2009/01/18

موسيقى العظم

انتهت المعركة الصغيرة التي أيضا أمنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة باقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها، لا ظل، لا حتي هواء يحرك عناد أشعة الشمس الحارقة المرابطة علي مركز رؤسنا، العنيدة الماكرة، ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء، انين الجرحي، و صرخات المصابين تتردد في الفراغ مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو و كأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان،هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب، مرهقين و خائفين من كل شيء حتي من نصرنا السريع غير المتوقع و اللا مفهوم، حيث ظللنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، كنا محاصرين و لا خيار لدينا : أما الموت البطيء أو الحرب، كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا و طعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين شرسين ماكرين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه و ذئابه،نسمع أصواتهم و ضحكاتهم، تصيبنا رصاصاتهم و لا نراهم، وفي أول هجوم يائس منا عليهم، انتصرنا،لا ندري كيف حدث هذا. هاهي جثث موتاهم، وهاهم جرحاهم يصرخون، الجثامين تنتشر في كل مكان، تغرق في برك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء،موتي من كتيبتنا و جرحي أيضا، لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل أننا لم نقم باستجواب الأسري الجرحي بعد و هو الشيء الذي كان علينا اعطائه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وأن نتوقع ما سوف يكون عليه الحال،وهو من أبجديات دروس العسكرية، لقد كنا مرتبكين وقلقين و أفكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحي تحت صخرة كبيرة تلتوي في شكل كهف صغير ولكنه يمتد عميقا في الجبل، ربما استخدمته بعض الوحوش وجرا، أيام أن كانت هنالك وحوشا و مخلوقاتا برية،تركنا الموتي يستأنسون بالغياب و الشمس،رددنا لتأوهات جرحي المتمردين و ندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة وربما الركلات، لكن موسي أو ما نسميه بموسي الرحيم قام باسعاف كل الجرحي لم يفرق ما بين عدو و صليح: دون استثناء بمهارة بسرعة، باتقان، بمسئولية برحمة معهودة فيه : وحده، تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمر الدولية، هكذا كان يقول دائما، وكل شيء كان سيمضي علي كل حال، لولا أن الجاويش المهدي أصر علي قتل أحد الجرحي الأسري، قال إنه يستحق الموت، لسبب يعرفه هو وحده و سوف لا يخبر به : زول.
قيل فيما بعد، إن الأسير الجريح أشار إلي المهدي بالأصبع الوسطي.
كالعادة تصدي له موسي الرحيم، حيث أنه الشخص الوحيد الذي يتبني كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسري، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم اسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه و بلسانه و بيده أيضا،ْبدآ بمشادة كلامية حادة،ثم تدافعا بالأيدي،ثم استخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، و بركلة بهلوانية ألقي موسي الرحيم علي الأرض،و عندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة، تدخلنا الستة عشر رجلا و امرأتين لفضها، و الفصل بينهما،كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة،و في وضع إطلاق النار و اتخذ موضعا حريبا دفاعيا، هجوميا خطيرا بالقرب من صخرة الجرحي،الذين نسوا آلامهم في الحال،توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء و تبادل الوصايا، أخذوا يحملقون بعيون زائقة مفتوحة إلي آخرها : فينا، في المهدي، في موسي الرحيم المرمي علي الأرض فاقدا الوعي، يصدر الآن أصواتا غير مفهومة، تمثل احتضار فرصتهم الأخيرة في الحياة،طلب المهدي من الجميع الجلوس و إلا: لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا،
أمرنا بأن نضع أيادينا علي رؤسنا و أن ننظر في اتجاه الشمال مقابلين اياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك: زي الهواء.
فعلنا،
هددنا، بأنه إذا تحرك أيا منا، أية حركة مريبة كانت أم صديقة لأي اتجاه كان ،سوف : أشربه.
أومأنا برؤسنا أن : فهمنا و أطعنا.

عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد و الوعيد،اتجهنا جميعا في لحظة واحدة نحوه، كان يدوس برجله علي ظهر الأسير الجريح الذي يرقد ميمما وجهه شطر الأرض ورأسه غرقي في الرمل الأصفر الحارق، تحت ثقل بوت و جسد المهدي،

وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص : طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات، قاتلات نافزات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية و حقيقية و لا شك فيها مطلقا: مات كما يجب ان يموت أسير جريح أطلقت ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.

عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت، نهض الأسير الجريح الميت، أغبر أشعث طويلا مرعبا و صامتا، و قف المهدي مندهشا، فاغرا فاه في بلادة بينة بائسة، مع عجز كامل عن النطق أو التعبير، عاجل الأسير الجريح الميت المهدي بلكمة واحدة قوية في رأسه، فأرداه صريعا علي الأرض، بحركة أخري جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي علي ظهره، ببطء وضع رجله اليمني علي ظهر المهدي، أحني الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي علي الرمال، أمسك الرأس، بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق و عناية فائقتين، ثم بذات الرفق و العناية الفائقتين،أدار الرأس ناحية الشمال، بهدوء و صبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضة، ثم في سرعة البرق و بمهارة شيطان رجيم حني الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلي فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم مصحوبة بشخير عميق وقح وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة ظل طنينها عالقا في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق، رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطي في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ: ثم مات مرة أخري.

عبد العزيز بركة ساكن
الفاشر
20-4-2007