابراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين تُوجوا بهذه  الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني تُرابهم.
الليل في الصحراء صحراء أخرى،  تدب في النفس مثل ثعبان اسطوري، كانا يزحفان  على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الأسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثة مئة ميلاً وتحديد الوقت اللازم للإعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة وهوايضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة  الرصد الصينية الحديثة التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريباً من موقع  الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة و الوقت المناسبين و أن يقبع في مسافة معقولة لكى يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أنّ القائد طلب من شيكيري تو تو كُوة أن يقوم بمراقبة ابراهيم خضر و أن يعد تقريراً عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
و لا يدري شيكيري توتو كوة هل كان الضابط  جاداً ام انها هفوة كبيرة منه عندما أتبع اوامرة بلفظة قاسية و  مربكة، حيث قال: راقب العبد .
و افتكر شيكيري تو تو كوة ان اللفظة اطلقت عليه هو، حيث انه استبعد تماما ان المقصود بها ابراهيم خضر ابراهيم، حيث ان ابرهيم لا يمكن ان ينطبق عليه هذا اللفظ  وفقا للثقافة اليومية الموروثة، فابراهيم له بشرة صفراء ناصعة و شعر ناعم و بيدو واضحا من شكله الخارجي انه من تلك  المجموعات التي تُطلق لفظ  عبد على الآخرين، وليس هو من يُطلق عليه هذا اللفظ.  لذا اعتبر شيكيري أنّ الملازم يعنيه و استعد لمشاجرة عنيفة، إلا ان الملازم شرح له الأمر، و أكد له انهم يمتلكون التفاصيل عن كل   شخص أي ما وراء المظهر الخارجي، و قالوا  له ان اسرة ابراهيم لوقت قريب لها أسياد،  بل أن جدته المباشرة لها اسيادها الذين لولا الأنجليز  لكانوا مايزالون تحت القيد، و  ان والد ابراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا انه ابن غير شرعي، لأن  امه ما ملكت ايمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه، كما أكدوا له شخص حاقد على الآخرين و المجتمع، لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية و الجموهورية و غيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس  شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب ابراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم  بالسيد، وهل لها زوج  آخر،  بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيراً، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ و تخيل نفسه مملوكاً لسيد يمارس الجنس مع أمه؟. كان إبراهيم مشغولا بقراءة اشارات الجهاز الصوتية، يعتبر ابراهيم ان هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر، لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، و يتمنى في عمق ذاته ان يسطيع الطورا بورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم  من الإنتصار على جيشه و  سحقهم جميعاً بما فيهم هو نفسه، في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتوكوة اطلاقاً، اولاً لأن شيكيرى لا يتكلم  كثيراً ولا يعبر عما في نفسه  بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيراً عن اسرته و أهله و همومه اليومية، بل حتى حبيبته و أبعد من ذلك انه حكي له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فيه للضحك و الشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه او يرمز  اليه  ابراهيم بالأستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة  كثيرٍ من المستهترين و الجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر اليه- وقد تجنب الجميع أن  تلتقي أعينهم بعينيه- عرفت انه على حق، و اننا جميعا ليسوا سِوى القتلة. فلم يعدمة القُضاةُ ونيمرى وحدهما، ولكنا أيضا الذين لم نبذل جهد المُقِل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً و  انساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سُلطة مُطلقةً. أحسستُ في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحوّل تلك  المِشْنَقَة إلى عرش عظيم ويُتوج نفسهَ ملكاً أسطورياً ونهائياً لهذا العالم، إذا أراد. ولكنه كان  يُريدُ أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقتٍ  يُمّكنُ  جلاديه من أداء واجبهم التأريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرّم به السيّدُ المسيحُ بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له  يومياً عن كل ما يخطر بباله، ولكن  شيكيرى، كان يبتسم يعلق بإختصار ولكنه لا يقول شيئاً خاصاً به أبداً.
ولكن لدى شيكري اليوم رغبةٌ كبيرةٌ في التحدث،  يريد أن يقول شيئاً مهماً لأبراهيم، سيحكي له عن القائد و  يخبرة عن التقرير و رأي القيادة فيه، بل لا يخفى عنه حكاية انه عبد لقوم مازالوا يمتلكونه طالما كان حياً وسوف يتوارثونه أباً عن جد، و أبعد من ذلك سيقول له انه نتاج معاشرة “ما ملكت ايمانكم”، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من  الجيش، بأسرع ما يُمكن، مما أدهش إبراهيم خضر، لأنه ما كان يتوقع  ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد  تم تجنيده ضمن آليات السُلطة،حدثه، شيكيري على انه منذ  أن قُبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الإنتقام إما الهرب. كما يجب أن  يَحس أيُ شخصٍ ذكي في مثل هذه الظروف، أَحسَّ إبراهيم خضر، و تأكدت له شُكوك قديمة، أنّ  شيكيري يريد أن يقيس مائه، ويسبر أغواره، فإبتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو  آلامه و أفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوة في نوايا إبراهيم خضر، وأحسَّ أنه  لم يقدر الموقف جيداً،من ثَمَّ قرر أن  يتراجع عن تصريحِهِ و لكنه وجد نفسه قد تورط  أكثر، عندما أضاف: أفضل الإنتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين، فقد حان مَيعادُ استلام الوردية الثانية، الرملُ الباردُ: باردٌٌ. جسديهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغُة واحدة مشتركة تنموا رويداً رويدا،  لم يستطيعا التعبير عنها جيداً، بل كلما حاولا الإقتراب منها، ضَلا سُبل الإفهام،  ولكنهما أصبحا الآن أكثر قُرباً، عندما أخبر شيكيري إبراهيهم بأنّ القائدُ طلب  منه أن  يراقبه ويكتب عنه تقاريرٍ مفصلةٍ، ويعني ذلك فيما يعني ربما يُتوج إبراهيم قَريباً بِلقَبِ: البطلُ الشهيدْ.
طالما كان  يسخر من هذا اللقبِ بمرارة  ويكرهه.

فصل من رواية “مسيح دارفور”


طِرْ


القوة العسكرية المنوط بها حسم الأمر لا تتجاوز ال66 جندياً، وفريقا كبيراً من النجارين المهرة وشبه المهرة تم جلبهم بالقوة من نيالا وكاس وزالنجي. في الحقيقة كان هذا العدد كاف جدا للقضاء على ثورة نبي كاذب كما تم وصفه من قبل القادة الميدانيين وبعض الساسة الضالعين في إطلاق الألقاب الجيدة، كل قوته التي لا تحمل أي من الأسلحة هي 15 رجلاً وامرأة واحدة. وما يسمونه بالنبي الكاذب هذا قد أحيا في الجُمعة الماضية، أربعين شخصاً من الموت، وشكَّل من ريشة واحدة غُراباً حقيقياً جميلاً وقال له طِرْ: فَطَارَ.

الشخص الذي صمم طريقة القضاء على الرجل، كان يمتلك خيالاً خصباً يُحْسَد عليه، كما انه يتسم ببرود أعصاب وإصرار علي القتل بصورة مُدهشة، وكان عليه أن ينجز الأمر بأسرع ما يمكن، وخاصة بعد أن تناوله الناس المروجون من المتربصين بالحكومة الوطنية في الفيسبوك والتويتر والمواقع الالكترونية العميلة مثل الراكوبة وسودان فوراول وغيرهما، كما أن الأمم المتحدة التي تدخل انفها في كل شيء فيما يخصها وما لا يخصها تتداول النقاش مع بعض الدول على إرسال مبعوث خاص لمعاينة موضوع النبي الدافورى الغريب كما أسمته الصحافة الغربية، من قربٍ كافٍ ورفع تقرير بذلك، كما أن الجماعات التي أعلنت إيمانها المطلق به حتى قبل أن تعرف تفاصيل دعوته، تتجمع الآن من كل أنحاء العالم وتسير في قافلة عملاقة نحو دارفور،عليه أن يقطع الطرق أمام هذا وذاك ويقوم بالتخلص منه بقتله، ولكنه يريد أن يقتله بطريقته الخاصة، بأسلوبه الذي يحب، يريد أن يختار له نهاية تليق بأسلوب ادعائه، يقول إنه المسيح، ليس متشبها به، وليس داعيا بدعوته، وليس احد تلامذته، ولا مريديه وليس المسيح الدجال ولا المهدي المنتظر، ولا برمبجيل، يقول إنه السيد المسيح بلحمه ودمه، وبهذا يستحق صلباً حزيناً بائساً يجعل كل من يحاول أن يدعي النبوة- وهم كُثر في هذه الأيام- أن يفكر ألف مرة قبل أن يعلن ذلك.

كان النجارون وأشباه النجارين مشغولين في صنع خمسة عشر صليباً من أفرع أشجار السنت المقطوعة حديثاً الصلبة وعليها بقايا الشوك، كانت صلبانا ثقيلة، يحاولون أن يجعلونها أثقل ما يمكن، يختارون السوق الأكثر رطوبة، المروية جيدا بماء الأنهر البعيدة في عمق الأرض، يضعون حولها دعامات ثقيلة من سوق أُخرى أكثر ثقلا، يدقون في أعماقها مسامير غليظة من الحديد الصلب ذات نهايات حادة، ويتم تذكيرهم بين وقت وآخر أنهم قد يُصلبون على ذات الصلبان التي يصنعونها الآن إذا لم تكن جيدة الصنع، كان النجارون وأشباه النجارين مجتهدين، يصِلون الليل بالنهار، أمامهم ثلاثون ساعة لا غير، العساكر لم يكونوا على أهبة، ولم يصبحون كذلك، لا يمكن أن يؤذي من لا سلاح له، بل من يقول انه سوف يبارك قاتليه؟ فكانوا لا يكفون عن لعب الورق، والشجار حول من الذي صنع البندقية الكلاشنكوف؟

الجنود ال66 شرسون، حاربوا في كل بقاع السودان، كانت لهم صولات وجولات في الجنوب والشرق والغرب، وقد يقاتلون في ميادين أخرى من ارض الوطن الحبيب، وهنا تكمن خطورتهم، أنهم متخصصون في القضاء على ثورات مواطنيهم بالذات، أي مثل القطط التي تأكل أبناءها، وتهرب من نُباح كلب الجيران، الجنود ال66 مدججون بأسلحة ثقيلة وخفيفة، دبابتين، ناقلتين للجنود وعربة لاندكروزر مزودة بدوشكا، يلفون رؤوسهم ووجوههم بشالات ملونة وكأنهم فرسان من قبيلة الطوارق، من الخطأ التعامل معهم وكأنهم شخص واحد، هم يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض، في النشأة، والموطن، استخدامهم للسلاح، حبهم للحياة، وفي فهمهم للحرب، بل في إيمانهم بالقضايا التي يحاربون من اجلها، أسرهم،عشيقاتهم وأحبائهم، من له أبناء وبنات ومن هو أعزب ومن ليس له غير نفسه، حبهم للحياة، مقدراتهم على التضحية بالروح والدم، فال66 جنديا، هم في الحقيقة 66 إنسانا، يكتشف ذلك من يقترب منهم أكثر، من يستمع لنبض قلوبهم، من يتحسس جريان الدم في شرايينهم، من يستطيع أن يدخل أصابعه في جيوبهم ويلمس لزوجة فقرهم وحرمانهم، الجنود ال66 مستعدون لتنفيذ الأوامر في الحال.

إبراهيم خضر، ليس هو القائد الميداني، كما انه ليس صاحب قرار في مصير الرجل، وهو أيضا ليس من مهمته إقناعه وقيادته إلى جادة الطريق، كان مكلفا بفهم آراء الرجل، وكتابة تقرير وافي عن ذلك، لا أكثر ولا اقل، تحت عنوان وإرشادات معطاة مسبقة، ولا نريد منك أكثر من ذلك، وليس من ضمن تلك الأسئلة القائدة سؤال مثل: هل هو نبي أم لا؟ كان بوده أن يُسْأل مثل هذا السؤال، ولكنهم للأسف يعرفون ويؤمنون بأنه ليس نبيـا فآخر الأنبياء في الدين الإسلامي هو النبي محمد (ص) وآخر الأنبياء عند الدين المسيحي هو السيد عيسى المسيح أما البوذيون والصوفيون وغيرهم فيتمسكون بمقولة: كل عقل نبي، ويفتحون بذلك الباب واسعا لكل من هبَّ ودبَّ. الذين أرسلوه في هذه المَهمة، لا يخطر ببالهم مجرد خاطرة أن يكون هذا الرجل نبياً حقيقياً، أو كما يقول هو عن نفسه: عيسى ابن الإنسان.

وكان الجنود يلعبون الورق، يشربون المريسة اللذيذة التي يصنعونها من بقايا خبز الطعام وأشعة الشمس الحارقة، كانوا 66 جنديا، ينضوون تحت كتيبة جاءت لدارفور من شرق السودان، لذا يسمونهم الشرقية، شعارهم خنجر، عندما تراه تحس به يتوغل في جسدك، يخترق جلدك، ليقبل قلبك الخائف قبلة أخيرة لا فكاك منها، ليسوا بجة جميعا، بل في الحقيقة ليس من بينهم بجاوى بالمعني الدقيق، يعني أن البجة بهذه الفرقة الصغيرة عددهم خمسة أفراد، ليست لديهم شعور كثة، وليست بوجوههم أوشام، كتلك التي لدى جدودهم منذ ما قبل مملكة كوش، اقصد تلك الخطوط الثلاثة الأفقية، التي تشير للرب وهو في ذلك الزمان الفيل حيث انه كان اكبر المخلوقات حجماً، للأرض، والسماء. الشرقية بها تشكيلة من كل سكان السودان القديم والحديث، يوحدهم شيء واحد، وهو أنهم شجعان ولا يعصون الأوامر وإنهم يلعبون الورق في هذه اللحظة.

أما النجارون وأشباه النجاريين، فكانوا مرهقين جدا وناقمين وليسوا سعداء بالمرة، ولم يخفف عنهم دوام العمل الطويل المُمِل العمال المائة اللذين الحقوا بهم، وهم قاطعوا الأشجار الذين يتولوا توضيب الأخشاب،  الذين يثبتون المسامير في مواضعها، وطارقو  المسامير الحديدية الحادة القاسية، وصانعو  الطعام والشراب، الذين يرفضون رفضا قاطعا صناعة المحرمات مثل المريسة، كما أنهم ليس لهم خبرة في صنعها، كانوا لا يعرفون لم يصر القائد الميداني على صناعة الصلبان، أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومن يتبعه بالرصاص، نعم انه مزعج ومخيف ويصدر ضجيجا مرعبا، ولكنه سيريحهم من صُنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة، الثقيلة، كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئاً عن يوسف النجار، وحدثهم خطيب صلاة الجمعة، إن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم، لأن الله رفعه للسماء وانزل بدلاً عنه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود وهم يظنونه عيسى ذاته، لِمَ يصر هذا العسكري على صلبهم، بينما لم يُصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذاً ما ذنبنا نحن النجارين؟

العسكر ال66 لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم، أنهم من اسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق، وتقيم الصلاة أيا كانت في الكنيسة أم في الجامع أو في أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تُقْتَل النفس البشرية، وانه حرم ذلك، ولكن من يطلق الأوامر هو من يتحمل الذنوب والخطايا التي تُرتكب في الحرب، أنهم سيطلقون الرصاص إذا أمروا بذلك ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هو القائد الميداني وهو الوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر، إنهم يعرفون ذلك جيدا، وهذا اخطر ما في الأمر لأن ضمائرهم ستصاب بالموت، بالخدر البارد مثل الطين المخلوط بماء آسن، أي أنهم عندما يذهبون إلى منازلهم بعد كل معركة، سوف لا يحملون في ظهورهم أوزار موتى أبرياء أزهقوا أرواحهم قبل ساعات قلائل، القادة الميدانيون بدورهم يحمِّلون جرم ما يفعلون لقادة اكبر يتسكعون في المركز، يستحسنون شُرب القهوة المعطرة بحدائق أوزون، وبيرة بافاريا على شاطئ النيل الحبيب، وهؤلاء يقولون إن القاتل هو من أشعل الحرب، أي ذلك السياسي الرقيق الذي ينام في بيته مع أطفاله بعد أن يغني لهم بعض التبتبات ويرضي زوجته المتبرمة بأوقية من الذهب الخالص، والسياسي الحصيف، يقف وراء المايكروفون قائلاً: أمريكا وإسرائيل– وأخيرا أخذوا يضيفون حكومة جنوب السودان- وراء هذه الحروب، بذلك يكون قد ولغ من الدم ما يُشْبِع روح غول رحيم.

النجارون وأشباه النجارين، يصنعون الصلبان في مقاس واحد فقط، وهو يصلح للجميع، نساء ورجالاً، يعملون عليه بصورة نظرية، فليس لديهم تصور على كيفية عملها، لأنهم لم يروا ذلك من قبل، بل لم يشاهدوا صورا لأشخاص مصلوبين، لقد أُعطوا المقاسات من طول وسماكة الأخشاب وقوتها وعدد المسامير ونوعها، وفوق ذلك كله طُلب منهم أن يقوموا بدق المسامير على المصلوبين فيما بعد، لا يوجد أكثر حرفية من نجار في دق المسمار، أليس كذلك، ومن الأحسن أن تكون أنت من يَدُق المسمار وليس من يُدق المسمار في جبهته وكفتي يديه، وواحد طويل وسميك في منتصف الصدر.

الرجل ومحبيه ومؤيدوه كانوا يجلسون في مكان مجهول لدي الجميع، بما فيهم العسكر الذين جاؤا لقتلهم والنجارون الذي يصنعون الصلبان وإبراهيم خضر إبراهيم نفسه، ولكي يتضح هذا اللبس، دعونا نلقي نظرة على المكان، وهو عبارة عن موقع لقرية قديمة تم حرقها وإزالتها من الوجود قبل عامين، تقع في وادي عميق خصيب، حولها سلسلة جبلية مستطيلة، تحيط بنصفها الجنوبي والغربي، يوجد في لصق الجبل الغربي منبع مائي صغير، وكان هو من الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه، وإنهم فيما بعد جلبوا إليه بضعة مئات من الجمال لترعى فيه مع بعض الأسر، ولكننا الآن لا نرى إي من هؤلاء الجنجويد وأسرهم، لقد قضى عليهم الرجلُ بكلمة واحدة، قال لهم اذهبوا نحو بلدكم: فاخذوا جمالهم وأطفالهم ونساءهم وعادوا للنيجر، تركوا بعض بعر الإبل وقليل من الوبر متناثرا هنا وهنالك، ورائحة بول ماشيتهم ظلت عالقة بالهواء لأيام معدودات ثم زالت أو أنها لحقت بهم. هكذا بكل بساطة ويسر، على مبعدة من النبع ببضعة أمتار تُوجد مغارات كبيرة وصغيرة، وهي بقايا ثكنات دولة الداجو القديمة في قرون ما قبل الميلاد، مرسوم بها تفاصيل حياتهم اليومية، أنهم يقضون وقتا طويلاً بالداخل، لا يدري احد ما يفعلون، ولكنهم يخرجون في صبيحة كل جمعة، ويبقون في ظل راكوبة كبيرة منصوبة بين الأشجار التي تحيط بالنبع، وفي هذا المكان والزمان سيجدون جنودنا في انتظارهم والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي.

النجارون وأشباه النجارين تعبوا من معالجة الأخشاب الصلبة الحمراء، استعانوا بالأغنيات التي تذخر بها ذاكراتهم المملوءة بنشارة الخشب، فحيح المناشير وانين الأشجار، بالنسبة للكثيرين منهم أن هذه المهمة التعيسة قد توفر لهم كثيرا من المال أو بعضه بالقدر الذي يمكنهم من توفير مصروفات منزلية ملحة ظلت عالقة في حبال المشيئات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر، وقد تبدو بسيطة تافهة لدى البعض مثل أحذية الأطفال، أو ثوب جديد للزوجة التي لا تملك سوى بعض الأحلام، قل بيتا صغيرا، أو تحسينات في القطيات القديمات، أو سروالاً جديداً لطفل كبير: قد  يعطوننا مالا كثيرا. أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان وان المال الذي سوف يجنونه من ذلك هو مال حرمته مؤكدة،يقيسون في لا وعيهم بتحريم الإسلام للخمور، فما حُرّم شُربه تقطيره حرام بالتالي ما حرم لبسه فحرام صنعه، وهاهم يفعلون ما حرم الخالق، ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن: يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رؤؤسهم.

 الجنود ال66 والنجارون وأشباه النجارين، لا دخل لهم بما يدعيه الرجل من نبوة أو إلوهية أو ما يشاء، وما تنوي الحكومة من نوايا تجاهه، هو لا يضر بنا بشيء كما أن ما تنويه الحكومة لا شان لنا به، ولكنهم كانوا لا يسألون أنفسهم مثل هذه الأسئلة، اقصد أنها لا تخطر ببالهم، بمعنى آخر، أنهم لا يمضون بها إلى حيث نهاياتها، لم ينالوا فيما قبل المعرفة التي تمكنهم من صياغة مثل هذه الأسئلة، لقد حالت أسئلة اليومي دون أية أسئلة أخرى، أسئلة أكثر جمالا وتعقيدا، أو بالإمكان القول: لقد حيل بينهم وبين الأسئلة الفعلية أو طرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخصهم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرار  في نهاية المطاف.

سمعوه يقول فيما بعد:

السجانُ هو سجين باختياره، والصليبُ لنا، ولمن صنعه.

ويقول أيضاً:

لا يصبح حراً من لا يستطيع أن يتبين أسئلته.

وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرارا مثل طيور السمبر، ولم يتحدث يوما عن الإجابات، لأنها كما علموا: متغيرة.

في الجمعة السابقة خرجوا من أوكارهم وتمشوا قليلاً ناحية ما كان في الماضي وسط القرية، وقف الرجل عند كوم تراب عليه بعض الحجارة، قال لأصحابه، بلغة دارفورية قديمة يجيدونها جميعا عربا ودارفوريين:

من منكم يرى ما بداخل هذه الكوم من التراب؟.

كانت مريم، تلك المرأة الجميلة التي سُميت فيما بعد بمريم الحبيبة، ومن قبل سماها القائد العسكري المتمرد شارون بمريم المجدلية، قبل أن تتركه وتنضم لجماعة الرجل. قالت له:

أنا لا أرى شيئاً.

وكذلك أكد بقية أصحابه أنهم لا يرون شيئاً، قال لهم إن بإمكانهم أن يروا إذا أرادوا، وكانوا يريدون ولكنهم لا يرون شيئاً، وقال لهم أشياء كان يقولها كثيرا، تخص الموت والحياة والإنسان وقدراته غير المتناهية، وفي تلك اللحظة هبت ريح خفيفة، كانت بها ريشة طائر، هبطت الريشة على كتف احد أصحابه وكان يقف قريبا منه، أي بينه ومريم الحبيبة، اخذ الريشة، لونها رمادي تميل للسواد، كانت أشبه بريشة غراب أو طائر سمبر صغير، قال لهم:

- إن الريشة هي الطائر.

 وبينما كانوا مندهشين ينظرون، إذا به يرسم غرابا على الأرض، يضع الريشة في مكانها المناسب، بل الصحيح، تنمو بقية الرياش في أماكنها بالقرب من الريشة الأولى، تكتمل بنية الرياش، من ثم يظهر المنقار، القوائم، المخالب، إلى أن اكتمل الغراب، يبتسم، ثم سألهم:

- هل منكم من يستطيع أن يجعل هذا الغراب يطير؟

 قال رجل من الأعراب اسمه حامد:

-لا أظن أن احدنا يستطيع ذلك.

فقال للغراب:

- طِرْ.

 فطار الغراب وحلق بعيداً، تقلب في الفضاء مستعرضاً جناحية وسواد أرياشه، نعق مخترقا  السماء الصافية نحو الشرق إلى ما لا يدرون، إلى أن اختفى عن دائرة نظرهم جميعاً، فقال لهم:

- إذا كان قد قال أي منكم  لهذا الغراب كما قلت له لفعل، كل ما ينقصه هو كلمة: طِرْ.

وقال لهم:

-إذا كانت الريشة تدري الكلمة، لقالتها لنفسها، فجمعت أشلاء الجسد الذي كانت تنتمي إليه، استدعت دمها ونعيقها، وروحها وطارت، لما انتظرت مجيئُنا لحظة.

وظن الكثيرون انه قد يعني بذلك أن الكلمة في الأحياء كما هي في الأشياء.

وقال لهم:

اعدوا العدة للموكب.

وما كانوا حينها يدرون ما هو الموكب، ولكنهم أخذوا يعدون له العدة.

وقال لهم:

الموكب الموكب.

كان النجارون وأشباه النجارين، مشغولين بصناعة الصلبان الثقيلة، الجنود ال66 يلعبون الورق، والرجل يعلم الكلمة للمؤمنين به وللكافرين على حد سواء، ويعدهم للموكب، لا يدرون متى قال لهم:

 الكُفرُ يا أحبائي درجةٌ بالغةُ التعقيد من الإيمانْ