الفصل الأخير
خرج درويش من بيته في شارع Banhofstrasse، وتمشي بالطريق التي يحبها جدا، بل هي الطريق الوحيدة التي يسلكها إلى العمل، وهي ليست القريبة أو المختصرة، ولكنها تمر بنقاط مهمة جدا بالنسبة له، أولها ما يسميه بشجرة العصافير قرب مخبز الفلاح، بعد الدوران بقليل، علي نفس الشارع الذي هو امتداد لشارع بيته، حيث يسمع فيها دعاء الكروان يوميا، وهو يتحاور مع طيور الببغاوات المحبوسة في قفص كبير في الشرفة المقابلة. يفصلهما شارع أسفلتي متسع، يظن دائما درويش أن طيور الكروان الطليقة تضع خطط هروب فاشلة للببغاوات كل يوم، وربما يوما ما ستنجح تلك الخطط في أن تنال الببغاوات الحزينات حريتهن، فهو كل مرة يصاب بخيبة أمل عندما يسمع صوت الببغاوات، يعني أن خطط الكروانات التي استخدمتها بالأمس لم تنجح أيضا. وبمجرد أن يمر درويش يغرد الببغاء فترد إليه الكروانات الطليقات في الشجرة المقابلة تشرح إليه تفاصيل خطة الهروب الجديدة. هذا الشيء يعجبه جدا، ويحزنه أيضا. يتوقف قليلا يترك كل جسده وخياله وروحه لتغريد الطيور، في كثير من الأحيان تسيل دمعة بصورة غير إرادية علي خده، حينها يقرر المضي قدما في مشواره. والشيء الآخر في ذات الطريق عند المجري المائي الذي يمر غرب وسط المدينة، وقريبا من بار وفندق هنتر بيرج، حيث تُوجد صيدلية الشعب التي يعمل بها صديقه الدكتور أولف Ulf. يكتفي بتحيته وربما تحديد مواعيد سريعة للقاء في نهاية اليوم من أجل شُرب بعض البيرة معا وتبادل الأخبار وربما الذهاب إلى نيكسوسNexus ، إذا كان به عرض موسيقي أو معرض تشكيلي أو فيلما جميلاً. الاثنان يفضلان الحفلات الموسيقية التي بها فرق تستخدم الشيلو أو الكونترباس. لا يذهبان مطلقاً إلى نيكسوس عندما تكون هنالك فرق شبابية، يكرهان المُوسيقى الصاخبة والرقص الخليع وإذا كانت تُخْتَار الفرق والفعاليات الموسيقية وفقا لمزاجيهما وذوقيهما لفضلا أن تُجمع كل النقود المخصصة للفعاليات الموسيقية وتُجنب لحفلٍ واحدٍ كبيرٍ تُدعي فيه المُغنية الكندية سيلون دايون أو ابن علي فيكاتوري. فعرض موسيقي واحد جيد خيرٌ من عشرات العروض التافهة. حسب تعبير الدكتور أولف. واليوم هو الأحد. الصيدلية مغلقة وهذا لا يمكنه من أن يحيي صديقه أيضاً. تحية حبٍ صامتة وودَّ. أن يبتسم له إذا لم يكن مزاجه عكراً وأموره مقلوبة رأساً علي عقب. وقبل أن يصل ساحة المدينة Rathausplatz فكر أن يحدد وُجهة معينة يمضي إليها. هل سيتصل علي صديقه أولف؟ ربما يكون هو أيضا يحتاج لمن يتحدث إليه. فاليوم الأحد ودائماً ما تكون كل أسرة ببرنامجها الخاص والناس لا يحبون أن يُزعجون. حسناً هل أتمشي في الغابة المجاورة، وربما أصل إلى كنيسة الراهب في القمة الجيرية، وبعدها بقليل صخرة الأم التي سقطت من عليائها والتقطت جرثومة موتها في عيد ميلادها الخمسين. ولكنه أيضا تذكر أن اليوم هو الأحد والراهب لا يكون فارغا في هذا اليوم بالذات. فهو يوم عمل شاق بالنسبة له. أو يوم عمله الوحيد طوال الأسبوع، يقيم الراهب وحدهُ طوال شهور الصيف والربيع ويأتيه الناس في زيارة في أيام الآحاد والإجازات يأخذون منه البركات ويناقشونه في أمور الإيمان والحياة. لقد التقي به مرتين ولم يتناقشا في شئون ذات قيمة كبيرة. كان نقاشاً عادياً لا علاقة له بأي دين أو نظام إيمان، ولكن من أهم ما قاله له الراهب: الناس يناقشونني ويستشيرونني في أمور الحياة، وهم الذين أعرف بها مني. أنا هُنا في جبل وبين جدران هذه الكنيسة، وهم في الشوارع والمصانع والمزارع والمدارس والبيوت، يحيطون أنفسهم بكل مظاهر الحياة. فأنيَّ لي أنا بعلمهم ومعرفتهم وخبرتهم الحياتية. أنا الذي في حاجة إلى أن أستشيرهم وليس العكس. وعندما تذكر ذلك. أخذت همته تبرد في الذهاب إليه. أنه في حاجة لشخص ما يناقشه في الأمر.
"حسنا، صديقي جانو السُوري الكردي الفنان، إنها فِكرة جيدة: لا...لا....، ليست فكرة جيدة، نعم، جانو لديه موضوعٌ واحدٌ لا يحيد عنه وهو موضوع الفيلم الوثائقي عن كردي في المِهْجر يجلس في مقهى ويتذكر أفراد أسرته الذين يحاولون دخول تركيا عبر ممرات جبلية وعرة، بينما تحيط بهم مخاطر شتى أكثرها رُعبا المليشيات والحكومات المعادية والألغام البشرية بعض الوحوش. وسيحكي لي القصة من جديد للمرة الألف، وهو دائماً ما ينسى أنه قصها لي من قبل بذات الطريقة وذات التفاصيل. وأنا أبديت له ذات الآراء واقترحت عليه ذات الاقتراحات: وقلت له:" جانو، أنا لا أفهم في السينما لا وثائقية ولا روائية، وأنا شخصٌ ضعيفُ المخيال، أى لا أستطيع أن أساعدُك في شيء، وليس لديَّ نقودٌ لأدعمك بها"
فيقول لي: استثمر علاقاتك، علاقةٌ جيدةٌ تساوي تقربياً مليون يورو وسيدةٌ جميلةٌ.
ويضحك من كل قلبه. جانو نادرا ما يصفو، وإذا فَعلَ، يصبح أرق من النسيم، ويغني لفيروز ومرسيل خليفة وينسى موضوع الفيلم تماماً. ولكن إذا شرب فقط العرق التركي ماركة راكي الذي يصفه بأنه مُقدس، وأنا لم أر له أية قدسية. وإذا كانت له فضيلة واحدة هي أنه يجعل جانو ينسى موضوع الفيلم ويغني لمرسيل خليفة أغنية واحدة فقط لا يَملها:
"بين رتا وعيوني البُندقية.
والذي يعرف رتا.
ينحني ويصلي لأله في العيون العسلية."
وحدثني مرة أنه رأى رِتَّا، وهي امرأة كُردية جميلة من سُكان الجبال. قابلها الشاعر محمود درويش في مكانٍ ما من العالم. رُبما في إسرائيل، فالأكراد هم الشعبُ الوحيدُ الذي وَطَّنهُ اللهُ في العالم كُله. "ولكن تلك مغامرةٌ لستُ في حاجة إليها الآن........" فقد لا نجد العَرق التركيُ الجيد. فيحكي لي جانو عن فيلمه الوثائقي اللعين، وأكون قد خَسرت يومي تماماً، كما خسر الشاعرُ محمود درويش من قبل "لسع الزنابق".
وفجأة هتف هاتف نفسه" لماذا لا تناقش زوجتك نُورا، هي سيدة واعيةُ وعميقةُ، وعملية، وشريكة أيضا في الأمر. لماذا تمضي بعيدا في البحث عن شخص آخر ولديك في البيت زوجتك وبنتك أيضا، لماذا لا تبدأ من هنالك؟ نعم نحن لا نرى ما هو قريبٌ منا إلا إذا مضينا بعيدا عنه. لأن القريب تحت ظل النظر" . "لا أنا أعرف ما هو رأي نُورا، أعرفها جيدا، في الغالب ستكون مطمئنة للأمر، ألم تر كيف كان وجهها هادئا ولم تكن قد فوجئت به، كأنما قد تناقشوا فيه من قبل أن يأتوني به. هل هم متفقون عليه! في أسوأ الحالات ستقول لي نورا: هو خيارهم وهم أحرار ولماذا أنت لا تترك الناس وشأنهم، وتلوي شفتيها الرهيفتين في امتعاض. وتضيع ابنتي كضحية للحريات الأوربية المزعومة. أنا شخص غير محظوظ إذا أنجبت ولدا بدلا من هذه البنت لما واجهتني أية مشاكل، فالراجل في الآخر رجل، والبنت إما أدخلتك الجنة أو حشرتك في الجحيم، وبنتي من ذلك النوع الأخير: أنجبتها من أجل أن تشيعني لجحيم خاص بآباء الزانيات. ولكن أنا ليس ممن يُحْشَرون في هنالك. سأدافع عنها إلى آخر لحظة. هي ابنتي علي رغم أنف القانون هي ابنتي. أليست هي ابنتي؟ أليس لدي الحق في حماية ابنتي؟ بحق الجحيم ماذا يفعلان في هذه اللحظة في البيت، أظنني شممت شيئا عندما كان يتحدث معي توني، أظني شممته ينفح من ميمي بالذات. أهي رائحة فراش؟ تباً تباً. سُحقا للقانون الذي لا يميَّزُ ما بين الأخلاق والحُقوق الأبوية في الحماية والرعاية والتربية القويمة وفقا لمعتقد الأب. سُحقا لأوربا كُلها، عليها اللعنة وعليَّ وعَلىَ العالم!.
- كِرستي.
- كِرستي.
- تتحدث وحدك يا رجل؟
- آسف ، آسف والله.
كانت ساحةُ المدينةِ فارغةً كما هي العادة في يوم الأحد، إلا من بعض المواطنين. ربما هم بعض السياح القادمين من مدينة "بُحَيَّرةُ السِجن Zell am See " الشهيرة المجاورة. عربُ الخليجِ وروسٌ وألمان وآسيويون يتمشون في المتاجر الفاخرة المُحيطة بميدان ساحة العُمدة. كعادة الناسِ هُنا دائماً هادئون ومرتبون ويبدون من الخارج كأنما لا تُوجد مشاكل في الكون كله دعك من مشاكل شخصية تخصهم. كما يدل شكله هو أيضا من الخارج. ولكنه بينه وبين نفسه يعرف أن وراء "السواهي دواهي". وأن البعض يحمل ما تنوء عنه الجبال الشامخات. ولكن الحفاظ علي المظهر الجميل الهادئ وعدم التشكي هو كلمة السر في هذه البلاد. دار قليلا في ساحة العُمدة. كان يود أن يحتسي كأساً كبيرة من البيرة. في المطعم الملاصق لمبني المحلية Rathaus ولكنه غير رأيه ومضي عبر الزقاق الضيق مابين المحلية وبنك رايفسايدن الذي به حسابه الخاص. ووجده مغلقا أيضاً. كانت في الواجهة يافطة المطعم الصيني. ابنته نُورا عندما كانت صغيرة كانت تحب أن يأخذها إليه في كل يوم أحد، بعد الظهر. حيث إنهم يقدمون وجبات خاصة في أيام الآحاد من كل أسبوع للأطفال:"لم أُنشئها بسهولة. لقد دفعتُ من أجلها الكثير. من الزمن والمال. ومن صحتي. ولو أنني لم أفعل كما يفعل البعضُ من الآباء مثل الكاتب الألماني كارل فلنتين Karl Valentin وأعدُ قائمةً بمصروفاتها منذ خرجت من بطن أمها. لأطالبها بها في عيد ميلادها الثامن عشر جزء مميت وبائل من طقوس الاحتفال، تلك الطريقة الوسط ما بين السماجة والطُرفة. فلقد عملت كل شيء عن حبِ وبدون مقابل. وكنت نِعم الأب وأنا الذي أنتبه لشرور مُعلم التربية الإسلامية في الوقت المناسب عندما جاءتني بسؤال عجيب:
"يا أبي، هل أمي كافرة؟"
سألتها:
من قال لك؟
قالت: "سورةُ الكافرون"،
من أين عرفت سورة الكافرون؟
قالت:
"شرحها لنا الأستاذ سيف الرسول خان في حصة الدين الإسلامي".
نعم، شهدت سجلات الشرطة في المدينة الصغيرة في ذلك اليوم تدوين أول مجزرة بشرية لم تقع بالفعل من المفترض أن يكون ضحيتها أستاذ مدرسة ابتدائية من قبل ولي أمر تلميذة لاعٍ. أقصد محاولة ذبحه بسكين المطبخ: "فأنا لست عنيفا، ولكن عندما يكون الأمر له علاقة ببنتي أصبح شرسا مثل قط محصور. كل ذلك من أجلها. أنا لم أقصر معها أبدا في يوم ما. لقد كنت دائما إلى جانبها. لو كانت ولدا لما أرهقني كما فعلت ميمي. فإذا زنت البنتُ البكرةُ أدخلت والديها النار في يوم القيامة. أما الرجل فيتحمل وزره بنفسه فقط. كيف لي أن أخطئ رائحة المني؟ لقد انتهي كل شيء ويقول لي: أسلم! نعم، اسلم كما يسلم الذئب الكاسر. كما تسلم الجحيم."
- كرستي درفيش!
- كرستي!
- أنت تتحدث لنفسك!
لا أحد يتوقع إجابة. والقارئ الحصيف، هو الذي لا يترك مجالا للكاتب أن يدعه يخمن نهاية الرواية. والكاتب الماكر مثل السياسي العجوز. يتلاعب بالبيضة والحجر في ذات الكف. أما الراوي الذي يتعجل نهاية الرواية ليحرر نفسه من أجل أغراض أكثر أهمية. في ظني وليس كل الظن إثم: فالموت أولى به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق