2009/02/02

صاحبة المنزل


هو شخص عادي، عادي مثلك، يعشق السلام ويحب أن يكون آمناً محبوباً، فهو مثلك يحب أن يكون محاطاً بالنساء الجميلات ولكن المرأة الجميلة عنده هي ليست مارلين مونرو أو صوفيا لورين ولا حتى ملكة جمال ملكات جمال العالم.
المرأة الجميلة عنده هي المرأة التي تقبل أن تذهب معه إلى مسكنه، أو وجره كما يسميه، حجرته الطينية الغبشاء وتجلس على عنقريبه المتهالك العجوز ذي اللحاف المتسخ ببقايا الصاعوط وكأسات العرق الأخيرة والتي قد يضطر على شرابها وقد بلغ السكر أشده فتندفق علي اللحاف مذيبة بقايا الصاعوط فيشكل المزيج خرائطاً بائسة، فهي اذاً امرأة بالغة الجمال إذا شربت من جركانة الماء المملوءة منذ يومين، التي بني الطحلب علي جوانبها – اخضر لزجا وماسخا – مستعمراته، اذاً هي أجمل من هيلين طراودة اذا تمطت علي عنقريبه ثم... نامت. هو شخص عادي وبسيط مثلك، فلماذا لا يهيم بالصبية الرد فاء التي تبيع السمسمية عند الحنية الصغيرة قرب بيته، الصبية التي عرف إنها جميلة منذ أول جملة قالتها له عندما استدان منها ولأول مرة قطعة سمسمية كبيرة.
- أأنت الذي يسكن ذلك المنزل ؟
مشيرة بإبهامها الرقيق – رغم سمنته – نحو وجره.


(2)

صاحبة المنزل، صاحبة الحجرة الطينية الغبشاء، والتي يتخذها وجرا لنسائه الجميلات وقلعة تحميه إلحاح الدائنين ولجب عسكر الخدمة الإلزامية.
قد تبدو هذه المرأة بمقياسك للجمال، هي أجمل سيدة تقع عليها عين في مثل تلك الحارة ولن أصفها لك، ولكني أهمس في أذنك بأن تنظر الي التلفزيون الآن وإذا بدأت أمامك مذيعة لا يهم من تكون تمعن في وجهها فهي تشبه صاحبة المنزل كثيرا عندما تعمل فمها في اللغة، لأن المذيعات كما تعرف – عندما يلوين شفاههن وهن يحاولن إخراج الكلمات من بين أحمر الشفاه والأسنان المطلية بماء الفضة، فهن يتشابهن كثيراً في تلك اللحظة يشبهنها وهن يدللن اللغة فيخرجنها مخنثة أو دائخة من عطر الفم الكيميائي المخلوط بروح الأناناس أو الليمون، ويمكن أن نضيف إلى هذا الجمال الواضح البين كرمها، فهي تهبه يومياً وجبه كاملة وحتى صبيحة الأمسية المشئومة والتي ضبطته فيها يراقد الصبية الرد فاء بائعة السمسمية والتي كانت في تلك الأمسية أجمل امرأة في العالم، حتى بعد هذا الحدث الرهيب لم تكف عنه يد العطاء ولم تسأله عن أيجار الأشهر الثمانية المنصرمة، بالرغم من أنها انهالت عليه ضرباً مبرحاً بعصا مصنوعة من أحطاب الكتر، ضرباً لا رحمة فيه ولا مخافة من عذابات يوم الحساب، وعندما سقط مغشياً عليه أخذت تركله في بطنه وصدره ثم أهالت عليه التراب ثم صبت عليه ماء الجركانه المطحلب البارد، بصقت عليه مراراً ولو، لم يمنعها بعض الحياء النسائي والذي عادة ما يصطحب جمال المذيعات لتبولت عليه ثم تبولت عليه.
كانت قاسية وعنيفة بشكل مفاجئ ومباغت مباغتة شلته تماماً عن التفكير، بل ذهبت بوعيه وشتتت فتاة المتعة الإنسانية العميقة والتي كان يقتاتها بكل سلام وبراءة من بين ردفي أجمل امرأة في العالم، صبية السمسمية، تلك القسوة التي عجز عن وصفها لصديقيه بابكر المسكين، ومايكل أكول عندما زاراه في وجره صبيحة الليلة المشئومة، فقط اكتفى بأن خلع ملابسه واراهما ظهره ثم أعطاهما رأسه الذى ما زال متروباً ومطيوناً بماء الجركانة مطحلباً... ثم أراهما أذنيه المعضوضتين ثم ساقيه المكلومتين ثم سألهما عن آمنة.. عن عينيها الحلوتين البريئتين وعن ضرسها المسوس وهل ما يزال يؤلمها ؟! ثم أكد لهما بأن اللكمات التي تلقاها من هذه المرأة، كفيلة بقتل ديناصور وليس بني أدم مسالم وطيب مثله.
ولو أن الموقف كان في قمة المأساة إلا انهما انفجرا بالضحك وضحك هو أيضا، بالرغم من الوخزات التي كان يحدثها الضحك في ظهره ورئتيه وعندما سأله مايكل أكول عن مصير الردفاء، قال:
- لا أعرف عنها شيئاً، لقد كنت في شبه غيبوبة.. فقط أعرف أنها اختفت عارية لان ما تجلسان عليه الآن هي أثوابها..
سألهما عن آمنة وعن كشه، الخدمة الوطنية الإلزامية، قال: له بابكر أن فوال المحطة الوسطى دايم السؤال عنه، كم طلباً من الفول أكلت منه بالدين؟ ّ ثم أضاف وهو يحملق في جرح بساق صديقه المغضوب عليه:
- لقد أصابتك لعنات ام بخوت صاحبة الشاي، وصاروخ الكيف ولعنات كل فوالي العاصمة حتى بائعات التسالي وفارشي الكتب على الرصيف وبائعات عرق البلح والداعرات..
فرد مايكل أكول مبتسماً
- أيهما أهون عند الله الموت جوعاً أم الأكل بالدين..؟
قال بابكر وهو يبصق سفة صاعوط
- ولكن السكر بالدين.. والمزة بالدين..وحتى النساء بالدين ؟!
ألم يكن هذا ما يسميه خطباء الجمعة بالإثم المركب ؟!
ضحكا، فسي فسوتين متتاليتين، سأل عن آمنة أحس براحة نفسية عابرة سأل عن الكشة ونتيجة المعاينة الأخيرة، سأل عن آمنة وما إذا كانت ما تزال تتردد على المركز الثقافي الفرنسي باحثة عن عمل او تسهيلات لتأشيرة دخول لفرنسا، بعد أن خاب أملها في اصطياد ضربة حظ اللوتري الامريكي. طلب سفه صاعوط.
(3)

بصق سفة السعوط، قال أنه لم يقابل آمنة منذ أكثر من أسبوع فقد بقي بحجرته سجين الدائنين وعسكر الخدمة الإلزامية، الآن حبيس المرض.. طلب سفة صعوط أخرى، فقدم إليه مايكل أكول سيجارة كان يحتفظ بها في جيبه بعد أن دخن نصفها مناصفة وبابكر المسكين في الطريق، سأل عن آمنة وهل وافق الطبيب علي خلع ضرسها.


(4)

علي المنضدة الصغيرة المصنوعة من الفلنكة كان وعاء الطعام، أرسلته صاحبة المنزل في الصباح الباكر مع طفل صغير كالعادة، بالرغم مما حدث بالأمس... وكأنه لم يحدث شئ بل وكأن ما حدث لم يكن سوي مواجدة تزيد من التقارب الإنساني وتقوي العلائق الاجتماعية، فكان الإفطار دسماً وشهياً جعل ثلاثتهم يتذكر الوجبة الملائكية – كما تسمونها – والتي تطفلوا عليها بقاعة الصداقة وهي عبارة عن مأدبة عظيمة أقامتها أسرتان ثريتان احتفاء بنكاح وقع ببينهما.. فدخلوا كالمدعوين ثقة وادعاء للغني – ولو كان ذلك علي مستوي السلوك فحسب لان مظهرهما الخارجي كان يدل علي البؤس والعطالة – فإذا رآهم أهل العروس ظنوهم من أصدقاء أهل العريس وإذا رآهم أهل العريس ظنوهم من أصدقاء أهل العروس ولم يكتشف آخرهم إلا بعد أن شبعوا واتخموا بالمحشيات والمشويات والمقليات والسلاطة وحينما تذكروا آمنة وإنها الآن ربما تتلوى جوعاً.. فهل نبخل عليها بفرخة سمينة مطبوخة بالبهار والسمن البلدي محشوة بالزبيب والزيتون وما لا يعلمون ؟!
وأمام دهشة مئات المدعوين الأثرياء، تلك الدهشة المنعمة السمينة المشحونة بالازدراء وعفن الدونية. حمل بابكر المسكين الفرخة عارية تقطر سمنا بلديا وتفوح منها رائحة البهار الهندي، وخرجوا من مطعم القاعة مسرورين يغنون بصوت واحد نغما شائعاً رخيصاً يناسب ثراء المكان وعقد المناكحة المحتفى به، سادتي: أنا وصديقاي نحي فيكم روح الثراء، ونبارككم أبداً ما تناكحتم وشم بعضكم فيخ بعض.

(5)

سأل عن أمل، قالا له: إنها أنجبت ولداً واحداً فقط على الرغم من ضخامة فخذيها وسمن زوجها والذي في الغالب يزن اكولين ونصف بابكر، أي ثلاثة أكول إلا ربع الأكول، قالا انها ما تزال غنية وكلما قصدا منزلها أنقدتهما مالا لا يستهان به يمكنهما من شراء الصاعوط وركوب المواصلات وقد يتبقى لهما ما يساوي نصف زجاجة العرق ومزة رخيصة قد تتعدى الزيتون الأسود أو الفول المدمس.
قال إنه طوال هذه الأيام المقضية في حبسه كان يكتفي بوجبة واحدة صباحية يتيمة والتي تهبه اياها صاحبة المنزل مجاناً ولله وحده، ويقضي يومه في قراءة وول سونكا استعداداً لدراسته أكاديمياً في إطار إعداد بحث عن الصورة الشعرية في الأدب الأفريقي الحديث.
وأحياناً وفي بعض المساءات تشاء سيدة ما تكون أجمل امرأة في العالم وغالباً تقوم بهذا الدور الصبية الردفاء بائعة السمسمية، فتتسلل الي حجرته حاملة معها بعض السمسمية وتحكي - بينما يلتهم هو السمسية التهاماً- عن صديقتها الوحيدة والتي تبيع التسالي و حلاوة فوفل عند بوابة السينماء الوطنية، التي بإمكانها حفظ أي أغنية هندية بسماعها مرتين فقط وهي أيضاً تشبه الهنود في طباعها وأيضاً ملامح وجهها، فلها وجه مدور كالقمر ذو بشرة ناعمة شفافة يمكن من خلالها رؤية شرايين دمها.. شرياناً شريان. وبين حاجبيها لها شامة ربانية والذي جعلها هندية أكثر وأكثر هو أنها تستخدم كريم ديانا مخلوطاً بمعلقة من اللوكسيدآر وملعقتين من الكلي وقليل من الكبريت الأصفر مما جعل وجهها أبيض كالقمر المكتمل وأظهر شامتها الربانية السوداء بين حاجبيها الكثيفين.. آه.. يا ليتك رأيتها، حمداً لله.. لأنك إذا رأيتها ما كنت تهتم بواحدة مثلي لا تستخدم سوى صابون سبتو.. لا.. لا تظن إنني استخدم سبتو لأنني فقيرة..؟ لا.. ولكن لأن الديانا واللوكسيدآر.. والكلي وحتي الكليرتون والامبي تسبب لي حساسية.. ألا تري هذه البقع السوداء بوجهي.. إنها ليست خلقة ربانية!! ولكنها رغم جمال صديقاتها وتهندها، إلا أنها تعيب عليها قلة أدبها – فقلبها فندق.. وحبها وغرامها البوليس والجيش وأظنها تحاكي بذلك سيتا حبيبة كومار ابشلخة الخائن، فأنا عكسها، تماماً لا أذهب إطلاقا لبيوت العزابة ولا ميس الضباط وأكره ما أكره العسكر والبوليس. وأفضل عليهم بمليون مرة الطلاب وكانت تحكي له بينما يلتهم هو السمسمية التهاماً، وعندما يفرغ من التهام السمسمية يلتهمها هي، يلتهمها بحرفية وأستاذية تثير إعجاب صديقتها خدوج الهندية به، وحسدها عندما تقص عليها أثر كل مغامرة تقاصيل شبقة وحبه لها.
أخرج بابكر كيس تمباكه،ضغط على الكيس في عدة اتجاهات مختلفة بأنامله مكونا كرة صغيرة من الساعوط، أخرجها بميكانيكية، رفع شفته العليا فبدأ كحمار يتشمم بول أنثاه ثم وضع كرة الصعوط بكل أناة ودقة ما بين شفته العليا ولثته، ثم بصق على الارض حبيبات صغيرة من التمباك وكح. سأل عن آمنة، عن الإمساك المزمن والذي تعاني منه منذ شهرين ؟! كان سيسأل عن آمنة أيضاً وعن خديها اللذين يصيران شديدي الاحمرار عندما تجوع أو تقابل –صدفة- أحد دائنيها. أو عندما تقرأ نتيجة المعاينة والتي دخلتها مؤخراً ولم تجد اسمها بين من تم اختيارهم للخدمة، والذين تتفوق عليهم أكاديمياً، كان سيسأل.. لولا أن صوتاً نسائياً أخذ يصيح في الخارج منادياً باسمه صوت سيدة يعرفه تماماً ويخافه، فبغير ما شعور منه صاح مرعوباً.
- هي.. هي.. هي..!!
قالها كما لو أن جندياً ينبه رفيقه على الا يطأ اللغم والذي علي بعد نصف خطوة من رجله. هذا الأسلوب هو الذي أرعب بابكر المسكين ومايكل أكول وشل تفكيرهما فوقفا علي رجليهما في لحظة واحدة هي اللحظة ذاتها التي ولجت فيها هي الحجرة. لم يبد عليها إنها قد فوجئت بوجود مايكل وبابكر معه بالحجرة ولكنها تفحصت مايكل أكول بعين نافذة.
كانت سيدة جميلة بغير مقياسه بمقياسك أنت صغيرة، تلبس في احتشام تام وعلي رأسها خمار ثم فوق الخمار يلتف ثوبها المتواضع بأنامل كفتيها، تلتف خواتم من الذهب عليها فواريز بألوان شتي كما أنه لم يكن بمقدور احتشامها اخفاء فتنة جسدية جامحة تخصها، كان صوتها رقيقا وناعماً الشيء الذي جعله يعيد النظر في حقيقة أن هذا الملاك المائل أمامه هو شيطان الأمس ذو القبضة الحديدية والعصي الكتر والذي كاد أن يقتله ضرباً..
صافحتنا واحداً، واحداً، واضعة أناملها الرقيقة في اكفنا العجفاء ولكنه استطاع استشعار قوة رهيبة تكمن وراء تلك الأنامل الناعمة كالزيت، قالت برقة متناهية كأنها تخاطب عصفوراً أثيريا، إنني آسفة لقد كنت متوترة بالأمس وقالت إنها إذا أثيرت: اذا استغضبت تتملكني روح شيطان ولا أستطيع أن أتمالك نفسي وبإمكاني تحطيم كل ما يقع عليه بصري حتى ولو كان من الحديد الصلب، واكدت - وبعينيها دميعات رقيقات صافيات كالبلور ود بابكر المسكين في غرارة شبق روحه لو أتيح له لحسها- ان الله وحده هو الذي نجاه من موت محقق ثم اجهشت بالبكاء وهي تجلس علي منضدة صغيرة من الفلنكة وهي الأثاث الوحيد بالحجرة بالإضافة إلى العنقريب العجوز القصير ذو الحبال المزيفة، ببكائها أحس ثلاثتهم بطمأنينة بالغة وهم يراقبون اسحاح الدميعات الصافيات كأنها قطرات ندى علي بتيلات غاردنيا.
أخذ هو الآخر يعتذر عما بدر منه من سلوك أدى إلى استغضابك أيتها الجميلة، هذه الردفاء التي لا احبها واكره سمسميتها، ووجهها السبتوي، وتحدث بابكر المسكين عن القيم والاخلاق السامية والتي لا تمس، وهو منتعظ المفعال، في ذات اللحظة متخيلا وجهها الصغير المدمع في عطش كوني لا رواء له.
فتململ مايكل أكول في مجلسه وهو يسمع كلمات الخوف تخرج من بين فكي بابكر المسكين المرتجفين وتحت عينيه الزائغتين، غير ان هذا لم يمنعه من الادلاء بدلوه متحدثا عن بنيات الزمن الشريرات مشيراً بوضوح خبيث للصبية الردفاء وبطريقة ميتافيزيقية كان يشير إليها هي في ذاتها.
بصق بابكر المسكين سفة الصعوط في الخارج قرب باب الحجرة ونهض خلفه مايكل اكول استئذنا الانصراف ولكن سيدة المنزل والتي اجلستهما قبل دقائق علي العنقريب قربه أصرت علي أن يحضرا الغداء معهما، وهو الآن معد وسأحضره حالا، فأبقيا، خوفا من استثارة غضبها ولأننا -نعلم- لن نجد غداء في أي مكان آخر في الدنيا: أيتها السيدة المعطاءة ملكة بطوننا يا ربة البيت ذات الادمع البلورية نحن نحبك ونخاف منك.


(6)
رقد ثلاثتهم علي العنقريب العجوز واخرج مايكل اكول من حقيبته مختارات من شعر هنري ميشو وعندما هم بقراءة قصيدة ريشه تحدث عن الشاعر مارول مارول ثم طلب من بابكر المسكين قراءة قصيدة The Foe بصوته الحلو ولكن بابكر تحدث عن انتحالات ادونيس أو ما اسماه سرقاته من الاصمعي والنفري، ثم أخذ ثلاثتهم يغنون لمريم ماكبا ثم تعاطوا التمباك مرة أخري سأل عن آمنة وعن الكشة والمعاينات للخدمة العامة في جملة واحدة، قال انه لا يرغب في شئ في هذه الدنيا غير أن يقبّل آمنة قبلة واحدة في شفتيها، ثم يقول لها باللغة الفرنسية أحبك! ولكنه لا يعرف اللغة الفرنسية وهو أيضاً لا يستطيع أن يقبّلها،
إذا ما جدوى أن نغني يا آمنة ما جدوى هذا الخريف، بينما هم يحكون عن آمنة وسارة وماريانا إذا بصوت سيدة يأتي من خارج الحجرة الطينية الغبشاء فهتف مذعورا.
- انها.. انها.. انها..
الردفاء بنت السمسمية.. انها دائماً تختار الزمن الخطأ..
قال مايكل اكول وكان بصوته رجفة خفيفة حاول اخفائها عن صاحبيه فخرج صوتا مخنوقاً بائساً مشحوناً بالجبن وأكثر ارتجافاً.
- ما العمل ؟
ولكنها لم تدع لنا وقتاً للتفكير بل اندفعت داخله الحجرة فوقف ثلاثتهم دفعة في استقبالها مصافحين اياها واحداً واحداً كانت اردافها الكبيرة، كبيرة، جلست علي المنضدة المصنوعة من الفلنكة، المنضدة الصغيرة والتي لم تسع ردفيها مما جعلهما يبرزان على جانبي المنضدة متدليين كقربتين كبيرتين مملوئتين بالزيت، أحس بابكر المسكين إحساسا مزدوجا في ذات نفسه، إحساسا عميقا بالامتلاء وأحس في ذات الان إحساسا عميقا بالجوع، كانت اردافها الكبيرة كبيرة، وهي تعتذر لائمة نفسها علي انها تسببت في ضربة فما كان عليها ان تزوره في مثل هذا المكان وهي تعلم ان صاحبة المنزل هي اشرس امرأة في الدنيا لأنّ بها روح شيطان تتلبسها عندما تغضب، وقالت انها قلقة لحاله ولم تنم ليلة البارحة ولم تهتم ابداً بمأساتها هي الشخصية حيث انها هربت عارية كما ولدتها امها جارية عبر الأزقة الضيقة المظلمة الي بيت أسرتها ولولا ان ستر الله لرآني والدي لولا انه كان بالجامع في صلاة العشاء.
وقالت: إنها تعرف ان صاحبة المنزل الان توجد بالسوق الكبير حيث لديها مكان للشواء مشهور ولا تعود إلا بعد المغرب وكان بإمكانه ان يسر بهذه المعلومة الدافئة وان يفرح بها ايضاً صديقاه الا ان علمهم بأن السيدة توجد الآن بالمنزل وانها ستأتي بعد قليل وستجد الردفاء و س.. ت.. غ.. ض.. ب!
قال لها هامساً، في الحق كانت تخنقه عبرة مرة وهو يقول للردفاء:
- انها بالمنزل الأن.. وكانت هنا قبل قليل وستعود الآن بالغداء!!
فنهضت الصبية الردفاء مذعورة وأرادت الانصراف في ذات اللحظة التي سمع فيها الجميع وقع أقدام سيدة المنزل، وهي تترنم بأغنية شائعة في سعادة بالغة ومتعة دافقة، كنا نبحلق في جنون نحو باب الحجرة نحو بعضنا البعض نحو الصبية الردفاء والتي لولا الخطر الحادق والرعب الذي نتوقع مواجهته بعد لحظات.. لضحكنا عليها.. لضحكنا حتي الموت ولكن لا بأس سيضحكون كثيرا اذا خرجوا من هذه المعركة سالمين وسيحكون لأمل وزوجها السمين والذي سيضحك الي ان تنفجر كرشه الكبيرة مصدرة دويا مرعباً، وسيحكون لآمنه وستضحك هي الأخرى إلى أن يحمر خدها وسيحكون لعبدالله ومحمد وتأبان وكوة تيه، فقط لو خرجوا أحياء من هذا المأزق سيستأنسون بذكراه وهم يعانقون الجوع والعطالة والهرب علي شاطئ النيل او عند ام بخوت بائعة الشاي.
كانت الصبية الردفاء تحاول الاختباء تحت العنقريب العجوز الصغير ولكن ردفيها.. فحاولت القفز عبر النافذة الصغيرة المواجهة للحائط الخلفي حيث يصبح بالإمكان الهرب بسلام، ولكن ردفيها.. وعندما عجزت عن أية فعل منقذ غطت وجهها بكفتيها وأغمضت عينيها بشدة وأخذت ترتجف كما لو أنها صعقت بتيار كهربائي منتظرة مصيرها المحتوم، وذلك المصير المشئوم والذي استطاعت الهرب منه ليلة البارحة بأعجوبة الأعاجيب، كانت الأغنية الجميلة توافي مسامعنا مرعبة كأنها عواء الذئاب وكلما اقتربت من باب الحجرة وأصبحت أكثر وضوحا كلما كانت أكثر رعبا، فصاحت بأن يأتي من يساعدها علي حمل الطعام،أين أنت ؟
ولكن لم يحرك أحد ساكنا لقد شل تفكيرهم جميعا فدخلت الحجرة ووضعت حملها علي المنضدة ودون ان تنتبه الي الردفاء قالت بصوتها نغمة ملائكية حلوة:
- فليذهب أحدكم لإحضار الماء البارد من..
فجأة توقفت عن الحديث وهي تبحلق في وجه الردفاء المغطي بكفيها، قالت بهدوء مشحون بالتوتر والشيطانية الباردة.
- أهلا..أهلا.. تفضلي.. أنت دائما هنا.. البيت بيتكم، أرقدي على العنقريب واخلعي ملابسك، لا تخافي مني، فأنا ذاهبة سأتركك مع الثلاثة، جميعهم، أيتها الداعرة الإبليسية بنت الشوارع، لماذا تنظرون إلى هكذا؟ لن أفعل لها شيئا، سأكون معها هادئة، اذهبوا انتم لاحضار الماء واتركونا، أنا وهي، وحدنا بهذه الحجرة، لن أهشم عظامها، لن أحطم رأسها ولن أمزق أردافها الكبيرة التي تشبه الإخراج، أخرجوا، وأنت.. أنت.. هل تحبها، أيها الفأر الأكول اذا اتركوه لي.. اخرجوا جميعاً.. حتى أنت أيتها السمينة.. اخرجوا.. اتركوه لي وحدي.. فأنا هادئة، وسأظل هادئة لم تنظروا، هل أنا مجنونة، أن صمتكم هذا يثير أعصابي.
ثم أخذت ترتجف بصورة مثيرة للشفقة حينما خرجنا وتركناه بالداخل أما الردفاء فمنذ أن سمحت لها صاحبة المنزل بالخروج انطلقت كالسهم وتلاشت في خبايا الأمكنة، بقي مايكل اكول وبابكر المسكين خارج الحجرة قرب الباب بعيدين عن ناظر صاحبة المنزل والتي يبدو انها في طريقها لكي تستغضب، أو انها استغضبت بالفعل، كأنا على أهبة لانقاذ صديقهما ولو بمناداة الجيران أو الشرطة.. كانا قلقين كفأرين علي كف قط: سيدتي الجميلة المرعبة، أي نسمة شيطانية ستعصف بنا؟ أي إعصار لذيذ؟!
ولكن بعد لحظات قلائل من وقوفهما خارج الحجرة سمعا نعم. سمعا صوتا نسائياً ناعماً رقيقا يبكي.. يبكي في بؤس مثير للشفقة.
فقال مايكل اكول لبابكر المسكين والذي جحظت عيناه دهشة وانفعالا وأسئلة عصية..
- اذا فلنعد لداخل الحجرة، فلنلتهم الغداء قبل أن يبرد.. فأنا لا أحب الطعام البارد..! فرد بابكر المسكين وبين فكيه ابتسامة خبيثة.
- حسنا، وأنا كذلك!! فأنت تعرف عني ذلك جيّداً..!