2015/09/14

رواية الرجل الخراب الجزء 16 والاخير

كتب درويش كل ذلك بخط يده وربما كانت تلك الرسالة قد تمثل طوق نجاة في وقت ما إذا  لم يصدق القاضي أن درويش قد انتحر، واكتفى بشاهدتنا الثلاثة وتقرير الطبيب الشرعي الذي يميل إلى        حادثة الانتحار أكثر  من ميله لعملية قتل مدبرة أو غير مدبرة، وأنه انتحر بعد محاولته قتل توني. وتطابق ذلك مع رسالة درويش. في الحقيقة لم أقتله أنا علي أية    حال متآمرة مترصدة، بل لم أقتله في الأصل. ليس لدي سبب وجيه لذلك، فكونه مُزعجا ومُربكا ومُرتبكا ومتناقضاً لا يُعالج ذلك بالقتل، ولكن بالانتحار لأن تلك شخصية لإنسان محطم من الداخل هذا إذا  جاز لي أن أطلق عليه صفة إنسان. أظن     أن درويش قد خطط أيضا   للطريقة التي ينوى أن يموت بها ليس إلا. ولم أكن سوى آلة لتنفذ وصيته غير المُدركة الساكت عنها. سأحكي باختصار ما حدث:

بعد حواره السيئ مع توني خرج من البيت. وكان قد خاطب توني بلغة لا يمكن أن تصدر عن أبٍ. ولكي تتضح الأمور سأحكي بعض الحوار كما ذكره تُوني. بالتأكيد هذا لم يحكه الراوي ولا الكاتب المتُحشر للقراء. وذكرا شيئاً مختلفا كثيرا عما حدث بالفعل، أو أطلقا العنان لخيال مرح مثالي.

قال لتوني عندما اختلي به في غرفة المعيشة وصرفنا أنا وميمي إلى        غرفتي: اسمع أيها الوقح، أقول لك، إذا  تأكد لي أنك تمارس الجنس مع بنتي، أنا سأنكحك أنت أيضاً!

فقال له توني مُندهشا: ولكنني لست مثلياً. أنا لا أميل لممارسة الجنس مع الرجال!

قال لتوني: أنا أيضا لا أميل لذلك، ولكنني لا أتردد في أن أكون مثليا في حالتك، لذا من الأحسن أن تترك سبيل ابنتي، وإلا سأنكحك كما تُنْكَح المرأةُ!

حسناً، حكي لنا توني ذلك وغيره كثير. وتداولنا الأمر في البيت. وقلنا إنها  طبيعته وإنه سكران بعض الشيء. لأنه حكي لتوني قصة غريبة أظنها مغلوطة ومختلقة بصورة كاملة، مما أثار رُعب تُوني أكثر، لقد سأل توني:

- هل تعرف شخصاً نمساوياً سجنه الإمام المهدي في السودان اسمه سلاطين باشا؟

فقال له توني:

- أنا لا أعرف الإمام المهدي ولا أعرف سلاطين باشا، ولكني متأكد أن اسم سلاطين باشا ليس اسما نمساوياً، قد يكون تُركيا أو مصرياً، أو ألبانياً، ولكن ماذا عنه؟

قال له:

- لا يهم، دلالة اسمه، فاسمه الحقيقي رودلف سلاطين، ولكن هذا الرجل أراد أن يخدع الخليفة التعايشي وهو الحاكم السوداني المسلم في ذلك الوقت وأعلن أنه  دخل الإسلام، لكي ينجو من الموت ويتعايش مع الدراويش، فما كان من الخليفة إلا وختنه بنفسه وبيديه الطاهرتين، أتدري كيف ختنه؟

- لا، كيف ختنه؟

أحضر الخليفةُ فأساً من ذلك النُوع الذي يستخدمه الدراويش الشرسون، لتسوية أخشاب السُنط الصلبة من أجل صُنع المراكب النهرية والبيارق الحربية يُسمى مَحليا "القَدُومْ" لأنه يشبه فك الذئب. وأمسك به درويشان من أمراء المهدية مشهود لهما بقوة الإيمان وقوة البدن، وهما الأمير محمود ود أحمد، والأمير يُونس الدكيم، والأخير هو الذي رشحه الخليفة عبد الله التعايشي للزواج من الملكة فكتوريا، ملكة بريطانيا العُظمى، بعد أن يقوم جيش الخلافة الإسلامية بفتح بلادها بإذن الله وعزيمة الأنصار، وكان رجلاً قوياً عنيفاً وهو قائدٌ لجيوش الفتح. وبضربة واحدة حاسمة سريعة وخاطفة. قطع الفأسُ الجلد الزائد في ذَكَرِ سلاطين باشا وتقريباً استأصل أيضا رُبع الحشفة وهي مقدمة العضو الذكوري في الرجل.

 ولكي لا يموت سلاطين باشا من جراء النزيف، تم صب السمن الساخن علي الجُرح. نعم كان الأمر مؤلماً، وكان صُراخ سلاطين باشا المؤمن المسكين جديد العهد بالإسلام، يُسمع تقريباً في كل أنحاء المَدِينةِ الطِينيةِ المُقدسةِ الصَغيرةِ الراقدة علي جنب النيل الغربي: أُمدرمان. ولكن دُخول الإسلام ليس لعباً يا ابني توني: مقابل ذلك الجنة في يوم القيامة. 

الذي يؤكد أن هذه القصة مختلقة تماماً وغير صحيحة وأنها من بنات أفكار درويش، هو أن سَلاطين بَاشا كان مختوناً منذ صغره من قبل أسرته، فهو من أسرة يهودية هنغارية شهيرة، ومعروف أن اليهود يختنون أطفالهم وفقا لشريعة التوراة بذات طرائق ختان أطفال المسلمين الذكور. ولكن لا يعرف توني هذه الحقيقة، توني الذي عَرفتُ مُؤخراً أنه  من أسرة ذات أصول يهودية. وضحكنا علي الرغم من أن الأمر ليس مضحكاً ونعرف أنه  يعني تماما ما يقول. وأنه لا  ينوي أن يرهب توني فحسب بل إنه  يهدده بجدية. وكلمة أنكحك التي قالها لتوني كانت تعني ببساطة أقتلك. وقصة بتر بعض الحشفة، والختان بفأس النجار، وشواء الجُرح لم تكن رموزا مجانية لإدخال الرُعب في نفس توني فحسب، ولكن توني لا يفهم ما وراء كلمات درويش وحكاياته المختلقة: لأنه لا يعرف درويش عن قُربْ.

 فجأة عاد من الخارج، بقي في غرفته حوالي رُبع ساعةٍ من الزمان، ثم خرج إلينا بفكرة أن نتمشى. كان فَرحاً ومنتشيا، مختلفاً تماما عما كان عليه منذ أن التقي بتوني وما قبل ذلك أيضاً. واقتنعنا بفكرته جميعاً، ولو أن توني كان له رأي مُخالف ولكن ميمي أقنعته، فركبنا السيارة إلى     سفح الجبل ثم بدأنا نتمشي. عبر ممرات المُشاة لأعلي. ونحن معتادون علي ذلك، فدرويشُ، ومنذ أن كانت ميمي صغيرة جدا كان يتمشى معها في هذه المرتفعات الجميلة الآمنة وأحيانا بالعجلة التي يحب ركوبها. حيث لا تُوجد وحوش ولا أي من الهوام التي تمثل خطورة علي الحياة. في بعض الأحيان هنالك بعض الغزلان البرية الصغيرة والثعابين غير السامة. والضفادع والسحليات ذات الألوان الزاهية. درويش يحب أن يزور قبر والدتي أو في الحقيقة رمادها الذي شتته في المكان ودفن البقية في عُلبة من الزجاج تحت الصخرة التي سقطت منها وكانت سبب موتها بعد سنوات عديدات. وضع درويش شكلا لملاك منحوت من الحجارة الجرانيت عليه. وذلك وفاء وحبا لها. وفيما أظن     أن درويش لم يحب ولم يكن وفيا لإنسان علي وجه الأرض غير أمي وكان يطيعها طاعة عمياء: حية وميتة. الشيء الوحيد الذي لم يفعله لأجلها هو عدم الاحتفاظ بالكلبين، فلقد تخلص منهما مباشرة بعد موتها، باستيداعهما مؤسسة رعاية الحيوانات الأليفة التي لا راعي لها. وكانت لديه فكرة غير حسنة عن الكلاب مفادها: "إن البيت الذي به كلبٌ لا تدخله الملائكة".ولكن في الواقع أن البيت الذي به درويش لا تدخله غير الشياطين والأبالسة وآلهةِ الشرور كُلها. والأغرب أن تلك الكلاب التي خانها هي سبب كل النعيم الذي هو فيه الآن، فقد كان يعمل مُخَرِّيَاً لها.

 كلما تقدمنا في الصعود، يصبح الجوُ أكثر برودة. والهواء يثقل. وكنا متوقعين ذلك حسب النشرة الجوية، حتى المطر لم يفاجئنا. شرعنا مظلاتنا ولم نتوقف عن المشي. يتقدمنا درويشٌ وقريبةٌ منه أنا، ثم توني وميمي. كانا في المؤخرة. الأرض لثِقةٌ. والعُشبُ مخضلٌ. ولكن المشي مأمون. فعبرنا كنيسة الكاهن المنحوتة علي الصخور الجيرية، نحو الأعلى، لم نلاحظ وجود عدد كبير من الزوار. إلى     أن  انتهينا إلى     قبر أمي، كانت السحب قد أفسحت الجو لشمس دافئة. مكثنا هنالك نرتب بعض الأزهار حوله، وكان درويش أخذ   في تنظيف التمثال الحجري، بينما توني وميمي كانا يجمعان بعض زهور الليّلَك البرية ليضعاها حول التمثال. كنا صامتين، ما عدا درويش الذي أخذ   ينشد بصوت هادئ ولكنني كنت أحسه مُرعبا، تلك القصيدة التي لا أحبها:

April is the cruellest month, breeding 
Lilacs out of the dead land, mixing 
Memory and desire, stirring 
Dull roots with spring rain 
Winter Kept us warm, covering 
Earth in forgetful snow

تخرج الكلمات من فمه كالنيران من منخري تنين رهيب. وكنت أحس     بشيء يغلي في أعماقه، أو مرجل يفور. ما كان ينظر إلى     أى   منا  في عينيه. إنما احتفظ بمقلتيه منكفئتين علي وجهه. بينما انهمك في تنظيف التمثال وتلميعه وهو يردد افتتاحية قصيدة الأرض الخراب. بذات الايقاع كلما خلص بدأ من جديد. علي الرغم من أنه  يحفظ مقاطع أخرى كثيرة جدا من القصيدة. بل يكاد أن يحفظها كلها علي ظهر قلب كما تُحفظ المُعَلقات العربية.

شربنا بعض العصائر الطازجة. ثم بدأنا مُشوار العودة. واقترح علينا ألا نعود بذات السبيل التي أتينا بها. ونحن دائما ما نفعل ذلك. أن نتخذ طريق الجرف، فسرنا جميعا هابطين من الجبل إلى        السفح.

وفجأة حدث كل شيء بسرعة رهيبة وبدون توقع. بينما كنا نمر بجرف عال في الطريق الضيقة الصخرية علي حافة الجبل: توقف درويش. انتظر قليلاً إلى     أن مَرَّ توني قريبا منه.  قبض توني من يديه الاثنين. ودفعه بكل ما لديه من قوة نحو الهاوية. ومع رطوبة الأرض لم يستطع توني استعاد توازنه. ولكنه تمكن من التشبث بشجرة كانت تبعد أمتارا قليلة من حيث سقوطه، أو أن الشجرة هي التي نجدته وتشبثت فروعها به. ولا أدري كيف قمتُ بالخطوة التالية. حيث إنني  دفعتُه- ذلك مؤكداً- بكل قواي إلى     الهاوية التي كان يقف علي حافتها يحملق في توني وهو عالق في غصن كبير في الهاوية، تماما في موقع من ينوى القفز من تلقاء نفسه وهو على أهبة. فانحدر نحو الأسفل بدون أية    مقاومة وكأنه جثة هامدة لا روح فيها، تسقط في الهاوية سقوطا حُرًا. وعندما ارتطم بالأرض، أصدر دوياً مُرعباً، اختلط مع صفارة مركز إطفاء الحرائق، وهي تعلن منتصف النهار. أظنني أنا التي دفعته نحو الهاوية، وقد يكون هو الذي سقط من تلقاء نفسه، أو هو الذي طلب مني أن أدفعه، ولو عن طريق تعابير جسده، لغة دمه الذي يتشهى العدم. لقد قرأت مرة أن الدمَ يصرخُ مُنادياً سَافِكَهْ. إذا  كنت أنا التي دفعته فلست التي قتلته. فالفعلان مختلفان. هنا أتحدثُ عن الإرادة والرغبة في الموت. إذا صبرتُ قليلاً لألقى علينا تحيةَ الوداعِ ومضي لحتفه، هل تعجلتُ؟ علي كل أنا: لستُ متأكدة من شيء، يبدو أنني مرتبكة قليلاً.

                                                  

                                                   عبد العزيز بركة ساكن

                                                   سالفلدن 22-6-2014

ليست هناك تعليقات: