شهادةُ ميمي
اسمي الحقيقي مايا، لقد اختار لي اسما جميلا ومتميزا. وهو اسم نُوبي قديم. أنا أحترم أبي. ولكن تدخله السافر في تفاصيل حياتي لا يعجبني كثيرا. ولا يمكن أن أجد له مبرراً معقولا. ولقد تعلمت منذ الروضة أن تكون لي شخصيتي المستقلة. أن تكون لي خياراتي في الحياة. لكنه كان لا يتوانى لحظة في عمل كل ما يراه هو مناسبا لي، متجاهلا بكل وقاحة رغبتي وخياراتي. كان هو المسئول من كل شيء والسائل عن كل شيء والعارف لما لم يسأل عنه. بدءا بالطعام نهاية بالملبس. لأبي رأي في لون اللباس الداخلي الذي ألبسه. لقد حولني كما تقول أمي إلى دمية لا قرار لها لا شخصية لها مترددة ومنطوية علي ذاتها.
وقد ضربني عدة مرات لأسباب تافهة مما اضطر أمي أن تبلغ عنه الشرطة، خوفا علي. كنت أحس به يتبعني كظلي، وكان بإمكاني أن أترك له البيت في عمر الـ18 عاما، أو قبلها بكثير. نعم كانت هنالك لحظات جميلة أحببته فيها. ولكنها كانت قليلة وعابرة وقصيرة حالما تعكرها طبيعة أبي في افتعال المشاجرات وإبداء المُلاحظات الثقيلة المميتة. وما كنت أرغب في موته، علي الأقل ما كنت أظنني أن أشارك في تلك الفعلة، ولو بالقبول بها وتزوير أقوالي لتتوافق مع أقوال والدتي. ولكنه وضعني في موقف أجبرني علي ذلك: لقد فعلت أمي خيراً. لأول مرة أاحس بالحُرية. أحس بإمكاني فعل شيء أرغب فيه.
شهادةُ نُورا
دعوني أقول: إن الصورة التي رسمها الراوي والكاتب لدرويش، وربما كثيرا من الأحداث ليست صحيحة بل مراوغة بقليل من أعمال الفكر يمكن اكتشاف زيفها، إنهما وقفا في صف درويش وزيفا كثيرا من الحقائق لأجله. كل السرد الذي قرأته أنا في أول الرواية أربكني كثيرا وشككني فيما يرميان إليه. وميزني من الغيظ، وما يحيرني بالفعل كيف يسمح شخصٌ- محترمٌ مثل الكاتب، وآخر اعتباري لا أدري هل يمكن وصفه بواحدة من صفات البشر أم لا- لنفسيهما أن ينحازا لرجل مثل درويش! ويستخدمان كل إمكانياتهما الفنية في أن يظهراه في صُورة بطلِ يُمكن التعاطف معه!. فدرويش شخصٌ لا يُحتمل بمعني الكلمة، شخصٌ لا يخجل من أن يتدخل في أبسط الأشياء التي تهمنا كنساء، ولا يرضي إلا أن تمر كل كبيرة وصغيرة من أمام عينيه. رجل كثير الشك والغيرة، نعم وجدت الكلمة، إنه غيور جدا ولكن تلك الغيرة الهدامة، الغيرة المُدمرة، إن درويش دمر حياتنا بالفعل، وسبب عُقدا نفسية لا حصر لها لابنته. وَصَنَمَ منها مخلوقا انطوائيا بائساً. ولم تتحصل ميمي علي صديق إلا بعد علاج وجهد نفسي كبير ومرير. لقد أنفقتُ كثيراً من المال والوقت في سبيل ذلك. وأخيرا يأتي درويش لينهي حياة ابنتنا. بعد ما أفسد حياتي كُلها، وصبرتُ عليه سنوات كثيرة، ليس لشيء إلا أنني لا أحب أن أبدأ من الصفر، وفكرة الطلاق هنا تعني الدمار الشامل لي وللبنت وله، ولا أحب أن أكرر فكرة الأسرة المتفككة الفاشلة التي كانت أسرة أمي وأبي نموذجاً ساخناً لها. كما أن التعايش معه ليس مستحيلاً، أنه صعبٌ ومعقدٌ ومؤلمٌ وذلك كل شيء. الشكُ منهجه لتفسير كل ظاهرة، كان يتهمني بكل ما هو مخذٍ ومسيء، وللأسف درويش لا يتردد في أن يستخدم يده لحسم أى خلاف معه، وهو أيضا كذاب يكذب في كل شيء، حتي عمره لا أحد يعرف متي ولد بالضبط، ويستخدم ذلك لمصلحته فقد أخذ المعاش وفقا لعمره المُعلن، ولكنه ما زال يعمل بصورة غير شرعية تهرباً من الضرائب، وعندما أبديت له تلك الملحوظة ذات مرة صفعني في وجهي بعنف ثم أخذ يعتذر لكي لا أبلغ عنه البوليس. إنه لا يخاف سوى من القانون والشَرطيين: ليس لديه غير صديقين سيئين حقيرين لا أحد يحبهما في المدينة كلها.
مسألة أن نقتله ليست من بنات أفكاري. لقد ابتكرها هو بنفسه. فهو لا يرغب في الانتحار علي الرغم من أن شخصاً في تفاهته وفساد روحه يكون الانتحار هو الرحمة الوحيدة التي عليه أن يهديها لنفسه وللآخرين من بني البشر الذين شاءت أقدارهم أن يرتبطوا به في حياتهم اليومية، مثلنا أنا وابنته. ولكنه كان متمسكاً بفكرة أن المنتحر شخص غبي أو بليد، وجبان، شخص لم يستطع أن يواجه أسئلة الوجود البسيطة المعقدة. القتيل هو الوحيد الذي يحمل شهادة أنه مختلف وأنه إنسان معقد وعميق، ويحمل شهادة أن القاتل عجز تماما عن مقاومته، لأن دفاعاته كانت هي الأقوي وأن هجومه قاتل، فالقتيل ثروة قومية وثورة مؤجلة، والقاتل هو المستثمر الفعلي لمشروع القتيل. وكان يري أن القاتل هو أسير المقتول الأبدي، ربما انطلاقا من تلك الفكرة بالذات هو الذي وضع خطة موته كما اكتشفنا لاحقا، وهو الذي كتب رسالة تقول إنه ينوي الانتحار، وعليها بصمات أصابعه وتوقيعه، وتركها في البيت مع تلك الأبيات من القصيدة المشئومة للشاعر الإنجليزي T.S.Eliotتي اس إليوت الموسومة بالأرض الخراب:
"هناك رأيت واحداً عرفته، فاستوقفته صائحاً: (ستتسن!)
"يا من كنت معي على السفائن في (ميلاي!)
"تلك الجثة التي زرعتها السنة الماضية في حديقتك،
"هل بدأت تورق؟ أما تراها تزهر العام؟
"أم ترى، أن الصقيع المباغت قد أقض مضجعها؟
إذا، فلنطرد بعيدا الكلب صديق البشر،
وإلا نبش بأظافره فأخرج الجثة من جديد."
مشئومة لأنني في اليوم الذي قرأتها له، وهي المرة الأولي التي سمع فيها بشاعر اسمه ت. اس. إليوت. في هذا اليوم بالذات كنا قد نمنا معا في سرير واحدٍ. كامرأة ورجل. كانت ليلتنا الأولي. وليس كما ذكر الكاتبُ المنحاز، إنها الليلة التي إن أنهيت فيها قراءة حكايات ألف ليلة وليلة. وما فعل الكاتب ذلك إلا ليضفي علي ليلة لقائنا رومانسية بغيضة. في الحقيقة أنا ودرويش لم نحب في يوم ما بعضنا البعض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق