2015/09/15

رواية الرجل الخراب 12

                        حوار من أجل البنت

ربما لم يخطر بباله  ولو في أحلامه وكوابيسه الكثيرة المزعجة. أو خواطره المريضة المشوهة نتيجة للتناقضات الكبيرة التي يعيشها في حياته اليومية منذ أن وطئت قدماه أرض المهجر. ولم يفكر أيضا   في وعيه مرة بأن     يحدث له ذلك. ولا يدري لماذا دائما يُواجه هو بالذات بتلك الأسئلة الصعبة جدا ويُوضع في المواقف المُعقدة. دخل مشهد الرعب مباشرة بعد نداء ابنته صائحة من غرفة المعيشة:

- أبي أبي تعال سريعا.

نهض مهرولا. بل انطلق مثل السهم. ماذا فعل الرجل بابنته. فوجدها ترتجف. قربها يقف توني ممسكا بيدها وفي فمه ابتسامة مربكة عريضة بلهاء.

قالت لوالدها مباشرة. ولم تهتم بوجود والدتها كثيرا، ولو أن والدتها تكاد أن تكون ملتصقة بها.

- توني أسلم يا أبي!.

كاد الأب أن يسقط من الدهشة، ربما ليس هذا سوي بعض من كوابيس  تلك الكاسات الصافيات من عرق شجرة الهولولندا الذي احتساه. ربما ذلك مواصلة لحلم اليقظة الذي يجد نفسه فيه كلما حلت به مشكلة واستعصى عليه حلها.

- نعم؟

قالت وهي تمسك توني من يده بحنية بالغة:

- توني أسلم يا بوي.

قال وهو يجلس علي أقرب كرسي، بينما يمسك بيد نورا لكي تساعده في الجلوس، قال لها من بين أسنانه.

- يعني أسلم كيف، ما فاههم.

قالت وقد عيل صبرها:

- يعني دخل الإسلام، أصبح مؤمنا بالله ورسوله.

صمت قليلاً. وأخذ يفكر بعمق. في الحقيقة ما كان يدري ما هو شعوره. ماذا عليه أن يرد. هل يفرح أم يحزن لا يدري. هل كان الموضوع مجرد أحلام وتهيؤات لا يدري. نظر لتوني. الذي كان ينتظر منه كلمة ما وفي فمه ابتسامة كبيرة تتسع كلما توقع رد فعل درويش المبارك  ولكن درويش سأله:

- لماذا أسلمت يا بني. ماذا تعرف عن الإسلام. أين قرأته؟

قال وهو ينظر إلى ميمي، وكأنه يريدها أن تنفذه من أسئلة والدها.

- واحد من الأسباب لأن ميمي مسلمة. وأريد أن أكون مثلها. فلقد شاهدنا بعض الفيديوهات واليوتيوبات والأمر أعجبني: هل هنالك مشكلة؟

- لا ............ لا توجد مشكلة.

كانت تعتوره أحاسيس متناقضة. من جانب كان فرحا بفكرة أن يسلم توني. في الحقيقة ليس لأن الإسلام كسب شخصا ما أو أن شخصا ما قد اهتدي إلى        سبل الخير والصلاح وأصبح مؤمنا بالله ورسوله وسيكون أسرة مسلمة. ولكنه كان أكثر  سعادة لأنه هو الذي سيوضح له ما هو الإسلام بالطريقة التي يعرفها. ولا ينسي بعد الشهادتين أن يخبره بأن  عليه ألا يختلي بابنته مرة أخرى  إما أن يتزوجا مباشرة أو أن يصبر عليها إلى  أن يحدث ذلك لأن الخلوة حرام في الدين الإسلامي مثلها مثل شُرب الخمر. أى  واحدة من الكبائر. نعم سيشرح له الكبائر في الإسلام والزنا واحد منها. وعليه أن يتزوج البنت أولاً ليكون أسرة مسلمة. أما بقية الأشياء فهي سهلة. والشيء الآخر: نعم لقد اسلم الرجل الآن ولكن ماذا ينوي أن يفعل بإسلامه. فعلا ماذا ينوي أن يفعل به؟  وأيضا لم ترحه فكرة أنه  أسلم لأن ابنته مسلمة. وهو يعرف أن ابنته لا تعرف إلا القليل عن الإسلام. وسلوكها كله أقرب   لسلوك أية  سيدة نمساوية بغض النظر عن دينها فهي تربية المجتمع الذي وُلدت فيه ودرست في رياضه ومدارسه والأهم أنها  تخرجت في مدرسة أمها نورا، وحتى والدها بعد تدجينه بواسطة القانون. ما عاد ذلك الشخص الآتي من مكان آخر. لم يتبق منه في الظاهر سُوى لون بشرته السوداء وشعره الخشن. ولم تظهر شخصيته الإسلامية العربية، الأخرى إلا حينما أصبح عليه أن يدفع الثمن من جزء من لحمه ودمه. والمقصود هنا ابنته. فكل ما ما هو بعيدٌ عن الشرف، يمكن التعايش معه وكلمة الشرف هذه بكل حمولاتها المحلية والعقدية لم يستطع أن يتخلص منها طوال رحلته في المِهْجر. وهذا الأخير أيضا   يمكن قبوله مع الكبت، تحت سطوة القانون وسلطة الأسرة التي تحت قياد نورا شولز كما هو عليه الحال الآن. أما إذا  تُرك علي سجيته. فليس أمامه أن يكون سوى درويش الذي يعرفه قبل عشرين عاماً. ولكن مَا فَائِدةُ الحُريةِ التِي ثَمنُها هو: فقدُها. وربما إذا  لم يحرم ابنته من حصص التربية الإسلامية لكانت سيدة مختلفة. سلبا أم إيجابا ولكنها ستكون سيدة غير ما هي عليه الآن بكل تأكيد. فهي مسلمة وفقا لشهادة ميلادها فقط لا أكثر. ميمي لا تصلي ولا تصوم ولا تقرأ القرآن بل ولا تحفظ أية    واحدة منه أو حديثا نبوياً. الذي حفظته في طفولتها المُبكرة من الأستاذ الآسيوي قد نسيته بعد ثورة والدها الظافرة. يَحمد علي ابنته أنها  غير متناقضة. شخصية واحدة لا غير. ولا يظن أن موضوع كونها مسلمة وقبولها لذلك قد أثر أو يؤثر علي شخصيتها الأوربية. وهنا يقول لنفسه: الفضل يرجع لي أنا درويش. الشخص الذي انتبه لشرور مُعَلم الدين مبكراً. فهي مُسلمة في شهادة الميلاد وأوربية في كل تفاصيل حياتها.

سأل داني سؤالا مفاجئاً:

- ومن قال لك ميمي مُسلمة.؟

قال له داني، بهدوء

- أريد أن أقول لك، إن المسألة سهلة جدا. أنا أريد   شيئا جديدا في حياتي. شيئا غير تقليدي. مللت أن أكون أنا كل مرة ذات الشخص ذاته. الحياة هنا مملة، وهذا هو الذي أيضا   جعلني أحب ميمي أكثر  فهي مختلفة. علي الأقل في شكلها. أنا وميمي نريد أن نصبح مسلمين.

قال وقد بدأ يفهم:

- الآن عرفت كل شيء، إذا  هي فكرتكما معا.  وماذا تريدان منا أن نفعل لكما؟.

قالت ميمي:

- كنت أظن  أن ذلك يجعلك سعيدا.

صمت. ظهرت علي فمه ابتسامة عصبية، وهي أقرب لتكشيرة الضبع منها لابتسامة إنسان. لم يستطع أن يخفي درويش خوفه. وفي ذهنه ما رآه في التلفاز قبل شهور قليلة. ذلك الفتي النيجيري الذي ذبح الجندي الإنجليزي في شوارع لندن. في رأسه  عشرات الشباب الذين وُلدوا في أوروبا  وانضموا للمجاهدين في بلاد الله الواسعة.  في ذهنه تلك الفتيات الفرنساويات والإنجليزيات والنمساويات وغيرهن من شتى أنحاء أوروبا اللائي هربن من أسرهن وانضممن للمجاهدين في سُوريا والعراق وأفغانستان تلبية لجهاد النِكاح. وهو النكاح الذي يثير جنونه ويعكر صفو حياته عندما يقترن الأمر ببنته ميمي، لم يعدُ طُرفة مثيرة للنكات أو خُرافة. بل حقيقة رعناء مجدبة وقاتلة. فهو يرى الآن مشكلة في علاقة رجل واحد مثل توني مع ابنته طالما كانت علاقة غير شرعية بالطريقة التي يدير بها عقلة مسألة الشرف. فكيف تصبح بنته وجبة جنسية لكتائب من المحاربين من شتى أنحاء العالم. كان لا يرى في ذلك سوى الدعارة بعينها، دعارة دعارة دعارة.

 هل توني عميل سري لإحدي جماعات المجاهدين ويريد أن يستثمر ابنته ومثل هؤلاء الأشرار في كل أنحاء أوربا. لماذا لم تخطر علي باله هذه الفكرة من قبل؟ نعم، قد يكون واحدا منهم. ربما لهذا السبب أيضا   قلبي لم يحببه من أول نظرة. وأخذ يتخيل صفا طويلا من المجاهدين الملتحين يرتدون جلابيب سوداء قصيرة يتحدثون بكل لغات العالم مثل بُناة برج بابل. يحيطون خصورهم بأحزمة متفجرات.  يمارسون الجنس مع ابنته واحداً وراء الآخر. تماماً كما حصل للفتاة الرواندية نادية من قبل البدو في الصحراء المصرية. تلك الحكاية المُرعبة التي قصتها له وهما في الشاحنة إلى   أوروبا  قبل عشرين عاماً.

قالت ميمي:

- أبي إذا  كنت ترى أن الموضوع سخيفا فلا بأس. هون عليك. انسَ الموضوع. كنا نريد أن نفرحك في هذا اليوم المتميز من حياتنا.

قال وهو ينظر في عيني توني:

- أنا سعيد بإشهار إسلامك يا ابني توني. فقط أريد أن أعرف ماذا تريد أن تفعل بعد ذلك؟

قال توني مندهشاً:

- بعد ماذا؟

- بعد أن أصبحت مسلماً:

ارتبك توني قليلا وهو يقول:

- ما يفعله كل مُسلم. أنت  سوف تعلمني ما تعرفه أو إننا سنلتحق بشيخ في المسجد ونتتلمذ عليه. أريد   أن أصبح مسلما حقيقاً. أريد   أن أكون شخصاً آخر.   لقد شاهدنا أنا وميمي كثيرا من الرسائل والندوات والأفلام. وأظن أن الإسلام دين مثير. دين به حركة وفعل حقيقي. تحس بأن المسلمين في حركة دائمة في كل أنحاء العالم. إنهم مثل إعصار لا يهدأ. أقول لك صراحة: أنا لا أؤمن بالأنبياء. ولكني هذه المرة سأجرب أن أؤمن بالنبي محمد. أنا أرغب في ذلك.

كان يتحدث بحماس منقطع النظير. وعيناه تشعان رغبة وإثارة. ويبدو أنه  شخص حقيقي ومنفعل بفكرة قوية. ولو أنها  أقرب   إلى  البحث عن نمط حياة جديد مثير وغريب. منها لإيمان روحي بالله ونبيه محمد. ولا بأس فالدخول إلى الديانات تفرضه ظروف كثيرة ولكن الدين واحد. فتاريخ الإسلام الطويل يشهد بذلك. فهنالك من دخله إيمانا واحتسابا. وهنالك من دخله وهو يريد الحماية. وهنالك من دخله لأن زعيمه القبلي أعلن إسلامه. هنالك من دخله حبا في سُلطة وجاه. وهنالك من دخله بحد السيف. وهنالك من دخله من أجل امرأة. وهنالك من هو مسلم بالميلاد. ويظل الدين هو الدين:" اتق الله يا درويش حاول أن تفهم الرجل. حاول أن تفهمه. ربما يصبح مُسلماً صالحاً ويكون لك أجر ذلك. وهو أجر كبير وصلاح لك في الدنيا والآخرة. أن يهدي اللهُ بك رجلاً، خيرٌ لك من حُمر النِعَمْ. لا تكن متشككا في كل شيء. أنت  لا تعلم ما في قلوب الناس. الله الذي خلقهم هو وحده الذي يعرف ما في نياتهم".

طلبَ درويشُ من زوجته وابنته أن تذهبا لحجرة البنت، أو حجرتها أو أية    حجرة أخرى  تتركانهما وحدهما هنا، ففعلتا بسرعة كأنهما كانتا تنتظران طلبا كهذا من درويش، حيث جذبت نورا بنتها إلى     حجرتها. طلب منه الجلوس قربه، وكان يظن الأب أن به رائحة خمر نتيجة لما احتساه من عرق الهولوندا، لذا لم يحبب فكرة الالتصاق أكثر، ولكن القرب بما يجعل مساحة جيدة للتفاوض ومساحة معقولة لعدم جعل رائحة الخمر تحرم الآخر من تنفس هواء نقي، خالٍ من رائحة الخمور، ولو أن عرق الهولوندا زكي الرائحة. قال درويش وهو ينظر إلى        عيني حبيب ابنته:

- حدثني بحقيقة الأمر، هل أنت  تعمل مع إحدي الشركات التي ترسل البنات إلى        سوريا والعراق وأفغانستان من أجل الترفيه عن المجاهدين بما يعرف بجهاد النكاح، وتريد أن تلعب عليَّ وعلي بنتي مقابل عمولة مهما كانت كبيرة فإنها لا تساوي ثمن الجراح التي تفتقها والآلام التي تسببها لي ولأمها وللبنت ذاتها، أم حقيقة أنت  تريد أن تصبح مسلماً حقاً.

- أريد أن أصبح مسلما، أنا ليست لدي فكرة عن كل الذي قلته، أنا أريد   أن أصبح مسلما من أجل نفسي أنا، ليس إلا، فالإسلام...

قاطعه درويش قائلا:

- أريد إذا أن أقول لك كلاما واضحا، ليس به تورية ولا بلاغة ولا أى   تزويق. الإسلام دين ليس فيه أية    إثارة أو رومانسية كما ترجو. ليس فيه أى   جهاد بالطريقة التي قد تراها في اليوتيوب والتلفزيون وفي السينما، بيعدا عن الدعاية والاستقطابات الرخصية: فالإسلام دين محبة وتسامح وإنسانية، دين رحمة ومودة وكل القيم السامية، فالجهاد والقتال انتهي رسمياً في الفقه الإسلامي منذ آخر المعارك التي خاضها جيش الرسول محمد ضد المشركين، حيث قال لهم الرسول: جئنا من الجهاد الأصغر إلى        الجهاد الأكبر. وعندما سأله المسلمون ماذا يعني بالجهاد الأكبر. قال لهم أنه  جهاد النفس. يعني يا ابني جهاد النفس من الأهواء والشرور والغوايات والكذب والنفاق والكره وكل الصفات الذميمة، أى   مغالبة النفس وإخراجها من ظلامات الغرائز إلى        نور النقاء. وبذلك يصبح الإسلام دينا عالميا روحيا بحتاً. وليس ديناً عسكرياً أو تجارياً أو مناكحات. إذا  كنت ترغب أن تصبح مسلماً بالطريقة التي شرحتها لك، فبها، أما إذا  كنت تريد أن تصبح مسلماً للإثارة وتغيير نمط الحياة والبحث عن الجديد والرومانسية والمغامرات، فمن الأحسن أن تسلم بعيداً عن بنتي وبعيداً عن أسرتي وبعيداً عن بيتي.

قال، وقد برقت عيناه وربما احمرت نتيجة لبعض السيلان الطفيف للدمع:

- أريد الإسلام بالطريقة التي شرحتها، فهل ترشدني؟

قال له وهو يحملق في وجهه:

- دعنا نقول إنني صدقتك، علي الرغم من أنني أحس     وكأنني في حلم، وربما ذلك من كثرة ما شربت من عرق اليوم، ولكني بكامل وعيي كما ترى، سأساعدك، ولكن فلتذهب الآن. تفكر في الأمر جيداً، وتأتيني في نهاية الأسبوع القادم، سأبدأ معك الدروس في الموضوعات الأساسية في الإسلام، ولكن دعنا نكون واضحين، في أية    لحظة أحسست أنك، تخدعني، فإنني لا أتوانى في أن أفعل بك ما أريد، أينما ذهبت في أية    بُقعة من الأرض، الحجاز أم الشام أم أفغانستان ولو في ميدان معركة، سأدركك هنالك. فأنا لا أتسامح في ابنتي أبداً، هل اتفقنا: ابنتي هي شرفي أنا بالذات، ومن يمس شرفي باللبن أجعله يستحم بالدم.

- نعم، اتفقنا، أنا شخص صادق مع نفسي، أرجو أن تطمئن من جانبي.

أضاف درويش بصورة جادة:

- أما دين ابنتي فليس مسئوليتك، ابنتي تدين بما تشاء!

ففغر توني فمه دهشة:

- هل ابنتك ليست مسلمة؟

- لم أقل لك إنها  ليست مسلمة، إنما قلتُ لك إن دينها ليس مسئوليتك! وأظن أن المعني واضح.

قال توني بعد أن شفط قدرا كبيرا من الهواء، "علي كلٍ اتفقنا". ترك درويش توني جالساً، استأذنه وخرج.