2015/09/15

رواية الرجل الخراب 10

ا يهم كثيرا ما تبقي من حوار بينهما، ولكن الأهم. أنها  من خلال الحوار القصير عرفت أنه  يقيم في مدينة صغيرة في محافظة سالزبورج. وهي نفس المدينة التي تنحدر منها أسرة صديقتها نورا اشتادكند. لذا رأت أو اقترحت بأدب أن تعرفهما علي بعض إذا  رغبا في ذلك. نورا إنسانة طيبة. ولكن عليه ألا يسألها عن التفاصيل. فهي لا تحب ذلك، قد تحكي كل شيء ولكن عندما ترغب في ذلك بنفسها. يكفي أن يذكر لها أنه  من سالفلدن.  شرحت له ذلك بصوت هامس.

قال لها: أنه  يفهم خصوصيات البعض. وفي نهاية  اليوم العملي، قبل لحظات من انتهاء وقت زيارة كاتدرائية سالزبورج وقبر القديس بطرس. حيث يتوقف سيل السياح العابرين للجسر الصغير نحو المدينة القديمة، التقط معها صورة، بكاميرته الصغيرة. تحدثا قليلا عن سالفلدن. لم تخبره عن أمها ولكنها قالت له إنها  وُلِدتْ هنالك، وأن لها ذكريات مؤلمة بها. سألته، ماذا يعمل هنالك؟

قال لها:

- اعمل مشرفاً.

قالت مندهشة:

- مشرفا علي ماذا؟

قال بصوت خفيض:

- علي بعض الحيوانات.

قالت له وهي تنظر إلى  عينيه

- لا أفهم ما ذا تعني؟

قال لها، وهو يستعد للمغادرة:

- أنا أعمل مُخري للكلاب.

صاحت البنت الأخري.

- مُخري للكلاب؟ ماذا يعني مُخري للكلاب، فإن الكلاب تخرا وحدها ولو كانت في سالفلدن أيضا أو في فيينا.

وضحك ثلاثتهم، لم يضف شيئاً. ودعهما ومضي علي وعد أن يعود مرة أخرى  ليشرح لهما ما معني مُخرى للكلاب.

وهو يعبر ساحة العمدة في المدينة القديمة، لاحظ وجود نصب الحفلات الترفيهية المتنقلة.  ودعته الإيقاعات الإفريقية القوية علي المضي قدما للمشاهدة من قرب، لم يكن هنالك مشاهدون كُثر، كانت فرقة إفريقية، يرتدي أفرادها ملابس غريبة أشبه     بملبوسات شرق إفريقيا، وكان المغني شابا قصيرا، ذا شعر مضفر وممشوط في أسلوب شعر بوب مارلي، وكانت هنالك راقصة بارعة ترقص كما لو كانت محاربا شرسا يصارع جنيا، أو صائدا ماهرا يعارك أسدا هصورا، كانت ذات طاقة جبارة، ولكنه تعرف علي الوجه، تعرف علي نادية منذ النظرة الأولي، كانت قد مرت سنتان منذ أن افترقا في فستبانهوف بغرب فيينا. ولم يعرف أنها  تجيد الرقص بهذه الشاكلة، وكانت أجمل مما تركها، الآن هي أشبه     بحورية افريقية ساحرة. علي الرغم من أن اليوم يمضي سريعا، إلا أنه  انتظرها إلى        أن انتهى دورها في الحفل وصعدت فرقة صينية بها عشرون عازفة وعازفا علي آلات إيقاعية من خشب الصنوبر، كانوا يتشابهون مثل قطعة نقود من ذات الفئة، ولو أنه  كان شغوفا بأن    يستمع إليهم، علي الأقل للمرة الأولي في حياته يشاهد موسيقيين من الصين، ويشاهد مثل هذه الإيقاعات الغريبة، إلا أنه  كان في شوق لمعرفة تفاصيل حياة نادية وكيف ومتي انتهي بها التطواف إلى        هنا.

من خلفية المسرح المتحرك، وجدهم يستعدون للمغادرة. وعندما رأته عرفته، التقيا مثل صديقين قديمين حميمين، كانا يتحدثان بالألمانية وعرفته برجل سبعيني، ذي لحية صغيرة بيضاء، وجه مستدير وعينين شرستين مثل عيني ضبع جائع، قالت له إنه  صديقها روبرت هانس، وهو مدير الفرقة. ورحب به السيد هانز وقال إنه  يعرفه من حكايات نادية عنه، وهجرتها إلى        النمسا عبر شاحنة الخنازير.

- ما كنت أعرف أنك راقصة.

- لقد حدث ذلك بفضل هانز، عندما التقينا كان مديرا لفرقة استعراضية تراثية نمساوية، ولكن لظروف ما أفلست الفرقة، وقام بإنشاء فرقة إفريقية، وطرح عليّ الفكرة وقبلتها، وقام بإدخالي مدرسة للرقص بفيينا، علي نفقته الخاصة، وأصبحتُ راقصة كما ترى. الآن نحن نقوم بالعمل اليومي في كثير من قاعات الديسكو في فيينا وسالسبورج ومدن أخرى  في النمسا. إنها  مهنة متعبة ولكن هنا كسب العيش ليس بالشيء السهل، يحتاج الأمر لمجهود كبير وعلي هانس أيضا   ديونٌ كبيرةٌ علي خلفية سلفيات من البنوك. ماذا تعمل أنت؟

ابتسم ابتسامة كبيرة، وهو يقول:

- مُخَرِي.

قالت مندهشة:

- مُخَرِي؟

أضافت، ماذا يعني مخري؟

قال لها، من بين ضحة كبيرة:

- مخري لكلاب امرأة مريضة، آخذ   الكلاب لكي تتبول، أفسحها حول المكان، ثم أعيدها وأطعمها لكي تَكوَّن خُراءً جديدا في أحشائها ثم آخذها مرة أخرى  لكي تتخلص منه في أمكنة ما في المدينة، وهكذا. لقد قلت أنت   قبل قليل إن الحياة هنا ليست نُزهة، أليس كذلك؟

ضحكا كثيراً، وتبادلا أرقام التلفونات والعناوين قبل أن تلحق بفريقها في أحد فنادق المدينة، قالت له: أحس     بأنني منتهكة. أو قل إنني        مستهلكة. مستهلكة لأبعد الحدود. أريد   أن أرتاح قليلاً، ولكن ذلك لا أظنه سيحدث قريباً أو أنني أشك في أنه  سيحدث في يوم من الأيام. ولكن علي كلٍ ذلك خير من الموت.

لم يلتقيا مرة أخرى، ولكن بين حين وآخر كانا يتصلان ببعضهما البعض عندما تكون هنالك أحداث كبيرة في حياة أحدهما، اتصل بها عندما أنجبت له نورا ميمي، واتصلت به هي عندما قررت أن تترك هانس، الذي لا يرغب في إنجاب الأطفال في هذا العمر  محاجته أنه  لا يدري ماذا يفعل بالأطفال وهو لا يدري كم من السنوات سيبقى لأجلهم  وهي تريد طفلا وتخشي أن تعبر الثلاثين بغيره، ثم يصبح من ضمن الأحلام المستحيلة، ولكنهما ما زالا يعملان معا، في علاقة عمل ليس إلا وقالت إنها  تبحث عن شريك، يريد أطفالا ولديه مصدر رزق غير الفن وليس من المهاجرين وليس رجلا فقيرا، فهي جميلة وتستحق رجلا ثرياً يفضل أن يكون وسيما ويفضل غيره ايضا. يتبادلان الأخبار في دقائق قليلات، ثم يغيبان عن بعضهما البعض، لسنوات ولكن كانت تلك آخر مكالمة بينهما، عشرة أعوام من الآن.

قد يتوقع القارئ الكريم أو القارئة الكريمة بأن    الرواية منذ هذه اللحظة سوف تمضي في واحد من ثلاثة محاور، إما يكمل الراوي قصة زواج الأم من درويش، وبذلك يتم تشكيل الصورة السردية لنورا شولز. حتى يستقيم الوضع الفني لها كزوجة ثم كأم. أو أن تمضي الرواية في خط آخر وهو يمكن التنبؤ به أيضا   من قبل القارئ أو القارئة. والمقصود هنا الحوادث التي تدور في هذه اللحظة في بيته، أى   في غرفة ابنته لأن الكثيرين يهمهم أن يتعرفوا علي سير العلاقة المُربكة ما بينه وبين ابنته من ناحية وما بينه وبين حبيبها توني من ناحية أخرى، أما المحور الثالث هو ما يمكن أن نطلق عليه التناقضات العميقة في حياة درويش عبر سيرته الذاتية المُحْكاة في صورة فلاش باك. لكن للأسف حدث ما يصعب تفسيره للقراء والقارئات الكريمات. في الحق أنني        محرج علي تناوله. إن الراوي شاء أن يهتم بحدث تافه عابر وقع بينما كان درويش في طريق عودته إلى        سالفلدن بقطار الرابعة والدقيقة الثامنة بعد الظهر. ومن جانبي رفضت تضمينه في الرواية. لأن ذلك سيقودنا لمحور آخر غير مخطط له وغير متفق عليه من قَبلُ. كما أن ذلك سيورط النص الأدبي فيما يسميه بعض النقاد الكلاسيكيين الحَرفِيين: الخروج المريع وغير المبرر فنيا عن الخط العام للتحقق السردي. في السودان يدفع الكثيرون من المتمرنين في النقد بتقديم بعض النصائح للكاتب في ذلك الظرف بالذات. وأنا لا أريد   أن أدخل في أية    مشادات أدبية. بالتالي - للأسف- إنني  خسرت الراوي. خسرته تماما، علي الأقل خسرته الآن، لأننا لم نصل إلى رؤية مشتركة أو لحل وسط. وهذه الحادثة حصلت لي من قبل في روايتي الموسومة بالخندريس، علي ما أذكر. إذا  لم تخني الذاكرة. عندما رغب الراوي في تحويل الرواية لمغامرة بوليسية، ولم يعجبني ذلك، وقمت حينها بتولي قيادة السرد باسمي الشخصي في فصل بأكمله كان الأمر مخجلاً بالنسبة لي ومرهقاً، أن أكون مؤلفاً وراوياً. لكن الأمر مرَّ بسلام وأعدت الأمور إلى نصابها ومن ثم سلَّمت الخيط السردي للراوي. مثلما يحدث في مباريات كرة القدم، عندما يتبادل لاعبان موقعيهما. يدخل الأول الميدان ويخرج منه الآخر وبينهما ابتسامة وضربة كفين مرحين. أو مثل أية    مسألة تسليم وتسلم سلمية. سأستعين هذه المرة بدرويش نفسه ليسرد بعضا من النص، ودرويش رجلٌ مرتبكٌ ومحبطٌ ويسهل قياده. إلا أنني غير شديد الاطمئنان لجانبه. فالمهاجرون كل المهاجرين يحتاجون لتأهيل نفسي قبل أن يُوثق في أفعالهم، فالهجرةُ تحاكي فعل النمل الأبيض في حشو الخشب الرطب. يأكل قلبَ المُهجرِ ليلاً ويبصقه في النهار. ولكن، كما قال الشاعرُ العراقيُ سَعدي يُوسف: أى   تَيجانٍ سنخسرْ؟

"ما كنت أظنها ستستجيب لطلب أمها بهذه السُرعة"، بدأ درويش سرد الحكاية من هذه النقطة بتلك الجملة الرشيقة ولو أنه  بدا بالحرف "ما" الذي يعمل هنا كأداة نفي تدخل علي الفعل الماضي فتقلبه رأسا علي عقب. مما يربك القارئ المستقر لأنه يضعه مباشرة في قلب الحدث مختصرا تفاصيل أزمنة وأمكنة كثيرة. بدأ من اليوم الذي شارفت فيه لوديا علي الوداع. أى   اليوم الذي تراجعت فيه عن قرار أنها  لا تريد أن ترى ابنتها. وأن علي درويش أن يخبرها بعد رحيلها. ولكنها فجأة طلبت من درويش أن يذهب ويبحث عن بنتها في سالزبورج وهي تريد أن تراها قبل أن تموت. إذا  بدأ درويش السرد، بعدما حدث نورا حقيقة أنه  يعمل مع أمها في البيت في رعاية الكلاب ومساعدتها علي الحياة، وأن أمها في لحظاتها الأخيرة وهي تريد أن تراها. وبذلك أيضا   اختصر تفاصيل وقوع المفاجأة عليها ورد  فعلها.  وكيف ومتي ذهب إلى آخر التفاصيل السردية التي يسخر منها الروائي النمساوي توماس بينرهارت ويعتبرها حشوا سرديا ابتكره الروس ولا داعي له.

ليست هناك تعليقات: