الرجلُ الخرابْ
ملحوظة مهمة: هذا الجزء من الرواية، وكل الحكايات التي فيه هي من وُجهة نظر ثلاثة من أبطال الرواية، غير الأساسيين وهم توني وميمي ونُورا فالشخصيةُ الأساسيةُ في هذه الرِواية هي شخصيةُ درويش فقط. وهذا لا يستقيم مع أساسيات الرواية كما هي في كتاب Novel aspects، المدرسي الشهير الذي يقول إن الرواية عليها أن تحتوي في متنها علي ثلاث شخصيات أساسية علي الأقل.
بالطبع سيجد القارئُ والقارئةُ الكريمان معلومات كثيرة تناقض المعلومات التي ذُكرت في الجزء السالف من الرواية. أى الجزء الذي رواه الراوي مشكوراً وتدخل الروائي-أي شخصي الضعيف- كثيراً في بعض الثيمات. وهو تَدخل مُخل في أغلبه، إذا لم يتسامح معه القارئ الصارم الذي يبحثُ عن حقيقة ثابتة لا يمكن التلاعب بها أو فيها وأن علي الرواية أن تمضي في خُطوطٍ مستقيمةٍ مُتوازية وألا تتقاطع إلا بمبرر سردي مقنع، كما عند ليوتلستوي وآرنست همنجواي والعبقري الماكر صاحب عشيق الليدي شترلي دي.اتش.لورنس. أما القارئ المُرائي المُغامر الصُعُلوق الذي تحدث عنه تي.اس.إليوت، قد يكون له رأي آخر، لا ندري ما هو بصورة قاطعة. والشيء الآخر أن نهاية هذه الرواية ليست من اختياري ككاتب ولا اختيار الراوي المستبد الذي صاحبكم في عملية السرد، هي من اختيار نُورا شولز بالذات. فكانت خطتي لإنهاء هذه الرواية تذهب إلى عودة درويش إلى مصر أو السودان مرة أخرى، هارباً بابنته ميمي من جحيم الفساد الأخلاقي والقيمي الأوربي، قد يزوجها هُنالك أحد أقربائه بعد أن يُمزق جوازها ويلقيه في أقرب نهر موسمي. ويسكنها في قَرية لم تتعرف عليها أدق الأقمار الاصطناعية، لأنها ببساطة لا تُوجد في الخارطة السياسية للعالم. في عودة درويش، ليست العِبرة في المكان، ولكن أريد أن أستخدم القُوة الرمزيةُ الهائلة للمكان والدلالات النفسية والاجتماعية التي تتضمنها مسألة العَودة، وبذلك أكون قد كتبتُ نهايةً للروايةِ مقفولة بصورة صارمة وجيدة، نُوع النهايات التي تجعل القارئ يتنفس الصُعداء ثم يتناول كوبَ ماء كبيرٍ، يشربه في جُرعات متتاليات، ثم يصرخ بأعلي صوته: تباً.
ولكن كانت لنورا وُجهة نظر مختلفة في موضوع النهاية. وقمت بالتنازل عن حقي الأدبي في اختيار نهاية الرواية لها. وحدث ذلك بكامل رغبتي. ولم أستشر الراوي. لأننا منذ أن اختلفنا في موقعٍ ما من الرواية لم أستطع أن أتحصل عليه مرة أخرى. وأنتم تعلمون أنه ليس للرواة أوطان أو عناوين ولا تستطيع شَرَطَةٌ ما القبض عليهم. ونذكر هنا مرة أخرى قصة الراوي الذي اغتصب صديقتي الروائية الفاضلة كلتوم فضل الله. أظنني قلتُ فيما سَبق راودها عن نفسها، لا.... أنه اغتصبها، لقد أكدتْ لي ذلك بنفسها، وهرب في مكان ما من السَريات الكُبرى تلك المقدسة، حيث يختلط الحابل بأكثر من نابل، وتُمنع النساءُ من الخوض في تلك البِرك السردية الآسنة.
ولو أن ذلك كان حدثا غريباً إلا أنه عادي ويمكن حدوثه في عالم يحتفي باللامعقول وما وراء الطبيعة ويؤمن بأن هنالك شخصية عديمة الهُوية اسمها الراوي، وبه عدد مهول من الكُجُوريين والسَحرة ورماة الودع وقارئي الكف والدنباريين وعلي الأقل واحد من مُدعي النُبوة يومياً وبه كمال الجزولي. فَيلِمَ أضيع وقتا كثيرا في البحث عنه. لذا تنازلت هُنا من جانبي لنُورا بكامل إرادتي ولو أنني كنتُ في تلك اللحظة سكران. فالبرد قارصٌ والجليدُ يهبط بشدة من السماء، وأحسُ بأن الدم يتجمد في عروقي وليست لدي امرأة ألوذ بها من الزمهرير الذي لا علاج له غير جسد الآخر الحميم. فاتبعت نصيحة صديقي رودلف راينر- وهو من الذين أهديتهم هذه الرواية- الذي يقول: "إن الويسكي من عمل الشيطان، ولكنه يدفئ الدم ويمنعه من التجمد". حسناً، وقبل أن أنسحب نهائياً أريد أن أؤكد شيئاً مهما جداً: أن اتهام نورا لي بالتعاطف مع درويش، هو صحيح لحد ما، وهذا اعتراف كريمٌ من جانبي، يجب أن يُعطى قدرٌ من الاحترام معقول. أما تزويري لبعض الوقائع السردية، فهذا ما قام به الراوي الغائب الآن عن النص. وليست مهمتي ككاتب، أن أبحث له عن عذر أو أن أدفع التهمة عنه. علي الأقل نحن متخاصمان. واختلاف الرأي يفسد للود جُل قضياته ويؤسس لكراهية يسميها البعضُ ثمرة الاختلاف السلبي. ثانيا عَليَّ أن أعترف بكرم أيضاً: أن الصورة التي ترسمها نورا لدرويش، قد تكون الأقرب، فهي زوجته وشريكته في الفراش. ومن شاركك الفراش عرفك بعمق، فما يهمس به الجسدُ للجسدِ، لا حدود له. وسوف أترك لكم التقييم.
وأخيراً، أستودعكم الله، وأترككم مع أبطال الرواية الثانويين يسردون وقائع الختام، وأكرر غير الأساسيين ليكملوا لكم هذا النص المُربك: خارج حدود مسئوليتي، وأظنني قمتُ بهذا السلوك الجبان من قبل في بداية روايتي الموسومة بمخِيلة الخندريس ومن الذي يخاف عثمان بُشرى. أستميحكم عذرا أنني سوف أثرثر مرة أخرى في ذكرى روايتي الخندريس. وهي رواية قصيرة كتبها في الغالب الأبطال أنفسهم ما عدا فصل واحد هو الذي كتبته بنفسي، وأستطيع أن أقول إنني استمتعت بكتابة ذلك الفصل جيداً. وأنا دائماً ما أستمتع بالرواية أثناء كتابتها وأعتبرها في ذلك الحين أجمل رِواية أكتبها علي الإطلاق بل أعتبرها عمل حياتي. ولكنني بمجرد أن أضع آخر نقطة فيها، تصبح مثل الجيفة، ولا أحب قراءتها أبدا أو الاقتراب منها، وأحتار كيف يقرأها الآخرون. بعضهم للأسف يشيد بها ويعتبرها عملا جيدا. وطبعا هنالك من يكتشف الخدعة ويحتقرها بعد قراءتها مباشرة ثم يبحث عن عمل آخر لي يعيد له توازنه الذي فقده بالقراءة وثقته فِيَّ ككاتب. ومن هذه العملية بالذات يجني الناشرون أرباحهم الطائلة أو يحققون خسائرهم المُمِيتة وتلك فجيعة أحد الناشرين السودانيين وهو الصديق نُور الهُدى صاحب دار عزة. الذي تحفزه الخسائر علي مواصلة العمل بجد أكبر. فالخسائر الكبيرة مثل الاستمناء الذاتي، حالما يعاودك الحنين إليه لأنك أبداً لا تصل لحالة الإشباع الكاملة.
شهادة توني
أنا لا أحبُ أن أتحدث عن هذا الموضوع علي الإطلاق. لقد خدمني الحظُ بأني لم اُصب إصابات بالغة أو أموت، والموت خير من تلك الإصابات المؤلمة التي تلقي بك وحيدا في مستشفي قصي تجتر ذكرياتك الباليات. كل الذي أتمناه أن أشفى سريعاً من جراحي كما شُفيت من الكابوس الذي يُسمى: دَرويش.
ما جذبني لميمي هو الغرابة التي تبدو عليها، أقصد ما يجعلها مختلفة، بدءاً من شكلها الظاهري، شعرها المُجعد الخشن لونها الأسمر، وثقافتها المختلفة نوعيا عن ثقافة الوسط الذي نعيش فيه، ولو أنني سريعا ما اكتشفت بُطلان الافتراض الأخير، لأن ميمي لم تكن شيئا آخر ثقافياً واجتماعياً غير كل البنات اللائي في عمرها بل كانت تقليدية لدرجة ما، حيثُ إنها حَمَلتْ عن أُمها بعض النزعات الوطنية وهو لحدٍ ما شيء مزعج، بالنسبة لشخص ينحدر من أسرة تحمل تاريخا حزينا ممتلئاً بالدم والدموع مثل أسرتي. وكنت أحبها، وهي تحبني أيضاً. وبالنسبة لي ولها، كلانا نمثل لبعضنا البعض الحب الأول. فهي المرأة الأولي في حياتي وكذلك كنت الرجل الأول والوحيدُ في حياتها. وتعاهدنا علي ذلك ما دمنا أحياء بل أقسمنا لبعض إذا مات أحدنا، فلن يتخذ الآخر من بعده خليلا آخر في حياته. وأظن تلك كانت رومانسية مفرطة. أشبه بما يحدث في بعض المسرحيات الهزلية. ولكن الحُب نوع من السُكْرِ اللذيذ. وهو كما يقول أبي يُورث العبط والهبل. ولكن عندما رآها أبي قال لي:
تُوني! اعبدها. إنها إله نوبي أرسل إليك من أنهار كُوش، حيث لا تحتسب!.
كان أبي يبالغ قليلاً. والعُتبة علي البيرة البيضاء. والعُتبة علي الوقت الذي تناقشنا فيه. فأبي دائما ما يتمتع بمزاج مرحٍ وجيدٍ بعد التاسعةِ مساءً. في الصباح يكون مشغولاً بمواجهة العمل. عندما يعود من العمل وتعود أمي يكون كل واحد منهما مشغولا بمواجهة الآخر. ثم نواجه جميعنا الطعام. نواجه الكتب والتلفاز. ومن ثم يتفرغ كل منا لنفسه. وتلك هي ساعة صفاء أبي. ما لم تعرفه أسرة ميمي أن أمي وأبي من أصل يهودي. وهما بقايا أسر هربت من قمع النازيين في أواخر أيام الحرب العالمية الثانية تقريبا في 1945 وكانت ضمن عائلات أقامتْ في مُعسكر ضخم بُني بسالفدن لإيواء اليهود الناجيين من آلة الموت في نهاية الحرب العالمية الثانية حيثُ وفد إليه المئات من كل أنحاء أوربا، وعندما هاجرت الأسر في 1947من سالفلدن إلى إيطاليا عبر جبل "كمرلا تون"، مِشياً على الأقدام علي ذلك الطريق الوعر، فإن أسرتيهما فضلتا البقاء في ضيافة ورعاية أحد الفلاحين النمساويين الأثرياء، فهما يهوديان. أما أنا أؤمن بأن هُنالك ربا خلق الكون قد يكون يهوه قد يكون الله قد يكون غيرهما. ولكني لا أؤمن بأيٍ من الرُسل. وهذا بالتأكيد شأنٌ يخصني. قد يكون ليس صحيحا بالمرة. كما تقول ميمي، ولكنه أيضا احتمال وارد طالما كان هنالك من يؤمن به، مثلي.
وقد أخبرت ميمي بذلك من قبل للأمانة، وأظن أن الراوي أو الكاتب قد ذكره في بداية هذه الرواية. أنا لم أكذب ولكن لم يسألني أى من أفراد أسرتها عن دين أمي وأبي. ووالداي لم يتبرعا بالإخْبَارِ عن دينهما. فهما يهوديان في الأصل ولا يمارسان أية طقوس دينية، في الواقع لم يزورا القُدس ولم يرها جدودهما أيضاً، ولا يؤمنان بأرض ميعاد. فأرض ميعادهما أينما وجدا الأمن والسلامة والطمأنينة والمساواة. يقول أبي:
"إن الإيمان لا يحتاج لطقوس. إذا كانت الطقوس تقود إلى التمييز. ولم تستطع تلك الطقوس حماية أحد مما يجره التمييز من دم ودموع".
ولم يصحبا أبدا في حياتهما الحجيج إلى إيطاليا. الذي يقوم به اليهود كل عام، في شهر الأسبوع الأخير من شهر يونيو، متتبعين الطرق البرية الوعرة التي مشتها تلك الأسر اليهودية إلى إيطاليا. ولم يشتركا في أية احتفالات أخرى. يبدو أن الإحساس بالرُعب والترصد ما زالا يسيطران علي عليهما. ولو انهما شهدا الحرب وهما طفلان يافعان، ولكن ما رسخ من خوف حينها قد بقي للأبد، يقولُ أبي:
إذا لم تخف لم تعش.
الزمن القليل الذي رأيت فيه درويش وتحدثت معه، كان كافيا علي الحكم عليه. ولا يمكن أن أتجاهل كل ما حدثتني به ابنته عنه. وما كانت ميمي تستطيع أن تقول لي كل شيء قبيح عن أبيها، وهذه طبيعة البشر. إننا نحب آباءنا وكيفما كانوا نقبلهم. فلم يكن شخصاً سهلا علي الإطلاق. فلقد كان أثقل من كابوس. ولم أعرف أباً علي وجه الأرض يعلن عن مثليته بهذه الوقاحة؟.
كان أبي يحملني المسئولية كاملة، لأنني طلبت من درويش أن يتدخل في شأن يخصني أنا وميمي، أو يخصني وحدي فقط. فمسألة التدين قضية شخصية. ولم يفهم أبي فكرة أننا كنا نُريده أن يبتسم. مجرد ابتسامة تنم عن رضى أو مشاركة دون تكلف. فقد كان صارماً حتى وهو يحكي لنا بعض النكات. يبدو أنه كان يفكر في قتلي طوال الوقت. إذا كنت نبيها بما فيه الكفاية لعرفت ذلك في وقته. ولكنني أيضا ما كنت أرغب في الذهاب إلى الجبل للتمشية وفقا لاقتراحه. ليس لأنني كنت أشك في نواياه. بل أحسستُ أنه لا يرغب في أن أصاحبهم إلى هنالك. كما لو كانوا يقومون بنزهة اُسرية بحتة. وتحت إلحاح ميمي، صحبتهم.
حدثتني ميمي أيضا أن والدها مغرم بقصيدة الأرض الخراب، وما المشكلة، فأبي أيضا مغرم بماريا ليركة، ويقرأه مع القهوة والبيرة من ذاكرته مباشرة، ولكن الغريب في أمر درويش أنه يحب مقطع الجثة، تلك التي بالحديقة. وعندما كان يرددها ونحن عند قبر الجدة، أحسست بالرعب الحقيقي، وحينما طلب منا إحضار بعض أزهار الليلك البري لوضعه في القبر، عرفتُ أن الأمر سوف لا يمضي بسلام، ليس علي أن أتبع الظنون وإلا أفسد يومي الجميل مع ميمي وأمها اللطيفة الطيبة. في طريق العودة، حدث كل شيء في سرعة البرق: في الحقيقة وجدتُ نفسي أعلق في الهاوية علي أغصان شجرة ضخمة. ولحُسن الحظ أنني لم أفقد الوعي، وإلا لتدحرجت في العُمق وانتهيت. فظللت مُمُسكا بالأغصان إلى أن جاءت فرقة الإنقاذ من المدينة وحررتني من كارثة حياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق