يبدو أنّ مصائرهما قد ارتبطت ببعضها البعض رباطاً لا فكاك منه، وليست هي
الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في
المرة الأولى بتخطيط من القدر، و عملت أياد نجسة- وسمياها فيما بعد
شيطانية- كثيرة في جعل ذلك اللقاء مؤلماً و نهائياً .
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساءً، عند نقطة تفتيش سُوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف البص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان و الزمان، ترجل السائقُ وفي معيته المضيف اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد وبالأخرى قلماً أزرق ماركة بك، يرتدي بدلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة، في ثوان معدودات شاهد كل الركاب، نظر الى القائمة، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من البص و يتبعونه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمةٍ واحدةٍ، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة،بصمت، في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمةً من الكانفاس غبشاءَ،تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفصٌ من الحديد به نوافذٌ صغيرةٌ للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحاً، بائساً و مثيراً للتشاؤم . وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه أنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدَوّامَات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما، لأنها كانت سريعة بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أُدخلا عدداً من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانِبها رائحة الورق و السجائر البرنجي مختلطة بزنق الجوارب المتعبة، قابلا رجالاً من العسكر و المدنيين لهم نفس الملامح و السحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا و تكراراً،وقيل لهما ذات الكلام مرارا و تكرارا وحُذِرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين و الذين أخطر منهم وهم (العسكرومدنيين)، طلب أبراهيم خضر، وهو الأصغر عمراً، كان شحيما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة وهي عادة ورثها جد عن جد، طلب منهم ان يتركونه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى و زيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، ان يوصلها الى الداخلية و يكمل اجراءات تسجيلها ويعود اليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته و قالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل. و اكد له (عسكرومدني) نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لا ارادياً، ان الحكومة سوف تعين لها من يسهل كلما يخصها، فقط عليه ان يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية وان يمضي الى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري تو تو كوه. الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى انه لم يزرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين عندما اقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن العجور نحو ما لا يعلمون من البلاد لكنهم جميعاً كانوا موقنين انهم يتوجهون الى ميدان معركة ما حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد ان قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوماً السابقة، وكانوا يعرفون انهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا اذا كانت في الجحيمِ مدينةٌ بهذا الإسم.
الشخص العادي و اقصد هنا الطبيعي، في رأي ابراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في ان يحب مدينة نيالا و يعشق الأستاذ محمود محمد طه،لا يوجد ربط بين الأثتبن غير انهما ينطبقان على الشخص الطبيعي،شيكيرى توتو كوة لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل ان يلتقي بابراهيم خضر الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معاً، ولا نظن ان ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوة شخص طبيعي شيئاً، ولكن والده تُوتو أخبره كثيراً عن مدينة نيالا، وحكى له عن اخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها،لأنه غريباً وكان دائماً ما يُوحي له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها تتوسط عُشبٍ كثيفٍ و ابقارٍ و أغنامٍ ترعى، و مطرٍ لا يتوقف. كان أسمُها خريفية تُور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر.لابد أنها قد أصبحت عجوزاً كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائياً من قبل ايد ما، للعمل ضمن وحدة الأستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أُدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين و عشرين مجنداً، وكان المجندون اما مشغولون بالهرب، لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا ان المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه،فإنه لا محالة مواجهاً للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، اما أنهم مشغولون بمحاولة الإتصال باحد زويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيُشاع أنّ من بين المجندين مُندسين يعملون لصالح السُلطة، ولا يُعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث أنهم يتخلفون،وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض ما يسمونهم الطابور الخامس و المربك في الأمر أنّ أي من المجندين عرضة لكي يُصنّفْ طابورا خامساً ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضاً بل لمجرد لون بشرته. لذا لم تتوطد علائقٌ لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شِكيري تُوتُو كُوة، وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين احدهم و اي انسان آخر. ونستطيع ان نقول الأيام الأولى لهما في شعبة الإستخبارات شهدت شُكوكا متبادلة بين الأثنين، و مشدات عنيفة كادت ان تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب ابراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف انساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيداً عن البيت لا يعني شيئاً غير العدم،والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يُدفع للحروب دفعاً،الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات و مطامع تخصهم،حتي إذا كانت ضد قبيلته و أسرته بل مسقط رأسه, مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاماً في ميدان معركة ولا يدري شيئاً عمن يَقتُل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف. ذلك الجنديُ الحزين. وكان ابراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين تُوجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني تُرابهم.
الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان اسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الأسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثة مئة ميلاً وتحديد الوقت اللازم للإعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة وهوايضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريباً من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة و الوقت المناسبين و أن يقبع في مسافة معقولة لكى يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أنّ القائد طلب من شيكيري تو تو كُوة أن يقوم بمراقبة ابراهيم خضر و أن يعد تقريراً عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
و لا يدري شيكيري توتو كوة هل كان الضابط جاداً ام انها هفوة كبيرة منه عندما أتبع اوامرة بلفظة قاسية و مربكة، حيث قال: راقب العبد .
و افتكر شيكيري تو تو كوة ان اللفظة اطلقت عليه هو، حيث انه استبعد تماما ان المقصود بها ابراهيم خضر ابراهيم، حيث ان ابرهيم لا يمكن ان ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة، فابراهيم له بشرة صفراء ناصعة و شعر ناعم و بيدو واضحا من شكله الخارجي انه من تلك المجموعات التي تُطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يُطلق عليه هذا اللفظ. لذا اعتبر شيكيري أنّ الملازم يعنيه و استعد لمشاجرة عنيفة، إلا ان الملازم شرح له الأمر، و أكد له انهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص أي ما وراء المظهر الخارجي، و قالوا له ان اسرة ابراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل أن جدته المباشرة لها اسيادها الذين لولا الأنجليز لكانوا مايزالون تحت القيد، و ان والد ابراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا انه ابن غير شرعي، لأن امه ما ملكت ايمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه، كما أكدوا له شخص حاقد على الآخرين و المجتمع، لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية و الجموهورية و غيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب ابراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيراً، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ و تخيل نفسه مملوكاً لسيد يمارس الجنس مع أمه؟. كان إبراهيم مشغولا بقراءة اشارات الجهاز الصوتية، يعتبر ابراهيم ان هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر، لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، و يتمنى في عمق ذاته ان يسطيع الطورا بورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الإنتصار على جيشه و سحقهم جميعاً بما فيهم هو نفسه، في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتوكوة اطلاقاً، اولاً لأن شيكيرى لا يتكلم كثيراً ولا يعبر عما في نفسه بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيراً عن اسرته و أهله و همومه اليومية، بل حتى حبيبته و أبعد من ذلك انه حكي له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فيه للضحك و الشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه او يرمز اليه ابراهيم بالأستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة كثيرٍ من المستهترين و الجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر اليه- وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه- عرفت انه على حق، و اننا جميعا ليسوا سِوى القتلة. فلم يعدمة القُضاةُ ونيمرى وحدهما، ولكنا أيضا الذين لم نبذل جهد المُقِل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً و انساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سُلطة مُطلقةً. أحسستُ في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحوّل تلك المِشْنَقَة إلى عرش عظيم ويُتوج نفسهَ ملكاً أسطورياً ونهائياً لهذا العالم، إذا أراد. ولكنه كان يُريدُ أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقتٍ يُمّكنُ جلاديه من أداء واجبهم التأريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرّم به السيّدُ المسيحُ بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يومياً عن كل ما يخطر بباله، ولكن شيكيرى، كان يبتسم يعلق بإختصار ولكنه لا يقول شيئاً خاصاً به أبداً.
ولكن لدى شيكري اليوم رغبةٌ كبيرةٌ في التحدث، يريد أن يقول شيئاً مهماً لأبراهيم، سيحكي له عن القائد و يخبرة عن التقرير و رأي القيادة فيه، بل لا يخفى عنه حكاية انه عبد لقوم مازالوا يمتلكونه طالما كان حياً وسوف يتوارثونه أباً عن جد، و أبعد من ذلك سيقول له انه نتاج معاشرة “ما ملكت ايمانكم”، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يُمكن، مما أدهش إبراهيم خضر، لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السُلطة،حدثه، شيكيري على انه منذ أن قُبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الإنتقام إما الهرب. كما يجب أن يَحس أيُ شخصٍ ذكي في مثل هذه الظروف، أَحسَّ إبراهيم خضر، و تأكدت له شُكوك قديمة، أنّ شيكيري يريد أن يقيس مائه، ويسبر أغواره، فإبتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه و أفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوة في نوايا إبراهيم خضر، وأحسَّ أنه لم يقدر الموقف جيداً،من ثَمَّ قرر أن يتراجع عن تصريحِهِ و لكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الإنتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين، فقد حان مَيعادُ استلام الوردية الثانية، الرملُ الباردُ: باردٌٌ. جسديهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغُة واحدة مشتركة تنموا رويداً رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيداً، بل كلما حاولا الإقتراب منها، ضَلا سُبل الإفهام، ولكنهما أصبحا الآن أكثر قُرباً، عندما أخبر شيكيري إبراهيهم بأنّ القائدُ طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقاريرٍ مفصلةٍ، ويعني ذلك فيما يعني ربما يُتوج إبراهيم قَريباً بِلقَبِ: البطلُ الشهيدْ.
طالما كان يسخر من هذا اللقبِ بمرارة ويكرهه.
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساءً، عند نقطة تفتيش سُوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف البص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان و الزمان، ترجل السائقُ وفي معيته المضيف اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد وبالأخرى قلماً أزرق ماركة بك، يرتدي بدلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة، في ثوان معدودات شاهد كل الركاب، نظر الى القائمة، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من البص و يتبعونه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمةٍ واحدةٍ، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة،بصمت، في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمةً من الكانفاس غبشاءَ،تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفصٌ من الحديد به نوافذٌ صغيرةٌ للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحاً، بائساً و مثيراً للتشاؤم . وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه أنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدَوّامَات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما، لأنها كانت سريعة بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أُدخلا عدداً من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانِبها رائحة الورق و السجائر البرنجي مختلطة بزنق الجوارب المتعبة، قابلا رجالاً من العسكر و المدنيين لهم نفس الملامح و السحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا و تكراراً،وقيل لهما ذات الكلام مرارا و تكرارا وحُذِرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين و الذين أخطر منهم وهم (العسكرومدنيين)، طلب أبراهيم خضر، وهو الأصغر عمراً، كان شحيما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة وهي عادة ورثها جد عن جد، طلب منهم ان يتركونه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى و زيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، ان يوصلها الى الداخلية و يكمل اجراءات تسجيلها ويعود اليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته و قالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل. و اكد له (عسكرومدني) نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لا ارادياً، ان الحكومة سوف تعين لها من يسهل كلما يخصها، فقط عليه ان يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية وان يمضي الى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري تو تو كوه. الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى انه لم يزرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين عندما اقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن العجور نحو ما لا يعلمون من البلاد لكنهم جميعاً كانوا موقنين انهم يتوجهون الى ميدان معركة ما حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد ان قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوماً السابقة، وكانوا يعرفون انهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا اذا كانت في الجحيمِ مدينةٌ بهذا الإسم.
الشخص العادي و اقصد هنا الطبيعي، في رأي ابراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في ان يحب مدينة نيالا و يعشق الأستاذ محمود محمد طه،لا يوجد ربط بين الأثتبن غير انهما ينطبقان على الشخص الطبيعي،شيكيرى توتو كوة لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل ان يلتقي بابراهيم خضر الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معاً، ولا نظن ان ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوة شخص طبيعي شيئاً، ولكن والده تُوتو أخبره كثيراً عن مدينة نيالا، وحكى له عن اخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها،لأنه غريباً وكان دائماً ما يُوحي له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها تتوسط عُشبٍ كثيفٍ و ابقارٍ و أغنامٍ ترعى، و مطرٍ لا يتوقف. كان أسمُها خريفية تُور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر.لابد أنها قد أصبحت عجوزاً كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائياً من قبل ايد ما، للعمل ضمن وحدة الأستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أُدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين و عشرين مجنداً، وكان المجندون اما مشغولون بالهرب، لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا ان المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه،فإنه لا محالة مواجهاً للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، اما أنهم مشغولون بمحاولة الإتصال باحد زويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيُشاع أنّ من بين المجندين مُندسين يعملون لصالح السُلطة، ولا يُعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث أنهم يتخلفون،وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض ما يسمونهم الطابور الخامس و المربك في الأمر أنّ أي من المجندين عرضة لكي يُصنّفْ طابورا خامساً ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضاً بل لمجرد لون بشرته. لذا لم تتوطد علائقٌ لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شِكيري تُوتُو كُوة، وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين احدهم و اي انسان آخر. ونستطيع ان نقول الأيام الأولى لهما في شعبة الإستخبارات شهدت شُكوكا متبادلة بين الأثنين، و مشدات عنيفة كادت ان تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب ابراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف انساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيداً عن البيت لا يعني شيئاً غير العدم،والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يُدفع للحروب دفعاً،الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات و مطامع تخصهم،حتي إذا كانت ضد قبيلته و أسرته بل مسقط رأسه, مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاماً في ميدان معركة ولا يدري شيئاً عمن يَقتُل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف. ذلك الجنديُ الحزين. وكان ابراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين تُوجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني تُرابهم.
الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان اسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الأسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثة مئة ميلاً وتحديد الوقت اللازم للإعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة وهوايضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريباً من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة و الوقت المناسبين و أن يقبع في مسافة معقولة لكى يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أنّ القائد طلب من شيكيري تو تو كُوة أن يقوم بمراقبة ابراهيم خضر و أن يعد تقريراً عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
و لا يدري شيكيري توتو كوة هل كان الضابط جاداً ام انها هفوة كبيرة منه عندما أتبع اوامرة بلفظة قاسية و مربكة، حيث قال: راقب العبد .
و افتكر شيكيري تو تو كوة ان اللفظة اطلقت عليه هو، حيث انه استبعد تماما ان المقصود بها ابراهيم خضر ابراهيم، حيث ان ابرهيم لا يمكن ان ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة، فابراهيم له بشرة صفراء ناصعة و شعر ناعم و بيدو واضحا من شكله الخارجي انه من تلك المجموعات التي تُطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يُطلق عليه هذا اللفظ. لذا اعتبر شيكيري أنّ الملازم يعنيه و استعد لمشاجرة عنيفة، إلا ان الملازم شرح له الأمر، و أكد له انهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص أي ما وراء المظهر الخارجي، و قالوا له ان اسرة ابراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل أن جدته المباشرة لها اسيادها الذين لولا الأنجليز لكانوا مايزالون تحت القيد، و ان والد ابراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا انه ابن غير شرعي، لأن امه ما ملكت ايمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه، كما أكدوا له شخص حاقد على الآخرين و المجتمع، لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية و الجموهورية و غيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب ابراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيراً، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ و تخيل نفسه مملوكاً لسيد يمارس الجنس مع أمه؟. كان إبراهيم مشغولا بقراءة اشارات الجهاز الصوتية، يعتبر ابراهيم ان هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر، لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، و يتمنى في عمق ذاته ان يسطيع الطورا بورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الإنتصار على جيشه و سحقهم جميعاً بما فيهم هو نفسه، في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتوكوة اطلاقاً، اولاً لأن شيكيرى لا يتكلم كثيراً ولا يعبر عما في نفسه بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيراً عن اسرته و أهله و همومه اليومية، بل حتى حبيبته و أبعد من ذلك انه حكي له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فيه للضحك و الشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه او يرمز اليه ابراهيم بالأستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة كثيرٍ من المستهترين و الجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر اليه- وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه- عرفت انه على حق، و اننا جميعا ليسوا سِوى القتلة. فلم يعدمة القُضاةُ ونيمرى وحدهما، ولكنا أيضا الذين لم نبذل جهد المُقِل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً و انساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سُلطة مُطلقةً. أحسستُ في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحوّل تلك المِشْنَقَة إلى عرش عظيم ويُتوج نفسهَ ملكاً أسطورياً ونهائياً لهذا العالم، إذا أراد. ولكنه كان يُريدُ أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقتٍ يُمّكنُ جلاديه من أداء واجبهم التأريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرّم به السيّدُ المسيحُ بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يومياً عن كل ما يخطر بباله، ولكن شيكيرى، كان يبتسم يعلق بإختصار ولكنه لا يقول شيئاً خاصاً به أبداً.
ولكن لدى شيكري اليوم رغبةٌ كبيرةٌ في التحدث، يريد أن يقول شيئاً مهماً لأبراهيم، سيحكي له عن القائد و يخبرة عن التقرير و رأي القيادة فيه، بل لا يخفى عنه حكاية انه عبد لقوم مازالوا يمتلكونه طالما كان حياً وسوف يتوارثونه أباً عن جد، و أبعد من ذلك سيقول له انه نتاج معاشرة “ما ملكت ايمانكم”، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يُمكن، مما أدهش إبراهيم خضر، لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السُلطة،حدثه، شيكيري على انه منذ أن قُبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الإنتقام إما الهرب. كما يجب أن يَحس أيُ شخصٍ ذكي في مثل هذه الظروف، أَحسَّ إبراهيم خضر، و تأكدت له شُكوك قديمة، أنّ شيكيري يريد أن يقيس مائه، ويسبر أغواره، فإبتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه و أفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوة في نوايا إبراهيم خضر، وأحسَّ أنه لم يقدر الموقف جيداً،من ثَمَّ قرر أن يتراجع عن تصريحِهِ و لكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الإنتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين، فقد حان مَيعادُ استلام الوردية الثانية، الرملُ الباردُ: باردٌٌ. جسديهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغُة واحدة مشتركة تنموا رويداً رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيداً، بل كلما حاولا الإقتراب منها، ضَلا سُبل الإفهام، ولكنهما أصبحا الآن أكثر قُرباً، عندما أخبر شيكيري إبراهيهم بأنّ القائدُ طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقاريرٍ مفصلةٍ، ويعني ذلك فيما يعني ربما يُتوج إبراهيم قَريباً بِلقَبِ: البطلُ الشهيدْ.
طالما كان يسخر من هذا اللقبِ بمرارة ويكرهه.
هناك 7 تعليقات:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟?
و هكذا ذهبوا .. ويذهبون..
هم أناس بسيطين حد البساطة.. قد لاتجد الحكومة لحياتهم معنى.. ولكن المعاني والدوافع الحياتية الإنسانية القدسية الروحية التي لديهم يمكن أن تكفي حكومات العالم لتعيش!!
تصوير فى غاية الروعة لواقع عانينا وما زلنا نعانى منه كثيرا... لك التحــــــية يا أستاذ عبد العزيز
شكرا يا استاذ انت ايضا رسول للانسانية ومثال لصحوة الضمير
شركة تنظيف واجهات حجر بالرياض
شركة كشف تسربات المياه بالرياض
شركة كشف تسربات المياه بالرياض
شركة مكافحة الفئران بالرياض
شركة رش مبيدات بالرياض
شركة مكافحة حشرات بالرياض
شركة مكافحة النمل الابيض بالرياض
شركة تنظيف خزانات بالرياض
شركة تنظيف شقق شرق الرياض
شركة تنظيف فلل شرق الرياض
شركة تنظيف مجالس شرق الرياض
شركة تنظيف موكيت بالرياض
شركة عزل اسطح بالرياض
شركة عزل خزانات بالرياض
شركة كشف تسربات المياه بالرياض
شركة تسليك مجاري شرق الرياض
شركة نقل اثاث شرق الرياض
https://soundcloud.com
شركة جلي بلاط بالرياض
aldekh
aldekh
aldekh
aldekh
aldekh
aldekh
aldekh
aldekh
شركة تخزين عفش بالرياض
شركة عزل خزانات بالرياض
شركة عزل خزانات بالرياض
شركة تنظيف واجهات زجاج بالرياض
شركة تنظيف الاثاث بالرياض
شركة جلي بلاط بالرياض
شركة تنظيف شقق بالرياض
aldekh
شركة نقل عفش بالرياض
شركة تنظيف موكيت بالرياض
شركة تنظيف مجالس بالرياض
شركة تنظيف مسابح بالرياض
شركات نقل العفش بالمدينة المنورة
اسعار شركات نقل العفش بجدة
افضل مؤسسة نقل عفش في جدة
سيارات نقل الاثاث في جدة
دينا نقل عفش بخميس مشيط
شكر عبد العزيز هي الحقيقه
إرسال تعليق