سِيرَةُ المَرأةِ
في فقرة ما من هذه الرواية، تحدث الراوي عن حب نورا شولز لدرويش أو حب درويش لها أو حبهما لبعض، في الواقع ذاك ليس دقيقا أو فلنقل إنه ليس واقعيا، إذا تتبعنا سيرة الرجل والمرأة وكيف أنهما التقيا وتزوجا، وليست تلك قصة طريفة أو مشرفة وليست مدهشة أيضاً، ولكنها لحد ما مهمة ويصر الراوي علي حكيها: كان درويش أو هاينرش يعمل مُخَرِيَّاً لكلاب الأم شولز وهذا معروف لدي الجميع، وعندما تعقدت الحالة الصحية لدى الأم شولز وشارفت علي الموت، بالذات في اليوم الذي قال الطبيب لها فيه مباشرة وبوضوح تام، فلنذكر إنه قالها بالطريقة التي تفرضها عليه الأمانة الوظيفية والعلمية:
- استمتعي بما تبقت لك من شهور قليلة، وقد تحدث مُعجزة ولكن ليس دائماً، وهذا لا يعني أنها لا تحدث كثيراً، ما لدينا مؤشرات عامة، ولكن الله لديه التفاصيل والمعرفة الكاملة والمعجزة أيضا.
وربما إذا كانت تؤمن بالله، لأكرمها المولي بإحدي معجزاته المُدهشات، فتعيش مدة أطول بالتالي سيتأخر زواج هاينرش وابنتها كثيراً، ولكنها، طلبت من الطبيب أن يشرح لها أكثر لماذا عليها أن تموت، وأن يقنعها بذلك، وفعل، أما الله، فهي تخلت عن الإيمان به أكثر منذ ثلاثين عاما يوم أن قدمت طلباً للبلدية بالانسحاب من الكنيسة طالما كانت- ربما لسوء تقدير أو لجهل منها- لم تفرق ما بين الكنيسة والله. في ذلك اليوم بالذات، وبعدما غادرها الطبيب، قالت لهاينرش، الذي كان اسمه درويش في ذلك الوقت: أنا عندي بنت اسمها نورا.
قال لها درويش: نعم اعرف ذلك، يتحدث الناس عنها أحيانا.
قالت له بدون أن تبدو عليها الدهشة: ما كنت أستبعد ذلك، هي بنت غير بارة، وأنا كنت أيضا أما سيئة، لم أهتم بملحوظات ذات أهمية كبيرة كانت تبديها لي بين وقت وآخر إلى أن حدثت الكارثة، فقتل أبوها نفسه، فالحقيقة لا يدري أحد ما فعل بنفسه، كان يكبرني بعشر سنوات ولم يبد عليه الانحراف بصورة شاذة، وأظن على الرغم من تناقضه وما يظهر عليه خبل أحيانا، إلا أنه كان راجح العقل. متزنا بل أستطيع أن أقول كان متديناً أو علي الأقل مؤمنا بوصايا موسى العشر. ولكنه لم يستطع أن يتخلص من عقدة اشتراكه في الحرب إلى جانب هتلر. ولو أنه لا يحب أن يتحدث عن ذلك أبداً. وعندما يتحدث وذلك نادرا، كان يقول إن الأمر فرض عليه وكان شابا يافعا في ذلك الوقت. كما أنهم زيفوا له الحقائق والأهم ما كان لديه الخيار فإما أن يَقتل أو يُقتل. وهذان خياران وحيدان لكل من يجد نفسه في ميدان معركة به آلاف من الذين يحملون أسلحة ومستعدين للقتل أو الموت. علي كل حال لقد أثرت عليه الحرب كثيرا. وإلا كيف يجرؤ علي تلك الفِعلة الشنعاء غير الأخلاقية؟. لا أدري إذا ما استطعت أن أوصل لك فكرة عما كان عليه أبوها أم لا. إنه ملاك وشيطان في ذات الشخص. لقد صنعت منه الحرب مسخاً.
ما يهم في الأمر أنه لم يعد موجودا في مكان يعرفه الناس، ولا أظن أن له عنوانا. وفقا لنصيحة ورأي الراعي الاجتماعي تم إجهاض الجنين. كان ذلك أيضا خيارا راجحا وأخلاقيا. لم أرها منذ آخر مرة زرتها في المستشفى. ولكنني أتتبع أخبارها. فهي تعيش الآن بسالزبورج أو كانت تعيش هنالك حتى أشهر قليلة ماضية. علي الضفة الغربية من نهر سالساخSalzach . عند المدينة القديمة. تبيع رسوماتها للسياح عند الكبري، وتقيم مع بعض الأصدقاء في مبني شبه مهجور قُرب المستشفي القديم تحت صخرة جيرية ضخمة يديره المكتب الاجتماعي لمدينة سالزبورج. اسمها نورا وما زالت تحتفظ باسم عائلتي شولز، ولكنهم يدعونها نورا اشتادكند Stadtkind، معروفة في وسط أصحابها والشرطة بنورا اشتادكند. تركتُ لها بعضا من المال في وصيتي لدى المحامي، قد لا تقبل به ولكنها تحتاج إليه بشدة، يُقال إنها تستهلك ما تكسب بسرعة بالغة، قد تتعاطى المخدرات فهي شائعة بين المتشردين أو الذين يتبعون ذات الأسلوب في الحياة أقصد الحياة المنفلتة التي أصبحت أسلوب الكثيرين من جيل ما بعد الحرب. عندما أرحل عليك الاتصال بها. هي عنيفة بعض الشيء ولا تثق في أى شخص بسهولة. يصفونها بالعنيدة. ولكن قلبها طيب. لقد جنت الحياة عليها كثيراً. قلبها طيب يا ابني درويش. وهذا كل ما تبقي منها. وأظن أنه إذا كان القلب طيباً فلم يكن الخراب كبيراً. عندما أرحل. اتصل بها أرجوك ولكن ليس قبلما أرحل.
سألها سؤالا ساذجا. أو أحس بأنه كذلك:
- لماذا لم تتركيها تقيم معك؟
ردت ببساطة:
- لقد اختارت تلك الوضعية بنفسها، فهي تحملني كثيرا من اللوم لما حدث لها، ولكن والدها كان شخصا مبتليا بالمخدرات والخمور وذكرى الحرب المندسة في لا وعيه. وذلك أضر بعقله أيما ضرر. جعل منه مخلوقا أقرب للحيوان منه للإنسان وقد فقد وظيفته في الولاية، ثم اختفي، وأظن: قد قتله الندم في مكان ما. لقد كان ذا ضمير يقظ، وإلا لما أثرت فيه الحرب.
لعب بعقله حب الاستطلاع، يريد أن يري الفتاة، يريد أن يتعرف عليها ولو من بعيد، يريد أن يعرف كيف تعيش، التفاصيل التي قدمتها له أمها الآن. ربما لا يعرفها أحد أو قد يعرفها الناس جميعا إلا هو، كانوا يتحدثون عنها كعاقة، ليس إلا، أما أمها فتتحدث عنها كضحية، كضحية لها هي بالذات وأبيها. ربما إذا التقي بها سيعرف الحقيقة، إذا كانت هنالك حقيقة في الأصل، يريد أن يلتقي بها، أصبح الأمر مهما وضروريا بالنسبة له، قد لا يعي لماذا، ولكن من منطقة غامضة في دهاليز اللاوعي تشكلت رغبة عنيدة في أن يلتقي بها، ويتحدث معها. ولكنه لا يستطيع أن يغادر المدينة إلا لساعات، نسبة لارتباطه الوثيق بلوديا وكلابها، إلى جانب رعايته لكلبين آخرين لرجل ثري مريض زوجته كثيرة الأسفار فهي التي تقوم بالإشراف علي الأعمال التجارية التي تخصهما. كما أنه لا يستطيع أن يأخذ إجازة نهاية الأسبوع وهي الإجازة المتاحة للجميع بواسطة القانون. ما لم يحل محله شخص ما، فلم يعد ما يربطه بعمله الواجب الوظيفي ولكن الواجب الإنساني. فهو علي جانب رعاية الكلاب، كان يقوم بمساعدة لوديا وولوفقانج في أمور كثيرة منها التسوق وأحيانا كثيرة كان يصطحبهما في جولة حول الحديقة أو البحيرة وهما علي مقعدين متحركين. ولو أن كثيرا من المرضي يفضلون بيوت العجزة إلا أن البعض يريد أن يعيش حياته في البيت الذي يحب. ذات الجدران التي تحتفظ له بذكريات كثيرة مثيرة حتى لو كان بعضها حزينا. فالذكريات الحزينة أيضا عندما يمر عليها الزمن تفقد طابعها المؤلم وقد تصبح مجرد طُرفة وفي أسوأ الأحوال جزءا من ماضٍ تعلمت منه الكثير. وطالما لم يقتلك: كما يقول المهاتما غاندي، فقد جعلك أكثر قوة. نتيجة لتلك العلاقة الحميمة بين البيت الذي هو الحياة والشخص. فإن البعض لا يغادر منزله إلا للقبر: وكانا من ذلك النوع. قالت له يوما ما:
- تكفي المعاناة التي تكبدتها من أجل دفع أقساط هذه الشقة حتى تصبح ملكي، ذلك وحده يكفي لكي أتمسك بها للأبد، دعك من تلك الجراح العميقة.
لوديا سيدة معاقة ولكنها قوية جدا. تقضي معظم وقتها في القراءة. وهي أيضا ماهرة في الطباخة وهي علي كرسيها المتحرك، كانت تطبخ له ولها كل يوم وتبتكر في كثير من الأحايين وصفات جديدة تماما لم يصنعها شخص من قبل، وتصبح فخورة بها في الأيام التي يغادرها الحَزَنُ والخوف من الموت. ذلك القدر الذي تعمل جاهدة علي تجاهله منذ أن سقطت من قمة الصخرة في عيد ميلادها الخمسين. كان الموت هاجسها الأول بما يعني الحياة، أى تعلقها بالحياة يجعلها أكثر رهبة من الموت. فالموت يعني لها العدم ولا شيء غير ذلك. فالعلاقة بينهما كانت علاقة أسرية بمعني أو بآخر. وكانت تشعره بأنه ابن لها. أكثر مما هو مُخري لكلبيها. لذا فهو دائماً ما يشعر بأنه في بيته ولم يكن موضوع الإجازات مُلحاً والشيء الآخر هو أنه في انتظار قرار الاستئناف من مكتب اللجوء الذي قد يكون بالرفض ايضا، وهو القرار المُرجح. ولكنه سيستأنف وسيستأنف وسيستأنف إلى ما لا نهاية. فلقد دخل أوروبا وعليه ألا يخرج منها إلا وفي جيب سترته جواز وجنسية من إحدي الدول الأوربية المحترمة. فالحياة واحدة ويريد أن يعيشها كشخص مقدر ومحترم. يقصد كإنسان ليس من همومه لقمة العيش. وهذا الحق في بلاد يحكمها لصوصٌ متطرفون دينيا. لا يمكن أن يتحقق. وهو غير معني تماما بتحقيق تلك الشروط في بلده. وقال ذلك مرارا لأصحابه:
- ستدفع أوروبا ثمن احتلالها لبلداننا غالياً. وسنسترد ثمن قطن الجزيرة وصمغ كردفان وبطاطس جبل مرة. بل سيف المهدي الذي أهداه السيد عبد الرحمن المهدي لملكة بريطانيا- بالطبع ما كان درويش يعلم أن الحكومة البريطانية قد أعادت السيف للحكومة السودانية لأن الملكة لا تقبل الهدايا الشخصية، ولسخرية القدر اشترى السيفَ الرجلُ الذي صنعه بيديه وأهداه للإمام المهدي سابقاً- وقال إنه يسترد ذلك يورهات وسلاما ورعاية صحية واجتماعية، وعن طريق العمل والجهد، فهو مؤهل علي ذلك.
ولم يكن ندمان علي أنه لم يكذب علي المُحقق بالادعاء بأنه مثلي محروم من حقوقه في بلده، ولم يقل له أنه سياسي مطارد. ولم يقل له إنه محكوم عليه بالإعدام وإذا عاد سيقتلونه بوحشية. قال له الحقيقة مجردة: أنا أريد أن أعيش في بلد بها رفاهية وأجد عملا جيدا، ومستقبلا سعيدا لأبنائي عندما يكون لي أبناء. أنا أبحث عن وظيفة مربحة واستقرار. ليس إلا. وكان هذا هو الخطأ المُمُيت: فالمحققون يحبون الكذبات الكبيرة، يصدقونها دون أدلة إذا كانت مبتكرة. لذا أعطوه رفضا Negative.
وافقت لوديا علي أن يقضي يوما كاملا حيثما شاء، إذا وجد من يتمشي بالكلبين مرتين في اليوم، علي شريطة أن يبيت في المنزل وليس بعيدا، وكان هذا اتفاقا غير مكتوب منذ أن أقام معها في شقتها في 5 رامسايدن استراسا الطابق الأرضي، فأوكل مهمة رعاية الكلاب لصديق مهاجر مقابل أجر يوم كاملٍ.
لم تكن نورا متوحشة- بالطبع هذا انطباع أولي- كان شعرها المائل للحمرة تتخلله بعض الخصل الذهبية، كثيفا يغطي جانبا كبيرا من ظهرها ووجهها أيضا وهي تنحني علي الورق وترسم بدقة البنايات المقابلة للنهر من جهة القلعة الكبيرة الملصقة علي قمة جبل Monchsberg. كانت نورا سمينة بصورة ملحوظة، ليست سمينة جداً، ولكنه يستطيع أن يطلق عليها: سمينة فحسب. وكان حولها بعض السياح اليابانيين والكوريين بكاميراتهم التي هي جزء أصيل من شخصياتهم، وكأنما ولدوا بها. تجلس ليس ببعيد عنها فتاة في عمرها تقريبا، أى أواسط العشرينيات، ذات شعر أسود مصفف بذات الأسلوب وبشرة داكنة، نحيفة فارعة القوام، وتبدو مثل فتاة من الروماRoma . في منضدة أمامها تُوضع اللوحات المنجزة للقصور والطرقات والفنادق العريقة بالمدينة القديمة. وبعضها لوحات للنهر، وهي التي تقوم بالبيع للراغبين في الشراء، بالطبع يمكن الحصول علي صورة تذكارية مع صانعة اللوحات مجاناً كما هو مكتوب في لوحة صغيرة موضوعة علي المنضدة مكتوبة باللغة الإنجليزية، وعندما يرغب الزبون في ذلك تصيح الفتاة:
- نورا، ein Foto better.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق