عظمة السلام
قصة: رماد الماء
وأنا أقرأ في قصيدة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، وهي معلقته التي مطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم
والتي يذكر فيها بشاعة الحرب ودمويتها وما تورثه من ضغائن وأحقاد ومرارات وقتل ودمار وعدوات انسانية وشعور بالكراهية الأبدية، ثم يدعو للسلم وتجنب الحرب والعيش في سلام ومحبة وأخاء، حيث يقول:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضو إذا ضريتموها فتضرم
فتعركم عرك الرحا بثقالها وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم
هذه هي صورة الحرب من قديم الزمان وحياة البشرية نجد فيها الظلم والمآسي والموت والتشرد وانتهاك الحرمات والخراب والدمار، ولا أحد يحب الحرب ولا يريدها، ولكنها تفرض نفسها في بعض الأحيان لأسباب قد تكون مقنعة في بعض الأحيان، وغير مقنعة في أكثر الأحيان خاصة إن صاحبها الظلم والاعتداء والغرض وحب الذات والاعتداد بالقوة والنفس والجنس.
وذلك ما صوره الروائي الرائع الذي استوطن مكانته وتربع عليها في قوة واعتداد: عبد العزيز بركة ساكن.. الأديب الروائي في رائعته التي كتب لها عنوان «رماد الماء».. والتي وصف فيها بشاعة الحرب وما تدفع إليه من خراب ودمار وفناء وموت للإنسان وللأحياء وللحياة الإنسانية والطبيعة بكل مكوناتها وخصائصها وتصوراتها وتناقضاتها..
السلم هو جثة الحرب:
لا شئ لا شئ
لا شئ غير هياكل الأشجار والمحترقة..
أشجار الحبحب، المهوقني، المانجو، والتك العملاقة..
لا شئ غير هياكل من الفحم والرماد..
إنها الحرب والموت التي تدمر كل شئ ولا تبقى على حياة ولا حركة ولا أمل فإذا كان زهير بن أبي سلمى صوّر بشاعة الحرب ودمارها وقتلها للحياة مباشرة ونصاً، فإن الروائي الرائع عبد العزيز بركة ساكن لم يصور بشاعتها وتدميرها للحياة مباشرة، بل عمد إلى الكلمة المعبرة والوصف المعبر عن الموت والقتل والدمار والبشاعة، بكل ما تحمل هذه الكلمات من تصوير مرعب وبشع يجعل الأبدان تقشعر منه، عبر عن ذلك في لغة مباشرة تعطي المعنى المراد قوياً ومعبراً وتعطي مردوداً قوياً ورائعاً منفراً من الحرب ومحبباً إلى السلم والسلام والعيش الهنئ في ظل سلام أبدي ينعم بالرخاء والمحبة والسلام، وينعم بالتنمية والرخاء والود والنماء والعمران للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، ويؤسس لمجتمع قوي ومتماسك ويؤسس إلى شعب واحد متوحد تعمه الحياة الاجتماعية الكريمة وتعمه نعمة النماء والرخاء والمحبة والود والسلام، ويسعى نحو التقدم والتحضر والرقي، مما يجعل له حياة كريمة وعزيزة يسودها الترابط والتكاتف والعيش الهنئ وبلوغ مصاف الأمم الراقية المتحضرة المتقدمة في عزة ومحبة وترابط أبدي، ليس فيه تفرقة ولا تمييز ولا تهميش ولا نبذ ولا فرقة..
عشرة أعوم على التوالي، الأرض سوداء.. ليس نتيجة خصوبة أو أن الله خلق لها طيناً في بشرة الإنسان، لكن لأنها محترقة، أيضاً: تتناثر عليها بين مكان لآخر شظايا المقذوفات المدفعية: الهاون، الراجمات، الدوشكا، م.د، فوارغ فوارغ فوارغ، جثث الآلات العسكرية الثقيلة، إطاراتها، هياكلها، خوذات العسكر، البنادق المهشمة، الألغام الفاسدة وهي طفل غير شرعي لألغام لئيمة صامدة تنتظر تحت الأرض، تسبح بحمد الله عسى الله ان يرزقها عثرة..
.. هياكل عظمية، هياكل عظمية يا حبيبتي، هياكل عظمية، قطط مشوية، قردة مشوية، صقور مشوية، أرانب مشوية، أسد، كلب، قط، ولد ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة، أشجار مشوية أحذية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام، أحذية تدوس على أزرار دبابات هالكة، أحذية عسكرية يا حبيبتي، عسكر أموات، أموات، مقابر جماعية، هاونات معطوبة، جندي محترق نصفه الأعلى، نسفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، سحليتان، خوذ حديدية بداخلها رؤوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن، نمل شديد السواد، منكمش على نفسه، الأرض سوداء تدل علي وجود القرية، الأواني الفخارية التي دائماً ما يحملها البشر البائدون مهمة أن تعلن عنهم في الزمن القادم، زمن ليس بزمانهم، يدل عليها الأطفال المقليين المشويين، المتناثرين بين هنا وهناك، تدل عليها بقايا كهوف، تدل عليها قرب الماء المشوية، تدل عليها الأغنام، الأبقار المشوية، تدل عليها الدجاجات، وهي ريش الآن منثور، يدل عليها طفل على صدر أمه، هيكلان عظميان يتحاضنان تحت شبح شجرة، ويتساقط الرماد منها عليهما..
سلاماً سلاماً كلما عبت بها الريح لم تمت، هل تموت الريح؟ إنها الحرب وبشاعة الحرب والقتل والدمار والموت الذي يقضي على كل شئ، إنه شئ بغيض لا يحتمله إنسان بل قد يغرق منه موتاً.. مناظر آثار الحرب مرعبة وقاتلة ومحزنة وشديدة الأسى.. ولكن الإنسان أي إنسان هذا؟ ذلك الذي لا ينظر إلى هذا الخراب والدمار والبشاعة التي تتخلق عن الحرب والقتل خاصة بأسلحة الدمار الحديثة الفتاكة المهلكة.. في تلك اللحظات ينسى الإنسان كل ذلك ولا يتذكره ولا ينظر إليه ولا يستوعبه إلا بعد فوات الأوان واستحالة الرجوع والانفكاك منه..
إنها صورة بشعة صورها هذا الروائي الرائع عبد العزيز بركة ساكن، بقدرة تعبيرية رائعة وموحية قلما تجد مثلها في وصف بشاعة الحرب ونتائجها ومخلفاتها المحزنة للإنسانية وللمجتمع الانساني..
أراد عبد العزيز بركة ساكن ان يقول: هذه هي الحرب بصورتها تلك وبشاعتها ونتائجها المحزنة القاتلة التي تقضي على كل الحياة الانسانية هو لم يقل ذلك مباشرة بل بالوصف لآثار تلك الحرب البشعة وذلك الحدث البشع المدمر.. وقد تناول وصف ذلك وصوره بكل ما يملك من قوة الكلمات والتعابير ومضامين اللغة وحيثياتها ومفهوماتها ومدلولاتها، وما تشير إليه وترمي وتوحي.. إنه التعبير بعبارات تجسم المأساة وتوضح مكنوناتها وتوضح جوانبها وتظهر تفاعلاتها كأنما هي شريط سينمائي يُشاهد ويُرى.. ويُحس،، ويُمس.. تستوعبه النفس ببشاعته وترفضه وتتمنى السلام والأمن.. والأمان وحياة الأطمئنان..
الحرب مكروهة ومنفرة وبغيضة ولا أحد يريدها، ولكنها قدر الإنسان لتحقيق أطماعه وتحقيق رغباته وغاياته وتحسين ظروف معيشته وأحواله وتبديل حياته إلى الأحسن والأفضل.. ولكن عاقبتها وخيمة ومرعبة وثمنها غالٍ وباهظ.. ولكنها رغبة الإنسان ومحاولة تحقيقها في لحظة غفلة وستر عقل وبعد عن التفكير الصحيح في التفاوض وعرض الأمر بوضوح، ومناقشته في تعقل ورغبة في حل المشاكل الناجمة عن الظلم والقهر والتسلط والتهميش وعدم الاهتمام بالوجود الانساني في المجتمع المعاش، والقضاء علي تطلعاته ورغباته في العيش الكريم في ظل تنمية دائمة وأمن، ولا يتم ذلك بالقطهر والظلم والشدة والبطش وهضم الحقوق الإنسانية التي جعلها الله للإنسان أن يحيا بها في مجتمع كريم فاضل آمن، ويعيش بها في رغد وأمن وسلام..
إنها الحرب التي تقضي على كل ذلك لأنها عندما تندفع وتثور وتتحقق وتشتعل، فمن الصعب التحكم فيها وفي نتائجها وما تؤول إليه من دمار وخراب، وموت وقتل، وقضاء على الحياة والأحياء.. كما صور ذلك الروائي والأديب الرائع عبد العزيز بركة ساكن في لغة يختص بها في قصصه ورواياته كما إبراهيم إسحق في أع ماله القصصية والروائية خاصة روايته «حدث في القرية» التي كتبها بلغة ولهجة غرب السودان في دارفور، خاصة منطقة الفاشر وما حولها..
فاللغة هي الوعاء المعبر بوضوح وجلاء عن الأديب أو المبدع، وتميزه عن غيره من المبدعين على نطاق الوطن العربي.. كما الأديب والقاص الرائع المبدع عيسى الحلو.. وغيره من كتاب القصة والرواية المسرحية، التي تحمل في بصماتها شخصية ذلك الانسان المبدع بكل ما تحمل من سمات ومضامين وحيثيات وعبارات، ومنهج قصصي وروائي وإبداع في ذلك يتغير ويتكون من مبدع إلى مبدع، ومن قاص إلى قاص، ومن روائي إلي روائي، ويتجلى ذلك بوضوح لدى مبدعين كثر في هذا المجال منذ الأزل إلى يومنا هذا.. وفي ذلك نشير إلى ا سلوب وتناول المبدع الرائع والمشهور والذائع الصيت «الطيب صالح» في كل أعماله وما تميز به من أسلوب مبدع اختص به وعرف وتفرد..
لذلك فإن «عبد العزيز بركة ساكن» له تميزه الخاص به في اللغة والسرد والتناول القصصي المبدع في تصوير الحقائق من كل جوانبها، وإظهار ما فيها من مقومات إبداعية يختص بها ويتفرد.. وهذه من سمات الإبداع الرائع المتفرد الذي يحمل في طياته حقيقة الوجود والتكوين والتفرد عند كل.. إنها سمات إبداعية تستوعبها اللغة بكل ما تحمل من كلمات أو عبارات أو نصوص أو حيثيات ومضامين، تتفرد بكل دون غير، ولهذا فإنه يعرف بها ويتميز دون الغير.. كما الجاحظ في زمانه.. وكما المقفع وكما بديع الزمان الهمزاني.. إنها سمات لغوية متفردة تحتضن الحدث من كل جوانبه وتبرز مكوناته، وتجسم مدلولاتها، وتشخص حالاته، وتوضح جوانبه وتحتويه.. وبذلك يكون رد الفعل قوياً ومدركاً، وقوياً ومعبراً بكل ما تحمل هذه العبارات من معانٍ.
.. كانت الريح تدور في المكان تصر صريراً مرعباً، برماد الأشياء، تعبث برماد الأشياء، تعمي أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة أعينها السرية جداً، لا أثر للحياة في الأرض، لا إنسان!! لا حيوان!! لكنك يا حبيبتي إذا تطلعت إلى السماء بعينيك الحلوتين لرأيت من وقت لآخر اسراباً من النسور الصلعاء تدور في حلقات، فاردة أجنحتها، تحملها تيارات الهواء حيثما شاءت، هناك أيضاً أسراب الطيور المهاجرة تعبر المكان متجهة نحو الجنوب أو الشرق، نحو الغرب إنها لا تهبط إطلاقاً: أما في الليل، الليل يا حبيبتي زهرة تعشقينها دائماً، الليل يا حبيبتي قنديل الليل نعاس لذيذ وقبلة، أما في الليل بعد أن يختفي آخر شعاع خصه الله بالشمس، و هو خير الخاصين عندها يا حبيبتي..
قصة: رماد الماء
وأنا أقرأ في قصيدة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، وهي معلقته التي مطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم
والتي يذكر فيها بشاعة الحرب ودمويتها وما تورثه من ضغائن وأحقاد ومرارات وقتل ودمار وعدوات انسانية وشعور بالكراهية الأبدية، ثم يدعو للسلم وتجنب الحرب والعيش في سلام ومحبة وأخاء، حيث يقول:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضو إذا ضريتموها فتضرم
فتعركم عرك الرحا بثقالها وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم
هذه هي صورة الحرب من قديم الزمان وحياة البشرية نجد فيها الظلم والمآسي والموت والتشرد وانتهاك الحرمات والخراب والدمار، ولا أحد يحب الحرب ولا يريدها، ولكنها تفرض نفسها في بعض الأحيان لأسباب قد تكون مقنعة في بعض الأحيان، وغير مقنعة في أكثر الأحيان خاصة إن صاحبها الظلم والاعتداء والغرض وحب الذات والاعتداد بالقوة والنفس والجنس.
وذلك ما صوره الروائي الرائع الذي استوطن مكانته وتربع عليها في قوة واعتداد: عبد العزيز بركة ساكن.. الأديب الروائي في رائعته التي كتب لها عنوان «رماد الماء».. والتي وصف فيها بشاعة الحرب وما تدفع إليه من خراب ودمار وفناء وموت للإنسان وللأحياء وللحياة الإنسانية والطبيعة بكل مكوناتها وخصائصها وتصوراتها وتناقضاتها..
السلم هو جثة الحرب:
لا شئ لا شئ
لا شئ غير هياكل الأشجار والمحترقة..
أشجار الحبحب، المهوقني، المانجو، والتك العملاقة..
لا شئ غير هياكل من الفحم والرماد..
إنها الحرب والموت التي تدمر كل شئ ولا تبقى على حياة ولا حركة ولا أمل فإذا كان زهير بن أبي سلمى صوّر بشاعة الحرب ودمارها وقتلها للحياة مباشرة ونصاً، فإن الروائي الرائع عبد العزيز بركة ساكن لم يصور بشاعتها وتدميرها للحياة مباشرة، بل عمد إلى الكلمة المعبرة والوصف المعبر عن الموت والقتل والدمار والبشاعة، بكل ما تحمل هذه الكلمات من تصوير مرعب وبشع يجعل الأبدان تقشعر منه، عبر عن ذلك في لغة مباشرة تعطي المعنى المراد قوياً ومعبراً وتعطي مردوداً قوياً ورائعاً منفراً من الحرب ومحبباً إلى السلم والسلام والعيش الهنئ في ظل سلام أبدي ينعم بالرخاء والمحبة والسلام، وينعم بالتنمية والرخاء والود والنماء والعمران للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، ويؤسس لمجتمع قوي ومتماسك ويؤسس إلى شعب واحد متوحد تعمه الحياة الاجتماعية الكريمة وتعمه نعمة النماء والرخاء والمحبة والود والسلام، ويسعى نحو التقدم والتحضر والرقي، مما يجعل له حياة كريمة وعزيزة يسودها الترابط والتكاتف والعيش الهنئ وبلوغ مصاف الأمم الراقية المتحضرة المتقدمة في عزة ومحبة وترابط أبدي، ليس فيه تفرقة ولا تمييز ولا تهميش ولا نبذ ولا فرقة..
عشرة أعوم على التوالي، الأرض سوداء.. ليس نتيجة خصوبة أو أن الله خلق لها طيناً في بشرة الإنسان، لكن لأنها محترقة، أيضاً: تتناثر عليها بين مكان لآخر شظايا المقذوفات المدفعية: الهاون، الراجمات، الدوشكا، م.د، فوارغ فوارغ فوارغ، جثث الآلات العسكرية الثقيلة، إطاراتها، هياكلها، خوذات العسكر، البنادق المهشمة، الألغام الفاسدة وهي طفل غير شرعي لألغام لئيمة صامدة تنتظر تحت الأرض، تسبح بحمد الله عسى الله ان يرزقها عثرة..
.. هياكل عظمية، هياكل عظمية يا حبيبتي، هياكل عظمية، قطط مشوية، قردة مشوية، صقور مشوية، أرانب مشوية، أسد، كلب، قط، ولد ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة، أشجار مشوية أحذية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام، أحذية تدوس على أزرار دبابات هالكة، أحذية عسكرية يا حبيبتي، عسكر أموات، أموات، مقابر جماعية، هاونات معطوبة، جندي محترق نصفه الأعلى، نسفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، سحليتان، خوذ حديدية بداخلها رؤوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن، نمل شديد السواد، منكمش على نفسه، الأرض سوداء تدل علي وجود القرية، الأواني الفخارية التي دائماً ما يحملها البشر البائدون مهمة أن تعلن عنهم في الزمن القادم، زمن ليس بزمانهم، يدل عليها الأطفال المقليين المشويين، المتناثرين بين هنا وهناك، تدل عليها بقايا كهوف، تدل عليها قرب الماء المشوية، تدل عليها الأغنام، الأبقار المشوية، تدل عليها الدجاجات، وهي ريش الآن منثور، يدل عليها طفل على صدر أمه، هيكلان عظميان يتحاضنان تحت شبح شجرة، ويتساقط الرماد منها عليهما..
سلاماً سلاماً كلما عبت بها الريح لم تمت، هل تموت الريح؟ إنها الحرب وبشاعة الحرب والقتل والدمار والموت الذي يقضي على كل شئ، إنه شئ بغيض لا يحتمله إنسان بل قد يغرق منه موتاً.. مناظر آثار الحرب مرعبة وقاتلة ومحزنة وشديدة الأسى.. ولكن الإنسان أي إنسان هذا؟ ذلك الذي لا ينظر إلى هذا الخراب والدمار والبشاعة التي تتخلق عن الحرب والقتل خاصة بأسلحة الدمار الحديثة الفتاكة المهلكة.. في تلك اللحظات ينسى الإنسان كل ذلك ولا يتذكره ولا ينظر إليه ولا يستوعبه إلا بعد فوات الأوان واستحالة الرجوع والانفكاك منه..
إنها صورة بشعة صورها هذا الروائي الرائع عبد العزيز بركة ساكن، بقدرة تعبيرية رائعة وموحية قلما تجد مثلها في وصف بشاعة الحرب ونتائجها ومخلفاتها المحزنة للإنسانية وللمجتمع الانساني..
أراد عبد العزيز بركة ساكن ان يقول: هذه هي الحرب بصورتها تلك وبشاعتها ونتائجها المحزنة القاتلة التي تقضي على كل الحياة الانسانية هو لم يقل ذلك مباشرة بل بالوصف لآثار تلك الحرب البشعة وذلك الحدث البشع المدمر.. وقد تناول وصف ذلك وصوره بكل ما يملك من قوة الكلمات والتعابير ومضامين اللغة وحيثياتها ومفهوماتها ومدلولاتها، وما تشير إليه وترمي وتوحي.. إنه التعبير بعبارات تجسم المأساة وتوضح مكنوناتها وتوضح جوانبها وتظهر تفاعلاتها كأنما هي شريط سينمائي يُشاهد ويُرى.. ويُحس،، ويُمس.. تستوعبه النفس ببشاعته وترفضه وتتمنى السلام والأمن.. والأمان وحياة الأطمئنان..
الحرب مكروهة ومنفرة وبغيضة ولا أحد يريدها، ولكنها قدر الإنسان لتحقيق أطماعه وتحقيق رغباته وغاياته وتحسين ظروف معيشته وأحواله وتبديل حياته إلى الأحسن والأفضل.. ولكن عاقبتها وخيمة ومرعبة وثمنها غالٍ وباهظ.. ولكنها رغبة الإنسان ومحاولة تحقيقها في لحظة غفلة وستر عقل وبعد عن التفكير الصحيح في التفاوض وعرض الأمر بوضوح، ومناقشته في تعقل ورغبة في حل المشاكل الناجمة عن الظلم والقهر والتسلط والتهميش وعدم الاهتمام بالوجود الانساني في المجتمع المعاش، والقضاء علي تطلعاته ورغباته في العيش الكريم في ظل تنمية دائمة وأمن، ولا يتم ذلك بالقطهر والظلم والشدة والبطش وهضم الحقوق الإنسانية التي جعلها الله للإنسان أن يحيا بها في مجتمع كريم فاضل آمن، ويعيش بها في رغد وأمن وسلام..
إنها الحرب التي تقضي على كل ذلك لأنها عندما تندفع وتثور وتتحقق وتشتعل، فمن الصعب التحكم فيها وفي نتائجها وما تؤول إليه من دمار وخراب، وموت وقتل، وقضاء على الحياة والأحياء.. كما صور ذلك الروائي والأديب الرائع عبد العزيز بركة ساكن في لغة يختص بها في قصصه ورواياته كما إبراهيم إسحق في أع ماله القصصية والروائية خاصة روايته «حدث في القرية» التي كتبها بلغة ولهجة غرب السودان في دارفور، خاصة منطقة الفاشر وما حولها..
فاللغة هي الوعاء المعبر بوضوح وجلاء عن الأديب أو المبدع، وتميزه عن غيره من المبدعين على نطاق الوطن العربي.. كما الأديب والقاص الرائع المبدع عيسى الحلو.. وغيره من كتاب القصة والرواية المسرحية، التي تحمل في بصماتها شخصية ذلك الانسان المبدع بكل ما تحمل من سمات ومضامين وحيثيات وعبارات، ومنهج قصصي وروائي وإبداع في ذلك يتغير ويتكون من مبدع إلى مبدع، ومن قاص إلى قاص، ومن روائي إلي روائي، ويتجلى ذلك بوضوح لدى مبدعين كثر في هذا المجال منذ الأزل إلى يومنا هذا.. وفي ذلك نشير إلى ا سلوب وتناول المبدع الرائع والمشهور والذائع الصيت «الطيب صالح» في كل أعماله وما تميز به من أسلوب مبدع اختص به وعرف وتفرد..
لذلك فإن «عبد العزيز بركة ساكن» له تميزه الخاص به في اللغة والسرد والتناول القصصي المبدع في تصوير الحقائق من كل جوانبها، وإظهار ما فيها من مقومات إبداعية يختص بها ويتفرد.. وهذه من سمات الإبداع الرائع المتفرد الذي يحمل في طياته حقيقة الوجود والتكوين والتفرد عند كل.. إنها سمات إبداعية تستوعبها اللغة بكل ما تحمل من كلمات أو عبارات أو نصوص أو حيثيات ومضامين، تتفرد بكل دون غير، ولهذا فإنه يعرف بها ويتميز دون الغير.. كما الجاحظ في زمانه.. وكما المقفع وكما بديع الزمان الهمزاني.. إنها سمات لغوية متفردة تحتضن الحدث من كل جوانبه وتبرز مكوناته، وتجسم مدلولاتها، وتشخص حالاته، وتوضح جوانبه وتحتويه.. وبذلك يكون رد الفعل قوياً ومدركاً، وقوياً ومعبراً بكل ما تحمل هذه العبارات من معانٍ.
.. كانت الريح تدور في المكان تصر صريراً مرعباً، برماد الأشياء، تعبث برماد الأشياء، تعمي أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة أعينها السرية جداً، لا أثر للحياة في الأرض، لا إنسان!! لا حيوان!! لكنك يا حبيبتي إذا تطلعت إلى السماء بعينيك الحلوتين لرأيت من وقت لآخر اسراباً من النسور الصلعاء تدور في حلقات، فاردة أجنحتها، تحملها تيارات الهواء حيثما شاءت، هناك أيضاً أسراب الطيور المهاجرة تعبر المكان متجهة نحو الجنوب أو الشرق، نحو الغرب إنها لا تهبط إطلاقاً: أما في الليل، الليل يا حبيبتي زهرة تعشقينها دائماً، الليل يا حبيبتي قنديل الليل نعاس لذيذ وقبلة، أما في الليل بعد أن يختفي آخر شعاع خصه الله بالشمس، و هو خير الخاصين عندها يا حبيبتي..