الفضيحة
في هذا الفصل سنعود للجملة التي بدأنا بها الفصل الثاني: ( فقد تخلص من الكلبين اللذين ورثهما من المرحومة أم زوجته نورا، السيدة لُوديا شولز، عندما كان يعمل معها كمُخَرِي للكلاب Die Hunde shitter، أودعهما بعد وفاتها مباشرة ملجأ الحيوانات الأليفة التي لا كفيل لها.)
في هذا الفصل سيكمل لنا الراوي رحلة درويش إلى النمسا، ولكنه سيهتم لاحقاً بعلاقته بزوجته نورا شولز ابنة لوديا شولز العجوز التي عمل عندها، كما هو مذكور في المقطع أعلاه، وهي الآن تجلس قربه وقد احتسيا بعض العرق ينتظران حضور صديق بنتهما، توني.
درويش يسرح بخياله بعيدا في قريته مطاردا بفضيحة ابنته بالحسم وما يجب عليه فعله، أى أنه يدير معركته هنالك في ميدان القتال الذي يعرف شُعابه وطرائق كره وفره، ويمكنه أن ينتصر فيه بصورة نهائية وقاسية. لم يحس درويش أنه كان متناقضا في يوم ما، لأنه لم يختبر أفعاله في مقابل ما يؤمن به بدقة، فهكذا وجد المجتمع أمامه بمعاييره المتناقضة، التي من قوة تناقضاتها أصبحت في غاية التوازن: فهو يُقبَّل الفتاة، بل يرسل أصابعه إلى ما تحت تنورتها، ويعبث بعُشبِ حديقتها السرية، وتتسلل أنامله الداعرة إلى ما دون ذلك حيث بحيرتها الصغيرة الدافئة، ولا يشعر بأي عيب غير جنون اللذة الذي يسيطر علي وعيه وما بعد وعيه. لم يحس بأية فجيعة أخلاقية وهو يطلب منها أن تتعري وتدير ظهرها إليه وتسجد حانية رأسها تجاه أرضية الشاحنة المسرعة التي تنهب الأرض وتلتهم المسافات الطويلة نحو ما لا يدريان. عبر فتحة في الحاجز المعدني يلقمها الشيءَ. تماما كما تفعل بعض الخنازير الشبقة في القفص المجاور، وعندما أدرك ذروة نشوته أيضا لم يفكر كثيرا أو قليلا في مسألتي العيب والفضيحة. أو حتى ما يُطلق عليه الناس في بلاده الرجولة. صَرَخَ مِثل ضَبعٍ جريحٍ يقترب منه أسدٌ جائع. والرجلُ في أوطانه عندما يصرخ في تلك الفِعْلَةِ، يُشَبَّه بالْمَرَأةِ ولا تحترمَهُ النِسَاءُ، وهو يحبَ أن يَحْتَرِمْنَهُ.
عبر ذات الباب السري علي أرضية الشاحنة الذي دخلا منه من قبل في زرائب المواشي بضاحية أثينا. أنزلهما السائق عند مزرعة علي أطراف فيينا، في بيت كبير قديم لفلاح لا وجود له، وطلب منهما أن يستحما ويغيرا ملابسهما، أو يغسلان تلك الملوثة ببول الخنزير، ويبقيان هنالك ليومين آخرين. البيت به كل ما يحتاجا إليه. ثم يتوجها في اليوم الثالث عند الثامنة إلا ربعاً صباحا إلى محطة القطار ويستقلان القطار الذاهب إلى فيينا عند الثامنة ودقيقتين في الرصيف ثلاثة، والمحطة تقع علي بعد أمتار من موقعهما، عليهما أن يكونا في الزمان والمكان بدقة: القطار لا ينتظر أحداً.
هما الآن في أمان ولا خوف عليهما من شيء، ويستطيعان أن يقدما نفسيهما للشرطة ويطلبان حق اللجوء السياسي، ولكن كل واحد منهما علي حدة وفي مكان مختلف من المدينة، ولا ينسيان ماذا يقولان لإدارة الهجرة، وأن يأخذا الأمر بجدية، إنهما يستحقان ذلك الحق ولكن، ليس من السهل نيله، وعليهما أيضا أن ينسيا قصة شاحنة الخنازير، ويتحدثان عن رحلة بالبحر إلى إيطاليا ثم عبر شاحنة تحمل صناديق فاكهة أو أسلحة أو أية أشياء أخرى تخطر في بالهم أثناء التحقيق. لقنهما السائق قصة طريق البحر تلقينا جيداً وهما تقريبا حفظاها عن ظهر قلب، وضعاها جنبا لجنب في رفٍ من دولاب الذاكرة مع تلك القضية الوهمية التي سيعرضانها لإدارة الهجرة في الوقت المناسب. قدم إليهما مالا يكفي لإطعام كل فرد منهما كما قال لأسبوع كاملٍ: قد لا تحتاجان للمال: كُلما أسرعتما بإبلاغ الشَرطَةِ كان خيرا لكما، سوف تحصلان علي السكن والطعام والكساء أيضا مجانا. ثم اتصل بالوسيط وأعطي التلفون لكل واحد منهما وتبادلا معه كلمة السر، وبذلك سيقوم بتحويل المبلغ المحجوز للمهربين في اليونان، أى أن العملية انتهت: حمدا لله علي السلامة، مرحبا بكما في أوربا.
لم يلتزما بنصائح المهربين في التعرف علي بعضهما، فقد تبادلا أدق المعلومات عن حياتيهما في السابق، حدثها عن أسرته وإخوانه الاثنين غير الشقيقين العاطلين عن العمل علي الرغم من تخرجهما في الجامعات،عن أبيه السوداني عليه الرحمة وأمه المصرية، عن أحلامه وآماله وبنت تحبه تركها خلفه. وحدثته هي عن الحرب في بلدها والتطهير العرقي الذي يمارس علي قبيلتها، عن البدو القتلة، وعن حبيبها وأشياء أخري، ولكن الشيء الوحيد الذي لم تقله له، بل كذبت عليه فيه، عندما سألها وهما في الشاحنة: ماذا كنت تعملين في مصر؟
كانت قد حدثته عن أنها بقيت في المستشفي لخمسة أشهر بعد أن أخذ البدو كُليتها ورموا بها في شارع في مدينة العريش، وأنها أصيبت بالتهاب بالغ كاد أن يودي بحياتها نتيجة للظروف غير الصحية التي أجريت لها فيها عملية نزع الكُلية بالإضافة إلى الساعتين اللتين قضتهما بدون رعاية في العراء. ولكن طبيبا مصريا عجوزا اهتم بها كابنته وساعدها في أن تتخطي محنتها فقد قام بنقلها إلى مستشفي القصر العيني بالقاهرة حيث يعمل بصورة شبه دائمة، وهنالك تلقت رعاية طبية جيدة بتوصية منه وتحت بصره ولم تدخل في تفاصيل أدق أيضا فيما يخص المستشفي، ربما أنها لا تريد إعادة ذكري لحظات كانت فيها أقرب للموت، بل إذا كانت تؤمن بالموتى الذين يعودون للحياة لاعتبرت نفسها واحدة منهم، فهل هنالك شيء آخر غير فقد الأمل في الحياة وأن تظل تنتظر خروج روحك بين الفينة والأخري، تراقب نبض قلبك وهو يتلاشى تدريجياً يغوص عميقا في بئر من الصمت المريع، تُشل رئتاك وتشعر بالعالم يضيق ثم يضيق ثم يضيق إلى أن يصبح في حجم إصبعك، في حجم شعرة، في حجم ذرة من الليل. ثم تغيب عن الوعي بالأشياء. لقد مَرَّتْ بهذا كُله، بتجربة الموت والسقوط في هوة العدم. ظلت في حالة موت أو حياة لا تدري، ولكنها حالة عدم مؤكد، إلى أن استيقظت ذات صباح باكر، كان الضوء يغمر الغرفة كلها، يغمر روحها، أحست به في أحشائها، يجري مع دمها، كان كل شيء يستيقظ من سُبات لا تدري كم مضي من الوقت.أأشهرٌ أم شهرٌ ام جزءٌ ضئيلٌ من الثانية؟.
وحين أوان مغادرة المستشفي كانت لا تدري إلى أين تذهب، وليس لديها جُنَيَّه واحد في جيبها، لقد أخذ البدو من جيبها حتى العملات المعدنية الصغيرة جداً، وكل ما تمتلك من زينة وهي حلقة واحدة من الفِضة كانت في شكل دائرة صغيرة تعلق بأذنها اليسرى، وزنها خمس جرامات سعرها قد لا يبلغ ربع دولار أمريكي، هذه الحلقة الرخيصة تعني لها الكثير، كانت لأمها، في الحقيقة هي كل ما تملك أمها من زينة، أعطتها إليها من أجل أن تبقيها معها للأبد، ويعني ذلك الأبد أنها عندما تموت يجب أن تُدفن معها حتى تتعرف عليها أمها في الحياة الأخرى عندما تلتقيان في الجنة وسط زحمة من الأمم.
لا تعرف شخصا غير الطبيب الطيب الذي قام برعايتها، ولكنها قررت أيضا ألا تتصل به، يكفي ما قام به تجاهها، وأنه أنقذها من الموت، وأنها ستشق طريقها وحدها. فكرت كثيرا جدا في الخطوة اللاحقة. ثم سألت ممرضة القسم أن تصف لها أقرب كنيسة من مستشفي القصر العيني، لكن الممرضة قالت لها إن دكتور جمال عباس يريدها ويطلب منها أن تنتظره، وهو الآن بالمستشفي، وسيحضر حالاً. أما كل ما قصته له بعد ذلك كان ليس سوي كذبات ألفتها في حينها. مثلا قولها أنها تزوجت الطبيب المصري العجوز وأنها حصلت علي تمويل رحلتها إلى أوروبا منه بكامل رضاه، والأكذوبة المصاحبة لهذه القصة بالطبع، التي يستطيع كل قارئ مهما كان خياله ضعيفاً جداً ومُرهقاً من القراءة ويعاني مزاجه من عكرة سببها إشكالات أسرية شائكة، أو حمي ليلية مع حرقان في الحلق والروح والتبول، أو إمساك مزمن، أن يتنبأ بها وهي: أنها سَرقت مبلغاً كبيراً من المال من دكتور جمال عباس العجوز وركبت البحر بجواز سفر مزور إلى اليونان!.
كان بيت الفلاح كبيرا جدا، يتكون من طابقين أو أكثر، لم يهتما كثيرا بما فيه، ولو أنهما تجولا كثيرا في أنحائه حيث كل مرة يكتشفان غرفا جديدة لم يشاهدانها من قبل، كانت السمة العامة لكل شيء هي الإهمال الشديد والغبرة البيضاء المتراكمة علي الأشياء بداخل الغرف ورائحة الرطوبة وتعفن الأشياء البطيء، تخلصا من ملابسهما المتسخة الملوثة ببول ومخلفات الخنازير. لم يقوما بغسلها بل ألقيا بها في سلة أوساخ كبيرة مُهْملة في البلكونة، أخذا حماماً بماء بارد حيث لا يُوجد ماءٌ ساخنٌ، قاما بإعداد غرفة واحدة للنوم، حيث يستحيل إعداد غرفتين أو مفرشين فالأمر يحتاج ربما ليوم كامل وهما مرهقان، وجائعان وقلقان. قد يفعلان ذلك في الغد. كان اسمها ناديا صاوميل من رواندا، وهي من أقلية التوتسي التي ترزح تحت سيطرة أغلبية شريرة تُسمي الهوتو ذلك حسب تعبيرها باللغة وتفاصيل وجهها. أسرتها الآن تقيم بكيجالي العاصمة القومية. غادروا قريتهم إلى المدينة تجنبا للعداء المتواصل من جيرانهم الهوتو الذين يطمعون في أرضهم وحيواناتهم. الذين لا يترددون في قتلهم إذا لم يتركوا لهم كل شيء بسلام فأخذوا ما يسهل حمله وغادروا لحي فقير في أطراف العاصمة تاركين أرضهم وبيوتهم للهوتو. كذلك فعلت أغلبية التوتسي، كانوا يحسون أن شيئاً مؤلماً ما سيحدث لهم في هذه القُرى البعيدة عن نظر السُلطة المركزية حيث سيطرة العشائر والمجموعات القبلية. المركز أيضا يسيطر عليه ذات الهوتو ولكنه أهون حيث تُوجد بعض الرقابة الدولية. لقد حدثت عدة عدائيات في أزمنة مختلفة راح ضحيتها الكثيرون من بني جلدتها في القُرى والتجمعات السكنية النائية.
كان سرير الفلاح كبيراً ومتسعاً، ولو أنه كان بارداً جداً، وتفوح منه رائحة الرطوبة والقِدَم والإهمال، لم يتحدثا كثيراً، دخلا تحت الغطاء الثقيل، حضنا بعضهما وناما. لا يدري كم كانت الساعة، ولكن يبدو أن الصباح لم يحن بعد، حيث كانت الإضاءة التي تدخل من الخارج للغرفة هي ذاتها التي كانت عندما خلدا للنوم، بعض الفوانيس الكهربائية الشاحبة متناثرة حول المكان أو عند بوابات بعض البيوت، كان اللحاف قربه دافئاً، عندما زحفت أنامله تتلمس ما حوله. وفجأة انتبه إلى أن أنامله لم تحصل علي شيء، فنهض من السرير ودار بنظره في الغرفة لم يجدها، كانت أشياؤها مازالت متناثرة في الغرفة، ولا حظ أيضا أن شعاعا من الضوء يأتي من ناحية ما من المنزل الكبير، من الجزء الأسفل بالذات. حسنا تكون قد ذهبت لقضاء الحاجة في المرحاض الذي يوجد في الأسفل. قاما بتنظيفه بالأمس، ولكنه أيضا فضل أن يتبع الضوء نحوها. أخذ خطاه للأسفل، واستطاع أن يشاهدها بعد خطوات قليلة من خلال حِنية الدَرَجْ، تجلس في القاعة الواسعة علي الكنبة، كانت ترتدي ملابس نومها وهي عبارة عن جلباب من السلك قصير أبيض. تشع من البعد علي انعكاس الضوء عليها، أمامها تربيزة صغيرة من الخشب البُني، مرا عليها بالأمس. تدخن سيجارة. صاح بتحية. ردت إليه وأشارت بأن يأتي.عندما اقترب منها شم ذات الرائحة التي شمها من قبل في بيت المهربين في أثينا. أنه البنقو، سألها مستغرباً
- بنقو؟
قالت وفي فمها ابتسامة هادئة:
- نعم، يمكنك أن تقول ذلك ولكنها خليط من أعشاب نادرة، القُنُب الهندي هو الأساس. أحضرته معي من أثينا. يبيعه صلاح سعد الإريتري. أنه يبيع كل شيء. من مخدرات لنساء ومثليين ومثليات، لديه شبكة لا بأس بها. هل تدخن
قال لها دون تردد:
- لم أدخن البنقو من قبل، ولكنني كنت أدخن السجائر سنوات طويلة ولكنني تخليت عنها منذ سنة تقريبا.
جلس قربها علي الكنبة، كأنها قالت كل ما عندها، وقال هو كل ما عنده، كان يتجول بنظره حول المكان فجأة سألها:
- إذا أنت كنت معنا في بيت المهربين؟
قالت وهي تسحب نفسا طويلا:
- يمكنك أن تقول ذلك.
- إذا أنت التي حدثني عنها صلاح سعد؟
- ماذا قال؟
توقفت عن التدخين تاركة السيجارة بين إصبعيها وهي تحملق فيه منتظرة إجابة منه ولكنه تردد بعض الشيء ربما خاف من عواقب إجابته إذا أخبرها بالحقيقة وأيضاً ما كان يرغب في أن يكذب عليها، قال لها أخيرا:
- سأحدثك في وقت لاحق.
ضحكت بصوت عال، وهي تقول له:
- لا بأس أنا أعرف أنه اتفق معك علي عشر دولارات علي أساس أن ينالني هو وأنت؟ اليس كذلك.
ضحكت مرة أخرى وأضافت وهي تجر نفسا طويلا من السيجارة بينما يخرج الدخان من فمها مصحوبا بالكلمات
- إنه رجل أعمال صغير ناجح جدا، دائما ما يأخذ عمولة 30% يعني أن نصيبي سبع دولارات بمعني آخر أنه يأخذ عمولة حتى من الخمس دولارات التي تدفعها أنتلأجله؟ ثم ضحكت مرة أخرى وهي تمد إليه سيجارة البنقو، أضافت: أنه شخص ثري ولكنه كذاب ومخادع ودائما ما يدعي الفقر المدقع.
أخذها منها وتركها في يده، وطبق يفكر في أشياء كثيرة مختلفة، قالت له
- اجذب نفسا قصيرا جدا ثم نفسا آخر قصيرا جدا، ثم نفسا طويلاً، وستري العالم كما أراه الآن، مثل لُعْبَة صغيرة طيعة في كفك، تفعل به ما تشاء. أنا الآن أفعل بالعالم كله ما أشاء.
قال لها متشككا وهو ينظر للسيجارة تارة وتارة إليها، ينقل نظره بين الاثنين في سرعة بالغة.
- لا أستطيع.
قالت في تحد:
- بل تستطيع.
قال، وهو يمد إليها السيجارة.
- لا أستطيع............. صدقيني.
تجنبت يده الممدودة إليها بالسيجارة.
- أنا قلت إنك تستطيع، فأنت كنت تدخن من قبل السجائر، فلا فرق إلا في المحتوي فالعملية واحدة، اسحب نفسا الآن.
قالت الجملة الأخيرة بأسلوب آمر كما لو أنها قائد عسكري يصدر أوامر حاسمة ببدء المعركة والتقدم للأمام وقتل كل جنود العدو والتمثيل بجثثهم بكل قسوة، وإحضار رءوسهم إليه في غرفة القيادة بعد حلقها من الشعر: الآن.
جذب نفسا قصيرا جدا، ترك الدخان في فمه، قالت له وهي تقرب وجهها من وجهه
- ابتلعه، ابتلعه الآن.
بينما كان يخرج الدخان من فمه وأنفه، ألصقت فمها في فمه مستنشقة بقايا الدخان ثم عضته بمقدمة أسنانها في شفته العليا وهي تنفخ زفيرها عند وجهه. أخذت السيجارة من بين أصابعه في حركة رشيقة، جذبت نفساً طويلاً، قربت من وجه درويش أشارت إليه أن يفتح فمه، ألصقت شفتيها بشفتيه، كانتا كما هما دائما دافئتان. دفعت بحزمة كبيرة من الدخان في عمق حلقومه، وظلت ضاغطة علي شفتيه، وبكلتا يديها مُبقية رأسه ثابتة دون حراك. إلى أن أحس بالاختناق واحمرت عيناه وناضل بشدة، أخيرا استطاع بعد مقاومة عنيفة سحب رأسه من قبضة كفيها، وأخذ يكح وهو مبتعد عنها بقدر الإمكان ثم توقف عند المصعد وأخذ يحملق فيها بصورة مرعبة، كما لو كان ينظر لشيطان أو مخلوق من عالم خُلِقَ حديثا. أشارت إليه أن يأتي راجعاً، ولكنه مضي نحو الحمام، غسل وجهه بماء بارد، ثم مشي نحو أعلى الدَرَجِ حيث غرفة النوم، قالت له بصوت أجش:
- هذه هي كانت وظيفتي في مصر.
توقف قليلاً، وكأنه يريد أن يصطاد الكلمات من الهواء مرة أخرى، أضافت وهي تبتسم وتنظر إليه بغنج خبيث: ما رأيك؟
ضحكت وهي ما زالت تحملق فيه ، كأنها تريد أن تقرأ الإجابة من وجهه مباشرة
- لولا أنني أريد أن أتزوج رجلا أوربيا لما ترددت في الزواج منك. لقد اكتفيت من رجال العالم الثالث.
لم يتفوه بكلمة واحدة، مَرَّ كل شيء كما لو كان في الحلم. علي ما أعتقد أننا ذكرنا في مكان ما من الرواية أنها أجمل امرأة رآها في حياته أو هكذا ظَّنَ. إذا لم نذكر ذلك فقد ذكرناه هنا للتو، وربما ذكرنا أيضا أنها قالت له إن جمالها هو رأسمالها، وهو ثروتها ومشروعها في أوربا. وهل قالت له إنها واقعة في غرام الرجل المناسب؟
هاهي نادية تبدو الآن مثل ربة صغيرة خلقت نفسها كما تُريد، وها هي بكل وضوح وبجاحة تتصرف كما لو أن العالم لعُبة صغيرة طيعة تلعب بها ما شاءت، قد يكون ذلك بفعل البنقو أو حقيقة لا أحد يدري، بالأحرى هو لا يدري.
قالت بصوت عال:
- قلت لك تعال للحظة.
لم يتحرك من مكانه، كان ينظر إليها بتبلد، بدون أية معنى، نهضت، وضعت السيجارة علي المِطفأة، مشت نحوه، كان يقف مثل الصنم في ذات البقعة، طوقته بذراعيها، قالت له في أذنه:
- لا أريد أن أقتلك، فقط كنت أريدك أن تقبلني لا أكثر قبل أن تنام، ولكن لا بأس تصبح علي خير.
ثم أطلقته مضي وراءها نحو غرفة النوم. عندما استيقظ في الصباح الباكر كعادته في الاستيقاظ، كان يحس بصداع في الجهة اليُمني من رأسه، وعزا ذلك للبنقو الذي ألقمته إياه نادية قصباً، أما هي فكانت تقبع في نوم عميق قربه. معطية إياه ظهرها. شبه عارية في قميص نومها الأبيض السلكي الناعم. يبدو جسدها ناعما ولامعا مع ضوء الصباح. أنفاسها تهبط وتعلو بانتظام وهي في سلام تام وبراءة أشبه ببراءة الأطفال. قال لنفسه وهي ينظر إليها بغضبِ: يا لها من ذئبةٍ فاجرةٍ.
تخلص من الفراش في هدوء، حتي لا يوقظها، بينما كان يهبط من السرير، انقلبت هي للاتجاه الآخر، تمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة. مضي نحو الحمام وهو يضغط علي موضع الألم في رأسه بسبابته بشدة. استحم وكان يفكر في ليلة الأمس المُرعبة، وهو يلوم نفسه لأنه استسلم لها ببساطة، ولكنه أيضا طرد صوتا في نفسه يقول له إنه كان خائفا منها، كان خائفا من شيء ما. مضي نحو القاعة حيث مسرح أحداث الليلة الماضية، كان المكان مغبرا جداً، ولا أثر لشيء بل ولا حتى بقايا رائحة عالقة في الهواء، بل ليست هنالك آثار تدل علي أن إنسانا قد جلس في المكان، كانت التربيزة والكنبة مغبرتين، كما تركاهما بالأمس علي أمل أن ينظفاهما اليوم، ليست هنالك سوي آثار الأمس، هل كانت تجلس في قاعة أخرى، هذا البيت مليء بالأسرار ربما، وطفق يبحث في أرجاء المكان عن تلك القاعة، نزل بالدَرَجْ للأسفل، ليس سوي الصمت والظلام.
عندما عبرت القاعة الكبيرة نحو الحمام، أشارت إليه بتحية تتبعها ابتسامة كبيرة ساحرة، ثم دارت قليلاً ليسمع صرير فتح وإغلاق باب الحمام. كان قد قام بمسح الأثاث وأرضية القاعة جيداً من الغبرة. بدا المكان نظيفا. أعد بعض الإفطار السريع مما تركه لهم سائق العربة من أطعمة. أخذ يقرأ في مرجع الصيدلة، حتى يعيد الهدوء لنفسه ويطرد عنه التفكير في أمور أخرى غير مفيدة، ويضيَّع الزمن إلى أن تستيقظ نادية المريبة من نومها ويتحقق معها عما جري له بليلة الأمس. كان في الحقيقة عنده كتابان. هذا المرجع الكبير ومصحف قرآن صغير الحجم. هو لا يحبذ قراءة القرآن وهو في هذا الوضع المشبوه: نجسٌ وغير متوضئٍ ولم يقرب الصلاة منذ أن بدأ رحلته هذه. في صحبته الآن امرأةٌ وكان مشحونا مع الخنازير، وما زال مسطولاً من حشيشٍ تعاطاه بالأمس من شفتي سيدةٍ لعوبٍ ومستهترةْ!.
أحضرتْ كُوبا كبيرا مملوءا بالماء، وضعته أمامها، أخرجت من حقيبة صغيرة سوداء عُلبة سجائر، اخذت منها واحدة ووضعت العُلبة علي المنضدة البُنية الصغيرة، مشيرة إليه بما يعني بإمكانه أن يدخن إذا شاء، هزَّ رأسه علامة أنه لا يرغب. سألها وهو يضع الكتاب قربه علي الكنبة في المساحة التي تفصل بينهما، وهي بمثابة مقعد كامل.
- قلتِ لي ماذا كنت تعملين في مصر؟
قالت له بهدوء:
- لماذا أنت مهتم بهذا الموضوع؟
صمت قليلا، أمسك الكتاب بكلتا كفتيه، نظر فيه كمن يريد أن يقرأ شيئا ما، أو يبحث عن الإجابة ما بين سطوره، ولكن دون تركيز، قال لها:
- مجرد سؤال.
قالت، وهي تقترب منه، بابتسامة كبيرة فتبدو أسنانها البيضاء من بين دخان السجائر مثل سحابة محمولة في عاصفة ترابية. تغمره رائحة دخانها النفاذة، تلك الرائحة التي تميز السجائر رخيصة السعر.
- لقد قلتُ لك ذلك من قبل، هل نسيت بهذه السرعة؟.
فَضَّل ألا يخوض في هذا الموضوع مرة أخرى. اكتفي بأن أقنع نفسه بأنه كان يحلم بالأمس لا أكثر مجرد حلم ثقيل، أو ربما هو يحلم الآن والأمس كان الحقيقة والواقع، لقد اختلط عليه الأمر تماماً، وأحس أنه مرتبك، بل كان مرتبكا بالفعل، أو أنه يشعر بأن نادية تنظر إليه كما لو أنه مرتبكٌ، وإلا ماذا تعني هذه الابتسامة الساخرة التي في فمها بدون أية أسباب وجيهة، لا شيء يدعو للابتسام. حسنا، لا بأس سيترك الأمر كما هو، قد يمن الله عليه بالحقيقة في وقت ما.
هناك تعليق واحد:
تنظيف الستائر
شركة عزل خزانات بالرياض
شركة كشف تسربات المياه بمكة
شركة جلى بلاط بالرياض
إرسال تعليق