ناس البيت حرقوا كتبك!
ضيف على الرزنامة: عبد العزيز بركة ساكن
الإثنين
على من سمع أن يكلم الذي، بعد، ما سمع: إذا طلب منك الأستاذ كمال الجزولي أن تحلَّ ضيفاً على رزنامته، فاحذر أن تقبل ذلك! قل له إنك مشغول، قل له إنك ستقضي الأسابيع القادمة طريح الفراش لعلة ستلمُّ بك، قل له إن الأزمة الإقتصادية العالمية أصابتك بإحباط قد يطول، قل له أي شئ .. أي شئ، فالمهم ألا تتورط وتقبل دعوته! أما إذا قبلت فأول ما يمكنك أن تفكر فيه هو الفشل، ثم إذا كنت شخصاً متفائلاً، ستغمرك خيبة مليئة بالنشوة، نشوة أن تكون ضيفاً على الرزنامة. ولكاتب مثلي له تجربة محدودة في الكتابة، مقارنة بالعمالقة الذين استضيفوا قبلي، فإن الرزنامة شرف مُفخخ!
ثمة أشكال وأنماط كثيرة للكتابة، وطرق يبتكرها المبدعون يومياً، قد تدفعهم إليها الموضوعات الجديدة التي لم يسعها وعاء معروف بعد، وقد تدفعهم متطلبات العصر الحديث بكل ما يتسم به من سرعة الإيقاع والانفجار المعرفي، أو قد يكون الدافع مجرد الاستجابة لإغواء الرغبة في التجريب. وقد ظلت طرائق كتابة ولغة وموضوعات الرزنامة وانتقالاتها أموراً تبعث على الدهشة لسهولة توصيلها لأفكار كثيرة، شديدة العمق، بسردية ممتعة، وسلاسة مطربة، جعلتها تتبوأ منزلة في غاية الطرافة بين منزلتي الصحافة والأدب، وأظن أن ذلك هو مكمن سحرها. فإذا أضفت إليه ما تمتاز به من خبرة كاتبه وضيوفه، لتبين لك شيئاً من سر عشق الناس لفنها الراقي.
على كل ها أنذا قد تورطت وقبلت الدعوة، وسأحاول أن استعين بروح الرزنامة، وما توفر لدي من خبرة في الرواية والقصة القصيرة والتجول في أزقة السيرة الذاتية، سائلاً المولى عز وجلَّ أن أكون ضيفاً خفيف الظل عليكم وعليها.
الثلاثاء
جاء إلي خشم القربة، منقولاً، ذات مساء، كضابط مسئول عن الأمن فيها، رجل لم يكن أحد يعرفه من قبل، أو حتى سمع به، ولذا لم يكن أحد ينتظره. كان وسيماً، نحيفاً، متوسط الطول، ذا بشرة قمحية، كثير التهذيب، يحترم الكبير والصغير، لا يقاطع حديث أحد، ولا يتحدث إلا بعد أن يستمع جيداً. أما مأثرته الحقيقية فهي أنه استطاع، منذ الأسبوع الأول لقدومه، أن يغيِّر كل ما كان يفهمه الناس، منذ الإستقلال وحتى يومهم ذاك، عن مثل وظيفته تلك!
الحكاية وما فيها أن أحد اللاجئين تصادف واعتقِل، قبل يومين من مجئ هذا الضابط، وأسيئت معاملته أيما إساءة، بل إن من اعتقله فجَرَ فجوراً شديداً في إذلاله وإهانة كرامته بما أمسى حديث المجالس في خشم القربة، حتى أنه، وإمعانا في ذلك، أعمل موساه في شعر رأسه حتى سطعت الفروة بلمعان يخطف الأبصار تحت وهج الشمس! وفي الحقيقة لم تكن المدينة ترى في ذلك أية غرابة، حيث أن جلدها كان، على كل، قد اندبغ، قبل ذلك، بعنف أشد، وقسوة أغلظ، وضرب ما ذاق مثله أبو محجن الثقفي في زمانه! لكن الغريب حقاً، وما أدهش أهل المدينة فعلاً، كان تصرُّف ذلك الضابط عندما أحضر أمامه المعتقل المكلوم، الحزين، حليق الرأس، كي ينقضَّ عليه، كما جرت العادة، بالضربة القاضية! فبدلاً من أن يسأله ولو عن الجرم الذي اقترفه، راح يسأله، وهو يتفحَّص بقايا الدم المتخثر حديثاً على صلعته اللامعة:
ـ "الحَلق ليك كدا منو"؟!
تردَّد اللاجئ قليلاً، فألح عليه:
ـ "إتكلم .. ما تخاف"!
فتمتم اللاجئ بصوت راعش، وهو يشير بإصبع مرتجف إلى من اعتقله:
ـ "حلقني الزول دا"!
ـ "بي موس وللا قزازة"؟!
ـ "موس"!
ـ " بي موية وللا ناشف"؟!
ـ "ناشف"!
إلتفت الضابط إلى عسكريِّه:
ـ "إنت عملت في الزُّول دا كدا"؟!
حار العسكري جواباً، واكتفى بأن قطب حاجبيه، وزمَّ شفتيه، ورفع عينيه المرتبكتين إلى سقف المكتب. مرَّت لحظة من الصمت الثقيل قفز الحدث الدرامي بعدها إلى مداه الأقصى الذي ما طاف مثله، من قبل، بعقل بشر في تلك النواحي، حيث نهض الضابط بهدوء، وأمر عسكريَّه بأن يجلس على الأرض، ثم أخرج موساً سنينة من أحد أدراج المنضدة، وأعطاها للاجئ، قائلاً له بهدوء، لكن بصوت كأنه خارج، للتو، من بطن أحجية قديمة:
ـ "أحلق ليهو زي ما حلق ليك"!
ما لبثت تلك الحادثة الخرافية أن تناقلتها الألسن، فانتشرت في طول المدينة وعرضها انتشار النار في الهشيم! لكن، مع مرور الأيام، بدأ الأهالي يعتادون على عمايل هذا الضابط الموغلة في (غرابتها)، قياساً إلى ما كان قد قرَّ في وعيهم من تنميط لصورة هذا النوع من المسئولين! فعلى سبيل المثال فوجئ الناس به، ذات صباح، يقوم بتنظيف وغسل مراحيض مستشفى المدينة وعنابرها المهملة بنفسه! وما كادوا يرون ذلك منه حتى شمروا عن سواعدهم، وانخرطوا يشاركونه العمل؛ وما كاد هو يرى ذلك منهم حتى سارع إلى تكوين (جمعية أصدقاء المستشفى) تحت إشرافه، وما تزال تمارس نشاطها هناك. ثم إنه وفر، بمجهوده الخاص، محوِّلاً كهربائياً لهذه المستشفى بعد أن كانت تسبح في بحر من الظلمات كلما حلَّ المساء! وعموماً لم يشهد عهده أي عنف يذكر، فقد كان رجل (جودية) يحل أكثر المشاكل تعقيدا بالمصالحات والترضيات، كالصراع على المعتمدية، والذي كاد ينتهي بمعركة لا تبقي ولا تذر بين مختلف القبائل! وكذلك المشاكل التي لا يندر أن تنشب بين تلاميذ الحضر وتلاميذ الريف! وإلى ذلك حوادث السرقات البسيطة، والنزاعات حول الميادين العامة، وغيرها.
باختصار أصبح طلحة السماني، خلال السنوات الخمس التي قضاها في خشم القربة، نموذجاً للمسئول الذي يعتبره الجميع واحداً منهم، شقيقاً، أو إبن خالة، أو صديقاً، أو جاراً، أو حتى .. فردة! ونعُمت المدينة في عهده بأمان حقيقي!
لكنه، فجأة، كما جاء مضى!
الأربعاء
سألني، ظهر اليوم، شاب ملتح متحمس، وهو يلف عنقه بشال فلسطيني، أن أساهم في مشروع مليون وجبة لأطفال غزة. فحزنت حزناً عميقا، وأحسست بالعالم ينهار تحت قدمي، أولاً لأنني كنت مُفلسا تماماً، وثانياً لأن ما كان يقض مضجعي، وقتها، هو العجز التام عن جمع ثمن وجبة واحدة لأطفال يتضورون جوعاً في معسكرات النزوح في دارفور، أو ينبشون صناديق الزبالة، في أزقة السُوق العربي بالخرطوم، بحثاً عن بقايا سندوتش!
لم أبُح لذلك الشاب بشئ من همومي تلك، لكنني، أيضاً، لم أستطع، وأنا أعتذر له بضيق ذات اليد، أن أمنع، في نفس اللحظة، خاطراً مؤلماً آخر من أن يشغل كل تفكيري كقاص وروائي وكاتب. فقد تذكرت، فجأة، أن مجموعة من الأندية والتنظيمات والجماعات الثقافية في السودان كانت قد أعلنت، في وقت سابق، وبحماس منقطع النظير، عن تضامنها مع غزة وأهلها.
ما من شك في أن ذلك كان عملاً إنسانياً عظيماً بحكم أن الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل ضد ذلك الشعب، في تلك البقعة التي يملكها من الأرض، كانت مرعبة بحق. لكن نفسي ساءلتني، في ذات الوقت، بصورة محيرة: لِمَ لمْ يتضامن مثقفونا قط مع المكلومين في وطننا، أو يتفاعلوا مع عذاباتهم ولو بنسبة ضئيلة مما أبدوا من حماس بشأن غزة؟! نعم، تساءلت وفي البال مجازر أبيي، وفي البال قضية السدود، وفي البال ضحايا أمري والمناصير، وفي البال أطفال الشوارع الجوعى الغرباء في بلدهم، وفي البال قتلى دارفور الذين هم، حتى بحساب العشرة آلاف، أكثر من كل قتلى العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني من نكبة 1948م إلي غزة مؤخراً! لِمَ لَمْ يتبرع مثقفونا ولو بقطرة دم واحدة من أجل آلاف النساء اللائي يمتن في المستشفيات الريفية بفقر الدم؟! لِمَ لَمْ يتبرعوا ولو بوجبة واحدة من أجل شماشة المدن المساكين؟! ترى يا ربي ما السبب في ذلك؟!
الخميس
ذات رحلة من رحلاتي المتكررة إلى أرض البطانة، غرب القضارف، زرت قرية صغيرة اسمها (الكراديس)، مبنية من القطاطي الكبيرة المتسعة على ربوة حجرية عالية، حيث استضافني شاب باحث أصبح فيما بعد من أعز أصدقائي، هو الأستاذ ميرغني الطاهر. وعادة أهل البطانة أن يغدقوا عليك من سخائهم طعاماً وشراباً، ثم يطربوك، في المساءات، من إنشادهم العذب لشعر المسادير والدوبيت.
وهكذا أخذ الشباب ينشدونني أشكالاً وألواناً من هذا الفن لشعراء مختلفين. لكن لفت انتباهي بخاصة شاعر ذو خصوصية في الأوزان والصور غير المعتادة، فسألت عنه بالذات، فقالوا لي إنه المدني الكردوسي، واختلفوا في تاريخ ميلاده، وسيرته الذاتية، بل حتى في شعره، رغم أنهم كانوا حفظة وأذكياء ومتحمسين مثلهم مثل كل شيء في البطانة! منذ ذلك اليوم بدأ اهتمامنا، ميرغني الطاهر وشخصي، بتحقيق شعر المدني عبد الله الكردوسي البوادري. لكننا كلما تعمقنا فيه، كلما جهلناه أكثر!
ولد صاحبنا في تلك القرية عام 1909م، وتوفي بمدينة القضارف في 1937م، وقبره قائم إلى الآن بسوق القوني وعليه تربيزة خضار! وخلال هذا العمر القصير جداً أنشأ ما لا حصر له من المسادير، كمسدار الصيد، ومسدار الأيام، ومسدار الغرام. أما أوزانه الشعرية، ونظام التقفية عنده، فشديد الشبه بالموشحات الأندلسية. ومن عجيب إنشاده، ليس في مستوى شعر البطانة فحسب، بل وعموم الشعر السوداني، قصيدته "ليلي ليلْ يا شتل ليلْ" التي لم أجد مثيلاً لها إلا في سبعينات القرن الماضي، ضمن ما أنشأ الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم من مواويل معروفة! وقد اعتاد الكردوسي أن يرتجل القصيدة في شكل مربوعات في الحفلات، فيرددها خلفه كورس من أصحابه، مثل: "الكلام بالبَمْبَقاية/ والحديث بالإنتِكاية/ يموت فِلان راجل هِناية/ يعيش فِلان يعشق هِناية/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"! أو مثل: "قادِر حكيماً وضَّحِنْ/ جَبَد البراطِم ورضَّخِنْ/ حكَّر وجيهاتِن وشلخِنْ/ في جُوفي عاملات مطبخِنْ/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"! أو مثل: "سِتَّ الجَّمال الهولهنْ/ إزداد علي بهدولهنْ/ مِتقايسات في طولهنْ/ والجنني حجولهنْ/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"!
ويشيع في تلك النواحي أن للكردوسي جاناً كان يلهمه الشعر! ويتداول الناس هنالك أن شيئاً من هذا قد تأكد في حادثة موته ذاته. ففي ذلك اليوم، وقبل وفاة الكردوسي بساعات، كان القوم مشغولين، كعادتهم، في أراضيهم الزراعية، وكان ثمة خبراء إنجليز يشرحون لهم نظام الحريق، وكان سعيد عبد الفضيل، صَديق الكردوسي، يعمل، هو الآخر، في أرضه، عندما جاءه رجل أبيض، كما الخواجات تماماً، لكنه عار كما ولدته أمه، بظهر محدودب، وشعر رأس غزير، ولحية بيضاء، وحاجبين كثيفين يكادان يحجبان عينيه، حتى أنه كان يضطر لإزاحتهما بأصابعه المعقوفة كي يتمكن من الرؤية!
جثا هذا الرجل على ركبتيه أمام سعيد، وقال له، بعد أن غرس أظافره الطويلة في التربة الطينية السوداء:
ـ "البركة فيكم .. المدني مات"!
وذلك قبل أن يقدم إليه نفسه باعتباره جان الشاعر الكردوسي، عارضاً أن يمده بالشعر بعد رحيله. لكن سعيداً خاف ورفض. لم ييأس الجان، ومضى يحاول أن يوسوس له ويغويه، فسأله ما إن كان ثمة من استطاع أن يجاري مربوعة شاعر البطانة ود عم شبيش: "رابعة ربيعة بى سلحات غراما مَتوَّكْ/ خِلقة طريَّة قبَّال الحَمَار تِسَّوَّك/ الخلاهُ معشوق ناس فِلانة اتبوَّكْ/ حِليت نمَّتِن بعدَ النَّجم ادوَّكْ"! فأجاب سعيد بالنفي. فما كان من الجان إلا أن قال له مجارياً: "رابعة ربيعة بى سلحات غراما مهرَّدْ/ خِلقة طريَّة قبَّال الحَمَار تِتبرَّدْ/ الخلاهُ معشوق ناس فِلانة اتعرَّضْ/ حِليت نمَّتِن بعدَ النِّهار ما بَرَّدْ"!
رغم ذلك رفض سعيد عرض الجان!
والكردوسي شاعر مدينة، وقد أورد في شعره كثيراً من المفردات الحديثة، مثل (مطبخ، كبري، لوري، شنبر، مدرعات). وأفادني المرحوم عون الشريف قاسم بأن الكردوسي كان عالم فلك. كما لاحظ الباحث والشاعر ميرغني ديشاب أنه استخدم أوزاناً شعرية غريبة على شعراء البطانة الذين التزموا (بحر الرجز) في الغالب، وأظن ذلك بسبب نمط الحياة الذي عاشه، حيث لم يستخدم الناقة، قط، في ترحاله، بل الحمار، كما في رحلته المشهورة، مع صديقه محمد عبد الواحد، إلى خشم القربة لرؤية امرأة قيل إنها كانت آية في الجمال. ولأن مشي الحمار أسرع جاءت أقرب إليه إيقاعات شعر الكردوسي.
ربما يحتار المهتمون بشعر البطانة في عدم شهرة هذا الشاعر الكبير الذي وقف على قبره صديقه الشاعر الكبير الآخر المرحوم أحمد عوض الكريم أبو سن، قائلاً: "الغنا اندفن هنا"، كناية عن تقديره العالي لشاعريَّته الفذة! ولعل سبب ذلك أن الكردوسي، عليه رحمة الله، لا ينحدر من قبيلة كبيرة ذات سُلطان، كشُعراء الشكرية السِّنَّابْ.
الجمعة
إلتقيته صدفة في منزل صديق بمدينة حلفا الجديدة. عرفني بنفسه قائلاً إنه من القبيلة (الفلانية العلانية)، وهي كما أعرفها أنا قبيلة سودانية أفريقية ذات تاريخ معروف، ولغة خاصة، وموروث ثقافي متميز. لكنه أضاف، وهو ينفخ أوداجه، ويوسع فتحتي أنفه، ويضغط على حروف كلماته:
ـ "نحن طبعاً من الأشراف"!
إستفسرته:
ـ "لا أعرف ما تعني بالأشراف"!
قال:
ـ "آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم"!
قلت مستغرباً:
ـ "أعرف الكثير عن قبيلتكم، ومع ذلك لا علم لي بأنكم من بني هاشم"!
قال، متصنعاً الهدوء، رغم أنه لم يفلح في إخفاء توتره:
ـ "أنت محق! ولكن نحن أهل البيت الحاكم، أي السلاطين، من الأشراف، وتوارثنا إدارة القبيلة من جدودنا الهاشميين الذين أقاموا معها ثم أصبحوا سلاطين عليها"!
تيقنت أن الحديث دخل بنا في منطقة الأوهام، فما عادت بي رغبة في مواصلته. على أنني جعلت أفكر، للمرة الألف، في ظاهرة انتحال النسب العربي التي اشتد أوارها في عصر سلطنة الفونج، وإن كانت قد بدأت، قبل ذلك، في ممالك إسلامية سودانية أقدم عمراً، مثل سلطنة الفور ومملكة وداي، ثم في سلطنه المساليت الحديثة نسبياً، وكذلك عند الكثير من البيوتات المالكة، وعموديات ومشيخات القبائل، كما عند قيادات كل الطرق الصوفية، وتكاد لا تستثنى إلا بعض القبائل بجنوب السودان! هذه الظاهرة هي ما أسميه (العَرَبوية السياسية)، ولا علاقة لها، في الحقيقة، بـ (العرب) كعرق أو حتى كتاريخ.
لكن المشكلة ليست هنا. فالمشكلة تبدأ عندما يعطي توهم الانتماء العربي المنتحل هذا، أي توهم الانتساب إلى بيت النبي الكريم أو أحد صحابته الأجلاء، الحق للمنتحِل في السلطة المطلقة، وضمان استمراريتها في الأجيال اللاحقة، ويمنح، بالتالي، الحق في الثروة السهلة، ويشبع الرغبة في التميز الشرير، بل والاستعلاء على شعب يسهل قياده بالدين، بل سرقته واستعباده. منطق ذلك أن الناس سواسية في الدين، أما في العرق فلا! وهو منطق آية في الاعوجاج!
ويفهم كثير من الفقهاء، خطأ، أن رأس القوم يجب أن يكون عربياً، قرشياً، هاشمياً. وعلى ذلك قيس الناس في ما يتصل بحق الزعامة القبلية والدينية. فمن ذا الذي لا يُريد أن يصبح رأساً للقوم، سلطانا قبلياً، أو زعيماً دينياً، طالما كان ذلك باباً واسعاً للثروة والسلطة والجاه؟!
(العَرَبوية السياسية) سلوك قد يصدر عن أي شخص، بغض النظر عن الإقليم الذي ينتمي إليه أو الدين الذي يدين به، بل بغض النظر عن عرقه أو إثنيته. وضحايا هذا السلوك ليسوا هم، بالضرورة، غير المنتحلين لهذا النسب وحدهم، بل ما أكثر ما يكون ضحاياه حتى المنتحلين له أنفسهم، مستعربين أو غيرهم! ونظرة فاحصة لبنية السلطات السياسية والدينية وأيديولوجياتها في السودان .. تكفي!
السبت
(الإتجار بالأطفال) ظاهرة متفشية في الخرطوم! وقبل أن ترفعوا حواجبكم دهشة مما أقول .. أمعنوا النظر حولكم جيداً!
هذه الظاهرة تتجلى، بصورها الأولية البسيطة، في الشوارع الكبيرة وعند التقاطعات العامة، حيث المرأة التي تتسول وعلى كتفها طفل حزين، مرهق، بادي السقام من لفح حر الشمس، وعدم الرضاعة المنتظمة، وبكائه لفقد أمه طوال اليوم. لكنها تتجلى أيضاً، بصور أخرى، في عمل (بعض)، وليس (كل) منظمات المجتمع المدني التي درجت على التسول، هي الأخرى، بالأطفال، فأثرى (أصحابها) من هذا الطريق، وأصبحوا أباطرة مال وعز وجاه، بينما ازداد هؤلاء الأطفال جوعاً ومرضاً وتشرداً!
ولشد ما يؤلمك أن تستجيب لدعوة تأتيك لحضور إحدى هذه (الاحتفاليات)، فتكتشف أن الأسماء تتعدد لكن المعنى واحد، وهو (الإتجار بالأطفال) واستغلالهم.
ذات مساء ألح علي صديقان أن نذهب لمركز ثقافي مشهور بالبذخ والبهرجة على الفاضي، لنشهد تخريج بعض هؤلاء الأطفال من ورشة عمل لا ندري فيم، ولِمَ، وعلامَ! كان المكان عبارة عن جنة صغيرة من الورود والأزاهير والأشجار الغريبة الغالية العطرة التى تزدهر طوال العام حول قصر منيف. وجدنا مالك المركز يطوف على الزوار مثل الطاؤوس، بزي غريب غال، كأنه مهراجا، يتبعه، أينما ذهب، عبق عطر من منتجات كرستيان ديور، وتتقافز خلفه ومن حوله حسناوات بهيات رقيقات ناعمات كفراشات الأحاجي الخواجاتية، من صنف سندريللا وانت طالع! ربما ألقي عليك التحية، مجبراً، لو تثاقلت وأصررت على التواجد في بؤرة انتباهه! لكن أحد الصديقين تجاوز كل حدود الثقالة وأصر على احتضانه (عديل كدا)، طمعاً، كما أسرَّ إلي لاحقاً، في أن يضمخ ملابسه المرهقة بشئ من ذلك العطر النفيس! وفكرت: إنها، بالفعل، فرصة لا تفوَّت، وقد نجح الصديق في اهتبالها كفاحاً!
وعندما جاء دور الأطفال المساكين، كان الأمر قد فاق حد البؤس! فالكلمة التى جُعلت الطفلة الخائفة المرتبكة تلقيها هي مما يصعب حتى على خريج جامعي نظمها! قلنا: ليس هذا على الله بكثير، إذ ربما تقدم هذا الجيل في كل شيء! كان كل الأطفال نظيفين، مهندمين، حافظين للأغاني، وللأناشيد، وللخطب العصماء! أما رسوماتهم التى تم عرضها فتتشابه الخالق الناظر، طريقة التلوين هي نفسها، الخطوط هي الخطوط، الأفكار ذاتها، وما من أحد من المدعوين يدري، أو حتى يحفل بأن يدري، وسط كرم الضيافة الفياض ذاك، كم من الدولارات تم صرفها لإنجاز تلك (الورشة)؟! وكم من (الورش) مثلها قد تم انجازها؟! وما هي الجهة التي تحملت التمويل؟! ومن أين جئ بهؤلاء الأطفال؟! وكيف تم تحديد أولوياتهم؟! وهل استشيروا؟! وما هو الهدف من وراء كل ذلك؟! بل ما الفائدة التي تعود على هؤلاء الأطفال من (ورشة) تقوم، أصلاً، على التلقين والتحفيظ؟!
ثم جاء دور الخطباء المتأنقين، تحدثوا عن القوانين، وعن النظم، وعن دور الدين، والأسرة، والمجتمع، والمنظمات، والأمم المتحدة، والمواثيق الدولية، ولم يكن الطفل هنالك، بل كانت تفوح من لغتهم، بالكامل، رائحة المال، وعبق الطعام، وعفن التخمة!
أحسست، حينها، بالغثيان، فجريت، عبر حديقة الورد، هارباً من ضيق التنطع الآثم إلى شارع الله العريض!
الأحد
حين تعانق عيونكم كلماتي هذه تكون قد هلت علينا، بإذن واحد أحد، الذكرى الرابعة والعشرون لانتفاضة الشعب المجيدة في السادس من أبريل عام 1985م، والتي أطاحت بعرش سيئ الذكر الطاغية جعفر نميري.
كنت وقتها طالباً أحبو على أعتاب سنتي الأولى بجامعة أسيوط. وكنا نتتبع أخبار الانتفاضة بشغف، وقلوبنا تخفق من عظمة الشعب، ومن خوفنا عليه من الفشل الذي حاق بكل تجاربه السابقة في إسقاط ذلك النظام القمئ، فينقلب عليه ذلك الوحش ينكل، كالعادة، برجاله ونسائه، كباراً وصغاراً، مثل غول بأرواح سبع! كنا نتحلق حول أجهزة الراديو ننتظر، والقلق يعصف بنا، نشرات الأخبار من إذاعة لندن، حيث لم تكن الفضائيات قد انتشرت بعد. ولأنه لم يكن ثمة تلفون في بيتنا، وربما في حينا كله، فلم تكن لدينا وسيلة أخرى للاطمئنان على أسرنا سوى بكتابة الخطابات التي ما كنا نأمل كثيراً في أنها سوف تصل في ظل تلك الفوضى الخلاقة التي كان من الطبيعي أن تضرب، خلال تلك الأيام، بأطنابها على البلاد، طولاً وعرضاً. لكنني، رغم ذلك، بعثت بخطاب إلي شقيقي عمر بركة الذي كان يعمل حينها بالنقل النهري. الطريف في الأمر أن الخطاب وصله في وقته لأن الثورة كانت قد نجحت، وبقي (الرئيس القائد، حادي الركب، الزعيم الملهم، الكشاف الأعظم .. الخ) خارج البلاد يعوي مهدداً (شعبه) بالعودة، إلى أن اضطره واقع الأمر للخضوع، في النهاية، لنصائح العقلاء بأن لكل أول آخِراً، وأن لكل أجل كتاباً، فرضي بقدره المسطور، وأقام معنا في مصر المحروسة يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ويقضي لياليه الطوال يعاقر ذكريات (أمجاده) السوداء، وسياساته الرعناء، وأطياف قتلاه وأسراه ومشرديه ومعذبيه في (أرض) السودان!
رد شقيقي عمر على خطابي بخطاب يهنئني فيه بالانتصار التاريخي، ويطمئنني على الأهل والأصدقاء والجيران. غير أنه، وفي السطر الأخير، كتب يقول: "بس ناس البيت في خشم القربة حرقوا كتبك الفي الشنطة لأنهم ما عارفين الحكومة الجاية شنو"!
لم أدر أأضحك أم أبكي! لكنني قلت لنفسي إن هؤلاء البسطاء، على كل حال، أكثر عقلاً وحصافة ودراية منا، في ما يبدو، بأسرار الأمور، وعواقبها، وخواتيمها!
لقد صودرت انتفاضة أبريل، بل خنقت يوم ميلادها، حين أجبرت على توفير الأغطية السميكة، والملاذات الآمنة، لكل المجرمين، ومكنتهم، باسم الشعب، من الإفلات من عقاب الشعب، في ذات اللحظة التي رفع فيها من اعتلوا مقاعد السلطة حينها، مثل سوار الدهب ومجلسه العسكري، ومن بعدهم الصادق المهدي وحكوماته المتعاقبة، شعار: عفا الله عما سلف!
بعد أربع سنوات من ذلك أرسل لي عمر بركة خطاباً آخر ختمه، للعجب، بنفس العبارات أعلاه!