بدت الرواية العربيّة منذ انطلاقتها كأنها تنطلق بمسارٍ عكسيٍّ مع الشّعر. كان الشّعر، برغم انتكاساته، أكثر تطوراً، وتناغماً مع الزمن المتسارع. أما الرواية، فكانت تحنّ دوماً إلى انطلاقاتها الكلاسيكية التقليدية، بحيث تبدو متخلّفة بمراحل عن زمنها، وبالتأكيد أشدّ تخلّفاً بما لا يُقاس مقارنةً بمثيلاتها الآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية، وتبدو للمراقب كأنّها تراوح مكانها دون حراك. بل يمكن القول إنّها مضت أبعد بحيث تصلّبت في تقليديتها، شكلاً ومضموناً، لتعاقب أيّ محاولة للتجريب خارج الحدود المكرسة، بخاصة المرحلة التجريبيّة الثرية الممتدة من أواخر السبعينات حتى بداية التسعينات. تكرّست تلك النزعة لاعتبارات شتّى، ليس أقلها العودة إلى «التراث» ومحاولة تأصيل رواية عربية متمايزة عن مثيلاتها ومستندة إلى الأعراف الأدبية القديمة، ثم تضاعف الأمر مع ظهور الجوائز الروائية التي رسّخت شكلاً شبه موحّد للروايات «المطلوبة» والتي كانت أغلبها تقليدية تذكّرنا بالروايات التأسيسية في الأربعينات والخمسينات. نجت روايات قليلة من هذه القولبة، وتجرأت على كسر الطوق المفروض عليها على صعيدي النقد والقراءة لتحاول تكريس رواية «جديدة» تُقصي نفسها عن القوالب الروائية الجامدة التي اعتاد عليها القارئ بتواطؤ من النقّاد. يُشفَع لهذه المحاولات أخطاؤها حتى عند التصاقها بالنماذج الأوروبيّة المتباينة، مع أنّها بدت أحياناً محاولات لتوسّل الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو دغدغة مشاعر المستشرقين بحيث يردّون إليهم بضاعتهم لكن بروحٍ شرقيّة.
لا تخرج رواية السودانيّ عبد العزيز بركة ساكن «الرجل الخراب» (مؤسسة هنداوي- القاهرة) عن هذا التصنيف. تُعيد إلينا هذه الرواية ثيمة صراع شرق-غرب، التي كادت تصبح مكرورة. ولكنّ الكاتب الذي كان واعياً لهذه النقطة، حاول التنويع على شكل الرواية بحيث تخرج عن التصنيفات السائدة ليوغل في التجريب إلى حد غير مسبوق عربياً. ليس ثمة جديد في حبكة الرواية التي تروي قصة حسني درويش جلال الدين (أو هاينرش شولز) في محاولاته للتأقلم مع النمسا والعادات والأعراف الغربية. درويش هو شرقيّ آخر يُضاف إلى ركام الشرقيين التائهين في الغرب. ليس ثمة مهرب من الصدام بين عقليته التي لم تستطع السنوات الطويلة كسر «شرقيتها»، والعقلية الغربية التي نجدها منفتحةً متطورة حداثيّة كما في جميع الروايات الأخرى. سنتذكر مصطفى سعيد وهجرته إلى الشمال؛ الفارق أنّ صراع مصطفى مع «الحضارة الغربيّة» والتهويمات الجنسية، تحوّل إلى صراع هويّاتي داخلي بين درويش وهاينرش؛ بين وعيٍ يحاول أن يصبح غربياً ولاوعيٍ يأبى التخلّي عن شرقيّته؛ بين تطبّع غربي وطبع شرقي. جميع التفاصيل الأخرى نافلة، بحيث تبدو مجرّد تنويع آخر على إيقاع قديم. ليس لهذا الصراع نهاية إلا بموت أحد الطرفين. وهذا الطرف هو الأضعف دوماً: الشرق.
ما يميّز رواية «الرجل الخراب» ليس الحبكة إذاً، بل أسلوب المعالجة الكتابية. اللغة، السرد، الشكل الروائي، رسم الشخصيات. والأهم، إخراج الراوي وتكريسه كاتباً آخر. تبدو الرواية كلاسيكيّة السرد للوهلة الأولى، لكنّ ساكناً يغيّر مواصفات هذه الكلاسيكية بحيث تستحيل تجريباً مفرطاً. تبدأ الرواية بكاتب لا يدّعي ابتعاده عن موضوع روايته، بل يقول بصراحة إنه يحكي قصة. ثم يفاجئنا الكاتب بتقديم الراوي ككاتبٍ ثانٍ أحياناً، وكشخصيّة أخرى أحياناً، بحيث نقضي شطراً جيداً من الرواية ونحن تائهون في صراعٍ آخر بين الكاتب والراوي. لم يكتف الكاتب بهذا، بل جعل الشخصيات كاملة الحريّة في رسم مصائرها، وسمح لها حتى في تحديد نهاية الحكاية/ الرواية. قبول هذا القدر من التجريب أو رفضه مرتبط بذائقة القراء المتباينة بالضرورة. لكن، ألا يبدو ترك الشخصيات لتقرر مصيرها ضرباً من المكر؟ ما الذي يبقى من دور الكاتب إذاً لو طرح لنا خيارات عدة على عدد الشخصيات بحيث يتحدّد مصير الشخصيّة، بل العمل بأكمله، على هواها؟ ألن يصبح الأمر ذريعةً بحيث يتمّ تعليق مصير إخفاق الرواية على الشخصيّات أو الراوي، لا على الكاتب؟ وفي الوقت ذاته، ألن يُعدّ نجاح الرواية من نصيب الراوي لا الكاتب، بخاصة مع إصرار الكاتب على مخاطبة قارئ أجنبي مُفترّض عبر ترجمة جميع المفردات التي يرى أنّ من سيترجم روايته قد يتعثّر بها؟ وأخيراً، ألن يصبح التجريب المفرط، لو تكرّر، بمثابة نموذج لا يلبث أن يصبح تقليدياً هو الآخر؟
جميع هذه الأسئلة مشروعة، ومفتوحة على إجابات متعددة ومختلفة باختلاف ذائقة المتلقّي. ولكنّها لا تعني أبداً بأنّ «الرجل الخراب» ليست متميّزة بقدر كبير؛ الرواية صغيرة الحجم بحيث تكون أقرب إلى نوفيلا برغم عدد الشخصيات الكبير بالمقارنة، وتطرح قضيّة لا تزال إشكاليّة، وتطرح شكلاً جديداً في الرواية العربيّة. جميع هذه الميزات تجعلها فريدة ضمن طوفان الروايات الضخمة التي تكاد تكون متماثلة؛ ومحاولة الخروج من جحيم التماثل يمكن اعتبارها فضيلة بحدّ ذاتها.