السيدةُ لُوديا شُولز
توني كان وسيماً، لكن ليس "جداً" هذه ملاحظة أكدتها نورا زوجة هاينرش. يطلق شعر رأسه بصورة تجعله أشبه بالهيبيز في سبعينيات القرن الماضي. كان يرتدي قمصياً وبنطالاً أبيضين نظيفين. وتبدو بشرته المشربة بالحمرة عبر القميص واضحة. له عينان خضراوان ووجه شبه مُسْتَديِر. ذقنٌ شاحبةٌ قصيرةٌ ومقصوصة بعنايةٍ واهتمامْ. كان شكلهُ معقولاً بالصورة التي تجعله يبدو مُهذباً جداً ومحترماً وذكورياً بدرجة كبيرة، إذا استثنينا حلقة الذهب الصغيرة التي يضعها في حلمة أذنه اليُسرى. كان لطيفاً، ولكن لم يكن هاينرقش يراه كذلك، كان في نظره مجرد وحش جنسي مخبول. لم يفكر فيه بصورة إنسانية صديقة، ولو أنه بادله البسمات وأطلق بعض النكات الثقيلة في حضوره في الحقيقة هي بعض النكات المكرورة التي يعرفها أهل بيته وكل زملائه في العمل منذ سنوات، لم تتبدل ولم يزد عليها شيئاً، فقط قد يختار منها واحدة ويهمل البقية. ولكن توني بقي في مخيلته مجرد وحش بشري، ربما أحس الشاب بذلك، ولكنه أيضا كان يقود معركته بطريقته الخاصة، مندفعاً بحبه المتبادل مع السمراء الساحرة ميمي، أما نورا شولز كانت تحاول دائما أن تلطف الجو، ولو بجمل وحركات تبدو في الغالب الأعم شتراء وغير مترابطة، وهي أيضا تعتمد علي ما تسميه طيبة قلب الأب وما به من خير تجاه ابنته، ذلك الخير الذي يفشل درويش في التعبير عنه دائما بالطرق التي تعرفها نورا وابنتها، ويرجوها المجتمع المحيط. تمطي درويش، ثم تثاءب قبل أن يقرر: أنه يحس ببعض الصداع ويريد أن يذهب لحجرته. تنفست نورا الصُعداء، ارتبكت قليلاً، شيعته بنظرة حانية وهو يتدبر طريقه إلى حجرة النوم، حافي القدمين تاركاً خلفه نعال البيت البلاستيكي الخفيف، كأس العرق فارغا، كتاب عن المداواة بالأعشاب اشتراه في آخر زيارة له للقاهرة، قبل شهرين تقريباً.
بعدما احتسى ثلاثتهم نخب اليوم السعيد، من نبيذ أحمر، ادعت ميمي انهما سيشاهدان فيلما قصيرا في اللاب توب في حُجرتها، ومضيا. وضع رأسه علي المخدة، حاول أن ينوم.
البنت والأب
كانت ابنته تحتمي بظهر أمها التي استيقظت من النوم مزعورة، وقد تجمع بعض الجيران نتيجة لسماع الجلبة، وكان درويش يصر علي ذبح البنت الآن وهنا، وابن أخيه وبعض رجال الجيران يمسكون به، ولكن أمه العجوز عندما قدمت، حلت الإشكال باقتراح واضح، فالبنت نكرت أنها كانت خارج المنزل قالت إنها كانت في المرحاض عندما جاء والدها درويش لحجرتها لم يجدها لذلك السبب، أما درويش فيؤكد أنها كانت في زقاق الرجل الميت مع رجل ما وشاهدهم بعض المارة وهم متأكدون من أنها هي، فهمست أمه العجوز في أذنه بأن يعود ومعه الرجال إلى الديوان وهي سوف تقوم بحل الإشكال، كما أنها همست له في أذنه بالحل المقنع، فعاد أدراجه وهو يتحدث إلى نفسه أم إلى الآخرين ما كان يميز شيئاً.
كانت القابلة ومعها الأم العجوز وأم ابنته التي بدت له في تخيلاته في صورة نورا شولز. في الحجرة وعلي لحاف مفروش في الأرض ترقد ابنته وهي ترتجف، وبين دموعها تقسم للجميع بأنها بريئة. لكنهن أصررن علي رؤيته والتأكد بأنفسهن من أنه كما خاطته لها ذات القابلة قبل 15 عاماً.
قالت إنها لا تقبل بأن تدعهن يرينه مهما كلفها ذلك، ومهما كانت الأسباب.
قلن لها: إذا سيقتلك والدك درويش، سيذبحك كما تذبح الشاه. إذا لم يكن الليلة فغداً. وهو لن يقتنع إلا إذا تأكد من أنك بريئة، ولا يمكن إثبات براءتك إلا بهذه الطريقة.
ولكن كما يقولون الكثرة غلبت الشجاعة. فأمسكن بها بالقوة وفرقن مابين فخذيها. بعد أن قمن بتحرير اللباس الصغير. ومن ثم أخذت النسوة يتفرسن فيها. بل حاولت القابلة إدخال أصبعها الصغير. وهو المقياس الشعبي للعذرية. ولحسن حظ ابنته أن القابلة لم تستطع أن تولج أصبعها ذا الظفر الطويل القذر فيه.
قالت: عايزة قلم بك، هل يوجد قلم بك في هذا المنزل؟.
شرخ الزغاريد صمت الليل، مما أيقظ ما تبقي من بشر نيام بالقرية، وأفزع ديكا فأخذ يصيح ونهق حماران، وتدافعت عشرات الأقدام تسبح في الظلام نحو البيت الصغير الذي يشهد محنة من نوع خاص. أطْلِقت ابنته، تركنها تغرق في دموعها الحزينة. جاءته النسوة وأخبرنه بأن بنته عذراء ولم يمسسها إنس من قبل ولا جان: والله علي ذلك شهيد. وأن البنت التي تمت مشاهدتها في زقاق الرجل الميت قد تكون جنية في شكل ابنته. لأن الرجل كان غريباً عن القرية فإنهم لم يستبينوا ملامحه. فهو بالأحرى جنيٌ. كما أن ذلك الزقاق مَسْكون بالشياطين والأرواح التائهة الشريرة. وهو زقاق ملعون ويعرف ذلك كل من في القرية: مبروك يا دكتور دَرويش ابنتك شريفة.
في نفس الليلة أُحْضر المأذون وقام بعقد قرانها لابن خالها الذي قد أبدى إعجابه بها أكثر من مرة في أكثر من مناسبة ورغب في زواجها بصورة واضحة ولو أنه يكبرها بثلاثين عاماً، ولكنها رفضته في الماضي رغبة منها في اتمام دراستها. أصبحت الآن له زوجة ثانية. دون استشارتها. المقصود أنه لم يهتم أى كان بأخذ رأيها في هذه المرة، فعندما تكون هنالك جيفة كلب متعفنة، فإن القرويون يهتمون بالتخلص منها أكثر من التعرف علي هُوية من قتل الكلب، أو الكلب نفسه: وبذلك قَفَلَ ملف البنت.
انقلب علي جنبه الأيسر. جذب نفسا طويلاً من الهواء. كانت الأفكار تشتعل في رأسه مثل جحيم شاسع من الخيبات. استعرض كل حياته في شريط سينمائي موهوم. لم يصل إلى نتيجة تصور له حياته كسلسلة متواصلة من الفشل والخنوع بل الجُبن والخيبة. لأن خياله كان يقوده لنتائج في غالبيتها إيجابية. وهو يريد أن يغرق في الحَزَنِ إلى أذنيه. يريد أن يحس بتأنيب الضمير علي قبوله بالأمر الواقع. أن تفعل ابنته الحرام ويزني بها رجل غريب، أمام عينيه بل بمباركته هو شخصياً في الغرفة المجاورة لغرفته وعليه أن يبتسم. أليس ذلك ما يُسمي في الدين الإسلامي بالديوس وفي شارع بلاد أبيه يُعرف بالمُعَرَّصْ وابن الكَلبْ في موطن أمه!؟.
سمع صوت وقع قدمي زوجته وهي تتجول في غرفة المعيشة، ثم جاءته داخلة وفي فمها ابتسامة شاسعة: ما رأيك في تُوني؟. أعطاها ظهره. مخفياً وجهه عنها حتى لا ترى دموعه الغزيرة سائلة علي شفتيه المتورمتين من الغضب والحَزَنْ بجانب عينيه المحمرتين كجمرتين موقدتين من الجحيم مباشرة.
لأول مرة في حياته يحس بخطأ فصل بنته من حصص الدين الإسلامي، ربما اكتسبت تلك القيم التي تمنعها من الخلوة برجل حتى إذا كان المجتمع وأمها لا يريان مشكلة في ذلك، كثير من القيم الإسلامية تلائمه تماماً، نعم قد يصعب تطبيقها في المجتمعات الجديدة ولكنها تجد استحسانا عنده، وعارضها فيها كثير من الأحيان، لا يعني ذلك أنه يكفر بها، ولكن للظروف أحكام، والإنسان الحكيم هو الذي ينحني للعاصفة حتي تطوح به علي الأرض. نعم، كل ما يأخذه بيد يدفع مقابله بألف يد أخرى. أخذ يحس بالذنب وتأنيب الضمير، ولكن ذلك الإحساس بالذنب تراجع بسرعة، كصخرة أطلقت من قمة جبل، عندما تذكر السبب الذي أوقف به ابنته من الذهاب لحصص الدين الإسلامي ومقاطعة دروس المعلم الآسيوي، قال في سره: قد نكون الآن من ضمن الموتى، وقد تكون هي الآن في سجن مظلم في مكان ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق