2015/09/15

رواية الرجل الخراب 9

وهنا عرف درويش أيهما نورا، ولو أنه  حدس ذلك. حسنا كانت بها ملامح كثيرة من أمها. ليس الشعر فحسب ولكن المقلتين الكبيرتين الحزينتين وذلك الفم الواسع الشبيه بفم الإيطالية صوفيا لورين. لم تكن اللوحات غالية الثمن. فكان سعر اللوحة مائة شلن فقط. بالطبع لا يعرف درويش قيمة اللوحات. ليست لديه خبرة في الفن التشكيلي. ولكنه رآها جميلة جدا ودقيقة جدا ايضا. وأعجب بالسرعة وبالجهد اللذين تبذلهما نورا في صُنعها. لم تكن ضمن خطته أن يفاجئها بشيء. كل ما يريده هو أن يتعرف عليها عن قرب وفي صمت. لم تكن متوحشة. هذا ما توصل إليه    علي الرغم من أنه  لم يرها تتحدث. كانت صامتة طوال الوقت. ما عدا كلمات الشكر والمجاملات التي تلقيها علي الزبائن من وقت لآخر باللغة الإنجليزية. حيث إن معظم الزبائن من الأجانب. اشترى لوحة. وطلب أن يتصور معها ولكن أن يكون ذلك بعدما تخلص عملها. ابتسمت إليه وقالت بالألمانية: Genau.

لا يبدو عليها أي  من علامات التشرد التي يعرفها كما هي في مصر أو السودان. ولا حتى البعض الذين شاهدهم في أثينا. كانت طبيعية جدا. وتلبس رداء من الجينز أزرق. وبلوزة قصيرة الأكمام بيضاء اللون. وتضع شالا في عنقها، وما يظن أن الجو يحتاج لأكثر من ذلك بالنسبة للمتشردين وغير المتشردين. فشمس يوليو ساطعة وحرارة الجو ما فوق العشرين وبخار الماء يجعل الجو أكثر  دفئا علي الشاطئ. كانت سمينة ذات بشرة وردية. تبدو بصحة جيدة ولا ينقصها شيء، ولو أن السمنة في أحيان كثيرة تشير إلى عدم توازن نفسي. لاحظ أن أصابعها كبيرة لحد ما. ولكنها تبدو تحت ألوان الزيت مثل أصابع طفلة مشاغبة. كان السياح الآسيويون يعبرون صامتين، يصورون كل شيء مهما كان عظيما ومدهشا وثريا كمجوهرات وتحف  شارع جترايدقاسا Getreidegasse، أو عريقا مثل قلعة جبل القمر Monschberg أو ضئيلا ولا يمكن ملاحظة وجوده مثل دودة صغيرة تعبر الطريق، طائر دوري يلتقط كسرة خبز، غراب يحجل علي الشاطيء، وزتين تسبحان مع التيار، نورس نهري يلتقط بعض الأسماك، نحلة صغيرة تمتص رحيق زهرة تيولب، امرأة ترسم بصمت، موجة فجائية حزينة ترتطم بصخرة ملساء علي الشاطئ قرب رِجلِ رَجلٍ عجوز، برج كنيسة يبدو من بعيد مُلوحاً بأجراسه الصفراء عبر الأشجار. يشيرون للأشياء منبهين بعضهم البعض بأدب وأصوات أقرب  للهمس أو التراتيل السرية السحرية، قد تفرضها الحاجة للتمتع وإدخال البهجة في نفوس بعضهم البعض، أو الرغبة في إقناع أنفسهم بالاستغلال الأمثل لما أنفق في هذه الرحلة الفريدة التي قد تكون رحلة العُمر إلى  مدينة الموسيقي التي سمعوا عنها كثيرا وربما شاهدوا فيلما صوت الموسيقى مرات عديدة قبل حضورهم إليها. فيجب أن يصبح كل شيء فيها مثيرا للفضول والبهجة ومبررا لصرف المال. أو أن المدينة الهادئة الجميلة تفرض صلاتها وهي نوع  من صلاة التفاصيل الخاصة من أجل ذاتها المقدسة. حيث كانت مدينة سالزبورج في القرون الوسطى مدينة دينية، واستمرت كذلك لعصور كثيرة مرت، وكانت تحت إدارة كاردينال الكنيسة مباشرة في العصور الرومانية. ثم ببركة الموسيقار موتزارت أصبحت ذات روح أرستقراطية في جسد ديني بأنفاس سيمفونياته الخالدات في فستان من العمارة الرومانية والباروكية متشحة بثوب من الجبال الجيرية الشاهقة. لقد كانت فعلا عروس الألب.

 سأله  سائح بأدب جم، أن يلتقط له صورة مع شريكته، فرد إليه بالعربي، بأن    ذلك ممكنا، فاندهش السائح وبحلق فيه قائلا:

- إذا أنت سوداني.

- نعم، وأنت خليجي أليس كذلك.

قال له وهو يمد إليه يده مصافحا:

 - نعم سعودي.

 وأضاف مبتسما وهو يرمي شريكته بنظرة سريعة:

- ولكن سعوديون حداثيون.

فضحكا، وضحكت أيضا   شريكته السعودية التي تلبس بنطالا أنيقا جداً مع بلوزة وردية زاهية. حذاؤها أنيقٌ رياضيٌ أبيض تبدو ماركته التجارية ظاهرة للعيان. تضع في وجهها نظارةً شمسية من ذلك النوع الذي يغطي معظم مساحة الوجه العُليا ويبرز جمال الأنف إذا  كان جميلاً ويجمله إذا  لم يكن كذلك. إنها  سليلة تلك النظارات غالية الثمن التي يتم عرضها في شارع Getreidegasse بالمدينة القديمة. كانت هي المرة الأولي التي رأى فيها سُعودية سافرة، والحق يُقال إنها  جميلة مثلها مثل كل بنات حواء وما كانت في ظنه- وبعض الظن إثم- أنها  في حاجة لكي تخفي نفسها خلف أحجبة من الأغطية السوداء. وليس هنالك فرق بينها وبين أية    عربية سافرة أخرى  أو غير عربية. التقط لهما صوراً كثيرةً في اوضاع مُختلفة. ولاحظ علي الرغم من أنه  قدمها له كزوجة أو شريكة. إلا أنها  ما كانت تلتصق به كثيراً. كانت دائماً ما تترك مسافةً بينهما. مسافة أحس  بها درويش أنها  تنبع من عمق سحيق ينظمها بوليس سري لم تستطع الحداثة أن تسمم قلبه الحجري. وعندما أعاد الكاميرا للرجل سأله السعودي:

- هل أنت  في سياحة أم زيارة.؟

قال له

- انا اقيم هنا مؤقتاً.

سأله مندهشاً:

- هنا؟ في هذه البلاد الساحرة، ماذا تعمل؟

حقيقة أن السؤال كان مفاجئاً. مثل تلك الأسئلة المفاجئة التي صفعها به الإريتري صلاح سعد من قبل في أثينا باليونان. قال بعد قليل من التردد والتفكير:

- أعمل مشرفاً.

- مشرفا علي ماذا؟

فكر قليلا. ألقي نظرة سريعة لرفيقة الرجل السعودي. فلاحظ أنها  منتبهة. واضعة ابتسامة ناعمة بين شفتيها المطليتين بالروج. تنتظر الإجابة. كأنما هي التي ألقت السؤال. ثم قال:

- مشرفا علي حيوانات.

سأله في سرعة:

- هل أنت  بيطري؟

قال وهو ينظر للرجل في عينيه كما يفعل هو الآخر:

- لا، أنا صيدلاني، طبيب صيدلاني.

- ممتاز والله، ممتاز. أنا أعرف كثيرا من السودانيين، يعملون في شركة والدي في الرياض، والدي عنده توكيل شركة فورد الأمريكية، أنا أحبهم جداً، هم أمينون، وطيبون، بس كسالي كتيير، يعملون بمزاجهم ويتركون العمل بمزاجهم.

يبدو أن كلمة كسالي لم تعجبه، فقال له:

- كسالى أم مزاجيون؟

ردت زوجته:

- في الحقيقة الاثنان معا. فالسوداني قنوع بما يكسب. ولا يفكر في المزيد. عكس البشر عموما. دائماً طامعون طامعون في المزيد. وكثير من الناس يفسرون ذلك كسلا. ولكن أنا عن نفسي أفسره قناعة: والله أعلم.

ضحكوا جميعا، حتي تلك السيدة الأروما التي لم تفهم شيئا من الحوار، ولكن كان الأمر بالنسبة لها مهما ومُدهشا. وأكثر ما تستغرب له هو تلك اللغة التي يتحدثها بطلاقة أشخاص يبدون من الخارج مختلفين تماماً. نعم جميعهم سود. ولكن أحدهم في سواد لونه أشبه     بإفريقي والآخران آسيويان، ولكنها لاحظت تلك الالفة بينهم. والحميمة. وكيف يجرون حوارا بدأ عرضيا ولكنه، استمر طويلا. وانتهي بضحكات عميقات وقُبل وابتسامات ووداع حار وتبادل عناوين وتلفونات. وطبعا كانت ستضيف أيضا   شيئا مهما لدهشتها تلك، إذا  علمت أن السعودي سأل درويش ما إذا  كان يحتاج لنقود، ولكن درويش رفض تلك الفكرة موضحا "أنها مستورة" وهو لا يحتاج لأية مساعدة من ذلك القبيل. وأنه يعمل ولديه نقود كافية لكل شيء.

وعندما ذهب السعوديان سألته:

- هل انتم هنود؟ أظنني سمعتكم تتحدثون الأردو، يتحدثها بعض الأصدقاء الهنود في المدينة؟

بالتأكيد كانت السيدة محقة. لولا أن الراوي كتب الحوار باللغة العربية الفصحى لحد كبير وبتصرف معقول، وهي ليست فكرتي ككاتب للرواية. لأنني أعتبر أن الحوار جزءً من بناء الشخصية. وأفضل أن  أكتب الحوار بلغة الأبطال أى   شخصيات الرواية. ولكنني في بعض الأوقات أفضل أن أترك الحبل في القارب للراوي. أحيانا بإرادتي وفي أحايين كثيرة تحت سطوته أو إلحاحه. كما حدث في هذه المرة فمن غرائب الأحوال أن هذا الراوي لا يحب الحوارات. يعني ذلك إذا  كُتب الحوار بالصورة التي جَرى بها، لِما استغرب القُراءُ الكرام من سؤال المرأة. لأن السعوديين كانا يتحدثان بلكنة بنغالية واضحة مع درويش. فدرويش لا يتحدث السعودية، والسعوديان لا يتحدثان السُودانية أو المصرية. وابتدرا الحوار معه باللغة العربية التي يتحدثانها مع خدم منازلهم البنغال في المملكة. وهو استخدم به خليطا من الفُصحي والعاميتين المصرية والسودانية والقليل الذي يعرفه عن العامية السعودية مثل ايشش ووللَّلا وحياك الله وأظن ذلك كان كل شيء. ولم يتردد في استخدامه.

قال لها:

- لا ، تحدثنا اللغة العربية.

- أهااااااا.

 ثم سألته:

-  من أين أنت؟

قال لها:

- من السودان ومصر، أنا سوداني مصري، أمي مصرية وأبي سوداني.

- آهاااااا.

ثم أضافت

- أنت أشبه     بإفريقي جنوب الصحراء.

قال مبتسما:

- نعم أنا إفريقي واللغة العربية لغةٌ آسيوية افريقية.

قالت ضاحكة وكأنها تعتذر:

- آسفة، أنا لا أعرف كثيراً في اللغات، أنا شبه أمية.