2009/01/27

حذاء ساخن


عندما انتصف النهار في ساعة الملازم حديث التخرج، المستبد، كانت الشاحنة المجروس عند التقاطع الرئيسي، وعلي السائق أن يتجه شرقا ويسلك الطريق الترابية المؤدية الي الموقع العسكري الحدودي، الذي يبعد مائة ميلا عن مدينة كسلا، لا عربة غير هذا المجروس العجوز علي الطريق، لن تكون هناك عربة أخري، فالمنطقة معلنة كمنطقة عمليات حربية، حولها تنتشر أودية من الألغام البشرية، أما القري المحيطة بها فهي خالية تماما من السكان، تسكنها الوطاويط، الحيات، الكلاب، القطط المتوحشة والذئاب، حولها الجنود نصف أموات، نصف أحياء نصف بشر، يعتصمون بجثث آلاتهم الثقيلة، مدافع الهاون، الراجمات وما لا يدري أحد من المميتات.
الشاحنة المجروس تنهق علي الشارع الترابي الوعر وهي تقفز علي الخيران التي تظهر فجأة أمام السائق، كأنما يدفع بها شيطان ماكر علي الطريق، مختلطة سحابة الأغبرة الكثيفة بحر الشمس الصيفية المُذاب في الهواء، كان الملازم حديث التخرج المستبد، يركب يمين السائق، لئيماً متكبراً، يري بينه وبين نفسه، بين فينة وأخري، أن الله ماخلق هذا الكون إلا ليصبح مسرحا لعنجهيته. في الحق كان لا يري في الكون غير فرقته العسكرية ومعسكره الحدودي، اذا اتسعت مخيلته فالعالم هو السودان، أما بقية الدول فهي دول خائنة وعدوه وحتما سيعينه الله علي فتحها، أنا حرسه الخاص، استغل صندوق العربة الضخم المفتوح علي السماء مباشرة، لا تحجبه عن الشمس غير الشمس ذاتها. كنت أشوي ببطء فلست أكثر من مجند يؤدي الخدمة العسكرية الالزامية كرها، وقد الحقت بها بينما كنت في سفر الي الخرطوم، بحثا عن وظيفة ما أسد بها رمق أفواه تخصني، صادفت احدي الكشات، ولو ان كثيراً مما معي من المكشوشين، هربوا، الا انني استسلمت للأمر الواقع: فلأي واقع بديل أهرب!!
الشمس تشويني، أنا مغطى بغبار أحمر ناعم ملعون، احمل علي كتفي بندقية ج3 ثقيلة، محاولا بقدر الامكان، أن أكون في وضع الاستعداد، وان أكون منتبها، متفحصاً الخلاء حولنا، الصحراء قاحلة، ليست بها شجرة واحدة أو حيوان، دعك من انسان، تبدو الحجارة الصغيرة عليها من بعيد في أحجام الجنادل، هذه الميزة مكنتني – وأيضاً السائق والملازم حديث التخرج المستبد- أن نميز وجود رجل علي بعد أميال كثيرة، ملابسه البيضاء تجعله كبقعة كبيرة من الضوء بعيدة، بعيدة تصغر كلما قربنا منها، ثم تبيناه: رجل شيخ يحمل ابريقاً وجراباً صغيراً وعصا يتوكأ عليها، ولأن الضابط حديث التخرج المتغطرس لديه وهم أن كل من وجد وحيداً علي مسافة من منطقة عسكرية، هو جاسوس، أوقف الشاحنة المجروس الضخمة:
- أنزل يا حرس، وكن في وضع الإستعداد، لأنني سأستجوب هذا الجاسوس، فاذا بدرت منه أية بادرة عدوان أطلق الرصاص في الرأس أو القلب.
وكنت صائداً ماهراً: قنّاص.. لهذا السبب اخترت كحرس لهذا الملازم حديث التخرج المتغطرس،
- حاضر سعاتو.
وكلمة سعاتو هذه تعمل في نفس الملازم حديث التخرج فعل السحر: فابتسم
قال العجوز القويّ والذي يحمل ابريقاً ومخلاة من جلد الماعز صغيرة علي ظهره، يرتدي سروالا وقميصاً نظيفين، يمشي حافياً، وجهه نظيف، ولو انه معروق ويبدو عليه الإرهاق.
- تشيلوني معاكم لقرية سماورا ؟
القرية علي بعد عشرين ميلا من حيث وجدناه. تأكد الملازم حديث التخريج أن هذا الشيخ لم يزرع الغاماً، الا أنه أفتاه قائلا:
- دي عربية جيش ولا نِشْيل شخصاً مدنياً وأحمد الله علي اننا لم نقتلك، تأكد لنا انك لست سوي سابل جائع منبوذ لامعرفة لك بزراعة الألغام وأمور الحرب، مجرد ملكي ساكت،
كالعادة آخر من ركب هو أنا، تحركت الشاحنة المجروس تاركة الرجل للشمس: جحيم فوقه، جحيم تحته، وسرنا لمسافة مائة متراً فقط. توقفت العربة وعندها قفزت علي الأرض في وضع الحماية وسألت:
- توقفت العربة من تلقاء نفسها ؟
أجاب السائق.
وقدر ما حاول السائق أشعال المحرك إلا أن محاولاته كلها فشلت، فنطّاس الوقود ملآن، البطارية مشحونة، الأسلاك جيدة التوصيل ناقلات الوقود والحركة فاعلة، لا شئ.. لا شئ علي الاطلاق، وبينما السائق يحاول مرة أخري اشعال المحرك اذا بالرجل الشيخ قريبا منا قائلا:
- تشيلوني معاكم ؟
- أبعد من هنا، والا أمرت العسكري يديك طلقة في صلعتك دي.
ذهب الرجل دون أن يقول شيئا وتحركت العربة لمسافة مائة متراً أخرى ثم توقفت من تلقاء نفسها وبينما يحاول السائق اشعال المحرك اذا بالشيخ:
- تشيلوني معاكم ؟
فانتهره الملازم حديث التخرج المتغطرس الذي يظن أنه ماخلق الله العالم الا ليكون مسرحا لخيلائه.
- أمش يا زوّل!!
ثم خاطبني الملازم حديث التخرج المتغطرس قائلاً:
- اذا اقترب هذا الرجل منا مرة أخرى أطلق عليه النار.
فاقترحت علي الملازم حديث التخرج المتغطرس اقتراحا دعمه السائق قائلا:
- ليه ما نشيلو معانا ما ح يكلفنا حاجة.
- أنا المسؤول وأنا اليشاء! انتو شنو غير عساكر حاجات لتنفيذ الاوامر.
لا أدري كيف أحسست بأن الشخص هو الذي بقوة خفية كان يوقف العربة ثم يطلقها، وان له كلمة قوية علي الأشياء وانه يستطيع، وانه يفعل وانه يريد، لكن كيف أجعل الملازم حديث التخرج المستبد يفهم، ولو أن السائق قد فهم ويبدو ذلك من تقعر عينيه، كلما توقفت العربة، سمعت كثيراً عن الأولياء والصالحين، قرأت طبقات ودضيف الله، لكن كان ذلك لمجرد قراءة كتاب مهم لرجل جامعي مثلي، يجب أن يعرف الكثير عن السلطنة الزرقاء وبنيتها الروحية، كنت أفكر: لن اؤمن بهذه الخرافات الا اذا رأيت معجزة ما بعيني.
ثم تطوّرت الفكرة في ذهني، لماذا لم أتمكن من معرفة حقيقة هذا الرجل، لماذا لم أقنع الملازم حديث التخرج المتغطرس، انها فرصة وضاعت، انه طريقي لكي اعتزل حياة المادة بكل ضغوطها ومآسيها وأعيش نقياً شفافاً زاهداً، متجولا في الأرض أنشر المعجزات هنا وهناك، أنه يقودني الي النقاء الانساني الروحي، الذي هو حلم كل شخص، ان امتلك المقدرة علي التواجد اينما شئت! أصبح صاحب سلطة علي كل شئ حتى علي الآلة، ولكن في العودة قد نجده علي الطريق، عندها لن أبرحه، الا بعد أن أعرف كل كبيرة وصغيرة، بعد أن أفض أسراره، ولو كلفني ذلك العمر كله، بينما أنا في هذا اذا بنا نصل قرية سماورا، ذلك بعد مسيرة ساعة كاملة بالشاحنة المجروس، عبر الطريق الترابية الوعرة، قرية سماورا كغيرها من القري الحدودية، خالية من السكان مسكونة بالذئاب والنسور والصْبرَات، كثير من الكلاب والقطط التي توحشت، هناك شخص واحد فقط يجلس تحت شجرة، علي جانب الطريق، عندما توقفت العربة قربه، وجدناه هو ذاته الشيخ ذو الإبريق صاحب مخلاة الجلد، الحافي، ذو الوجه النظيف العرق، عندما شاهده الملازم حديث التخرج المتغطرس جحظت عيناه، جف ريقه، حاول أن يهبط اليه، ربما ليقبله في رجليه، ليرجوه أن يسامحه، دمعت عيناه، لكن فجأة أمسك به السائق في كتفه، همس في أذنه، فتصبب الملازم حديث التخرج المتغطرس عرقا غزيرا، أدار السائق المحرك بسرعة رهيبة، كنت أرقب كل شئ بحذر ولكني لم أحاول أن أفسر ما حدث ولم تكن لديّ الرغبة في ذلك وانطلق المجروس، الشاحنة العسكرية العملاقة، مخلفة وراءها غابة من الغبار وأخذ الغبار يهبط علي رأسي وأنا جالس علي الأرض متخفياً خلف قطية صغيرة حتى لا يراني السائق أو الملازم حديث التخرج المتغطرس بالمرآة، وعندما تأكدت تماماً من أنه ليس بالامكان رؤيتي خرجت من خلف القطية وذهبت نحو الشجرة التي كان الشيخ يجلس تحتها. ولم أجد أية أثر يدل عليه. نعم كانت هناك بقايا ماء علي الأرض حيث يبدو أنه توضأ ولكن هي لحظات فقط، ليست أكثر من دقيقة واحدة، بل ما يزال جعير المجروس مسموعاً وغباره يغرق المكان. وأخذت أصرخ وأنادي بأعلى صوت:
- أيها الشيخ.. أيها الشيخ.. أيها الشيخ..
ولكن ليس من مجيب، أخذت أبحث عنه داخل المنازل المهجورة فلم أجد سوى الكلاب والتي ذعرت برؤيتي، حيث انها لم ترِ انساناً حياً منذ سنوت مضت، كانت الكلاب المتوحشة تنبح خلفي وتحاول عضي واعاقتي، كانت القطط تخرج هاربة من القطاطي المهجورة فزعة، خرج ضَبْعٌ كبير من احدي الحجرات المهجورة وهرب، فهربت خلفه الكلاب حيث تركتني بحثاً عن فريسة سوف تصبح أكثر اشباعاً، كانت القرية خلاء، في الحق أصبت بهلع شديد وأنا رجل أعزل حيث تركت البندقية علي صندوق العربة حتى لا يجدون في البحث عني من أجل البندقية هكذا تعلمنا: البندقية أهم من الجندي.. أترك بندقيتنا عندنا وأذهب الي الحجيم وحدك.
كانت الساعة تشير الي الثالثة مساء وأنا ما أزال أنادي وأبحث عن الشيخ طالباً منه بصراخ حاد أن يأتي الي لأنني أؤمن به وأريد أن أصبح له تلميذاً وخادماً وحواراً.. انني سوف انفق ما تبقي لي من عمر في خدمته: لقد وجدت الآن طريق الله ولن اتخلى عنها ابداً.. جلست تحت الشجرة ذاتها حيث كان يجلس، كنت تعباً مرهقاً وخائفاً أيضاً، الشمس الآن تذهب نحو المغيب وبالقرية لا شئ سوي الكلاب المتوحشة والذئاب وربما الاشباح أيضا. نعم أنا شخص مادي ولا أومن بهذه الأشباح ولكن الآن أمنت.. هناك أمور أعرفها بالباراسيكلوجي والميتافيزك، نعم، هل لبنية عقلي المادية الصرفة أن تؤمن بأن هناك نفر من بيننا يمكنهم فعل أشياء خارقة للطبيعة؟.. أناس يتواجدون حيثما شاءوا وكيفما أرادوا؟ أناس لديهم سلطان علي العلم نفسه، العلم الصرف، يمنعون متحركاً من الدوران؟ يمنعون بندقية من أن تطلق النار؟ يختصرون الأميال في خطوة، الآن لا شئ فوق مقدرة هذا الانسان! أعرف أنه لا عربة سوف تأتي بهذا الطريق، وأنني لا محالة مأكول، أما أن تتعشي بي الكلاب أو الذئاب وربما القطط المتوحشة والتي رأيتها بأم عيني تأكل بعضها. قرب الشجرة قطية قديمة، درت حولها لها باب قديم من الزنك، قمت بدفع الباب ببطء، داخل الحجرة عنقريب كبير يملأ معظم المكان، به هيكلان عظميان لطفلين، أغلقت الباب بسرعة وهربت، جريب بأسرع ما أستطيع علي الشارع الترابي الوعر، كنت لا أعرف الي أين أنا ذاهب المهم كنت أحس بالطمأنينة كلما ابتعدت عن هذا المكان المرعب، والشمس تذهب بعيداً نحو الغروب: يا أيها الشيخ.. أين أنت..
كان فمه يرتجف وعيناه تزدادان اتساعاً كلما بعدت الشمس عنه ولا أحد، كانت القرية تمضي بعيداً عني، بعيداً.. بعيداً.. الي أن اختفت اخيراً، توقفت، قرأت المكان من حولي، الشمس كانت خلف ظهري، اذاً أسير شرقاً، فاذا واصلت السير ولم يعقني عائق ولم يتفجر تحت رجلي لغم فانني سأدخل الحدود الارترية بعد مسيرة عشر ساعات، ولكن لماذا لم انتبه بأن هنالك الغام مزروعة بين هنا وهناك ولا أحد يعرف كيف يتجنبها، الآن أحسست بالرعب الحقيقي لأنني اذا خرجت حياً من هذا الحقل سأعتبر نفسي ولياً و رجلاً صالحاً يأتي معجزات ذلك الشيخ الغريب، وهنا أخذ العرق يتصبب علي وجهي وبين فخذي وتحت ابطي، وأخذت أمشي كالحرباء واضعاً رجلاً على الأرض في خفة وبعد تردد اسحبها، انه سوء تصرف من جانبي، جعلني أترك الشاحنة المجروس تمضي بدوني؟ لماذا لم اتريث، نعم، اذا تركت هذا جانباً، لماذا عندما هربت من الهيكلين العظميين لم أتخذ طريق المجروس، وهي الطريقة الوحيدة الخالية من الألغام والغريب في الأمر أنني كنت حرساً للمهندسين العسكريين الذين قاموا بزراعة الألغام حول هذه القرية ألف لغمٍ شخصيٍّ مغطاة بالبلاستيك حتى لا تتمكن أجهزة العدو النازعة للألغام اصطيادها، ولكن لا ذنب لي، فكنت مجرد منفذ للأوامر وأنا في داخلي وصميمي ضد هذه الحرب وقتل الانسان لانه لا خصومة لي مع أحد ولا معرفة لي بالذي أحاربه.. فكيف أقتله؟
كان يمشي كالحرباء تماماً كالحرباء.. "الشمس تجري لمستقر لها" وحيد خائف ومتردد، قد ينقذه فجأة في الوقت المناسب، نعم، هكذا في القصص والأحاجي وكتاب الطبقات، فان الأولياء يتدخلون لانقاذ مريديهم في اللحظات الحاسمة، وأنا أثق في هذا الرجل، إنه رجل صالح. إنه رجل صالح. ان لم يكن نبي الله الخضر ذاته!! والذي يتجول في العالم منذ بدء الخليقة الي أن يرث الأرض وما عليها ناشراً الحكمة والمعرفة بين الناس.. من أدرك!!
ليته عرف من جدته عنه الكثير.. لكن وعلى حقيقة القرية المهجورة والقطاطي المسكونة بالهياكل العظمية والقطط التي تأكل بعضها، فكر في الشيخ نفسه، قد يكون شبحاً من الأشباح من أدراك؟!
ما كان يؤمن بالبعاتي واعتبره ظاهرة ورثها المجتمع السوداني أو المخيلة السودانية من النوبة أجدادهم قبل ستمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث كانوا يؤمنون بان لكل انسان في هذا العالم كا و با وهذا الباء هو صنو الانسان وعندما يموت الأخير يكون الصلة بينه وبين الآخرين في الحياة الدنيا وانه نسخة عنه.. والآن أنت محاصر، الموت تحت أقدامك، ألغام الموت حولك، ذئاب وكلاب وقطط متوحشة، الموت من حيث لا تدري أشباح، ورغم كل هذا كنت متفائلا بأنني لن أموت، قد تعود الشاحنة المجروس للبحث عني اذا افتقدني أحدهم، ولكن يا ترى بماذا همس السائق في أذن الملازم! لا.. لا.. انه رجل طيب وصالح، أنا أثق به انه ليس بكا ولا با رجل صالح وسينقذني!!.. بل سيتخذني حوارا له،
أيها الشيخ.. أيها الشيخ!!
وكمن يؤذن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ واجد نفسي في أمان الله وحفظه علي سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!!
الحياة مدرسة ولكن لا يدخلها الا الحمقي، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرت في هذا الحين بالذات أدجار ألان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت.. ماذا.. جيفا في ديو مور جبو.. كنت أمشي واذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، أعجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، انه لامجال لذلك لانه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان، وبمجرد ان خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جارياً: يجب علي ان لا أؤكل سهلاً يجب ألا استسلم للموت، ومرت بذهنه معارك خاضها: جثث تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود هكذا مات أصدقاؤه أيضا، مات جنود كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتي أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأ لها.. ولكن لن يموت هكذا رخيصاً وبارداً. وهكذا الرجل التقي العنيد لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء.. لا شفقة!! ليتني ؟! ولكن هل تنفع ليت!!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط. والأسوأ احساسه بأنه خدع، والاحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره "لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا" ولانه كفر به عرفه أكثر وأوضح عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الايمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشر ليلاً بالضبط هكذا كانت تشير ساعته سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!!
وعندما ثبت قدمه علي الأرض أحس بشئ يرفعها، لم يسمع دوياً كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس علي أثره علي الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحرس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كاف من الراحة، لم يسمع دوياً ولكنه رأى ضوءا قوياً كثيفاً يعم المكان كله.. ثم لم يعد يشعر بشئ سوى ظلام قاتم.
يناير 2000م