2015/09/15

رواية الرجل الخراب كاملة

 

        الرَجُلُ الخَرَابْ

 

 

 

                              عبد العزيز بركة ساكن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إهداء: "لأُمي مريم بنت ابو جِبرين.

للأصدقاء أحمد زكي، كريستينا ازنجر، جان دوست، ورودي راينر، إلي أمل الخاتم، لمستنير والمهاتما، لجمال عباس ومي التجاني وسَلمى أبو سمرة، لرحاب سُليمان وحاتم جريس، لأُختيَّ محاسن وإحسان، لعمر بركة ومحمد بركة والفاتح بركة وذكي بركة ومحمد عوض  كاجوك وحسن عبيد، لاستاذي صالح فرح ومعتصم المقبول، لاستاذيَّ كمال الجزولي ومبارك الصادق. ولشخصٍ عليه فضل كبير فيما أكتب: الا وهو  الشيطان الذي كان يشاطرنا بيتنا الصغير في القضارف وإلى وقتٍ قريبٍ كان يَكُتب ليَّ الروايات ويقول لي ما لا يِنْقَالْ.

 

 

 

                     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

"أنت، أيها القارئ المرائي! ياشبيهي، يا أخي!"

T.S.Eliot  الأرض الخَرَابْ

 

                 
                             رواية الرجل الخراب _1
 

 

                                          مُخَرِي الكِلابْ  

نورا شولز، تبدو اليوم أكثر  سعادة من أى   وقت مضى في حياتها، فقد وجدت ابنتها ميمي أخيرا صديقاً (ein Freund)، ليس لأن ميمي ليست جميلة ولكنها كانت غير اجتماعية ودائما ما يغمرها إحساس بالوحدة، أو أنها  هي التي تجد نفسها في الوحدة، وكلما تقرب منها شاب ارتبكت وعملت على الابتعاد عنه بقدر الإمكان، وقد تُسْمِعَهُ بعض كلمات غير لائقات أيضا. كان هذا يمثل قلقا كبيرا للأسرة الصغيرة، خاصة أن ميمي تبلغ الآن من العمر الثامنة عشرة عاما بالتمام والكمال، ولا تزال هدايا ميلادها الثامن عشر تتناثر في حجرتها، لقد تعبت أمها كثيرا في أن تقبل ميمي صديقا، وأنفقت في ذلك مالا كثيراً، حيث إنها  عرضتها مرارا وتكرارا للباحثين الاجتماعيين بالمنطقة وأخذتها أكثر  من عشرين مرة لاختصاصي نفسي بفيينا، كانت تقوم نورا بنفسها بكل ذلك، ولم تجد العون من زوجها حُسني درويش الذي اسمه الآن هاينرش "Heinrich"، فقد كان يرى أنه  لا داعي للقلق بشأن البنت وأنها مازالت صغيرة، وعليها أن تنتبه لدراستها ويفضل أن تدخل في علاقة جيدة القصد منها الزواج، فهو لم يقل ذلك مباشرة لزوجته نورا ولكنه كان يفعل كلما يعزز رأيه، لأن ذلك ببساطة سيدعم فكرتها المسبقة عنه بعدم مقدرته على الاندماج في المجتمع الأوروبي، وأنه ليس برأسه الكبيرة سوى خرافات القرون الوسطى. وعندما أخبرته نورا هذا الصباح وهي في غاية السعادة أن ابنتنا الطيبة قد حصلت علي صديق وسيم في عمرها، في الحقيقة يكبرها بشهرين، قال لها محاولا أن يضع ابتسامة كبيرة مزيفة على وجهه الحليق بدقة، تخفي أحاسيسه الفعلية وتظهره كرجل متمدن يستحقها

-ياااااه...... أخيرا كم أنا سعيد بذلك.

احتضنته نورا وقبلته بحنو ثم جلست قربه على الكنبة الفسيحة وأخذت تحكي له عن توني.

ليس توني شابا وسيما جدا، أنه  عينة الأشخاص الذين لا يمكنك أن تطلق عليهم لقب القبح، ولكنه مقبول على كل حال، أما ما يميزه عن شباب هذه الأيام أنه  مؤدب ومحترم ولا يتعاطى أيا من المخدرات بل لا يحتسي الكحول، يحب الموسيقى جدا، وهو أيضا   يعزف على الجيتار ويغني أحيانا، درس إدارة الأعمال في جامعة سالزبورج Salzburg، من أسرة ثرية بعض الشيء ووالداه طبيبان معروفان في المدينة، إذا  كان به عيب واحد، وإذا اُعتبر ذلك عيبا أنه  يترك شعره دون حلاقة ويحتفظ ببعض أظافره طويلة، ولا يؤمن بأي من الرسل، ولكنه يؤمن بأن    هنالك خالقا للكون ولكن ليس هو الذي يرسل رسلا لكي يخبروا الناس عنه، في رأيه أن الرب قادر على توصيل ما يريده مباشرة لمخلوقاته، ورب في استطاعته أن يخلق كونا بهذه العظمة والتعقيد، لا تصعب عليه حيلة ابتكار عملية سهلة وجيدة في التعبير عما يريد أن تكون عليه مخلوقاته، بل باستطاعته برمجتها على مشيئة جلالته، بالتالي ما يكون عليه الكون الآن هو بالفعل إرادة الله. وتعرف أن زوجها قد يكون متحفظا بعض الشيء عندما يعرف ذلك في يوم ما، قالت له:

- توني أيضا   لا يكره العرب!

وهذه الجملة الأخيرة أخافته بالفعل،  فلنقل إنها أربكته، ولو أن زوجته كانت تظن أنها  من الإيجابيات، إلا أن درويش أو هاينرش Heinrich منذ أن قدم للنمسا في تسعينيات القرن الماضي قد قطع علاقته بكل ما هو مسلم وعربي، نعم أنه  في الآونة الأخيرة أخذ   يسافر كثيرا لزيارة أسرته بمصر والسودان ويسمي ذلك في إطار العلاقات الاجتماعية والإنسانية لا أكثر، قد لا يريد أن يورط نفسه في تحمل ما يقوم به المسلمون والعرب في شتى أنحاء العالم من خير وشر، ولكنه أيضا   كان يفضل أن يبدأ حياته من جديد، من دون تاريخ، تماما من دون أى   تاريخ، ولا يمكن أن نفسر تغيير اسمه إلى     هاينرش Heinrich واحدا من عمليات محو تاريخه الواعية جدا، فهو لم يفعل ذلك إلا لأنه إذا  أراد أن يحتفظ باسمه العربي عليه أن يدفع ما يعادل اليوم مبلغ 500 يورو عن كل اسم أى   ألف وخمسمائة يورو إذا  أراد أن يكون اسمه حُسني درويش جلال الدين، هذا إذا  أقنع دائرة الهجرة أن جلال الدين هو اسم واحد، وإلا عليه دفع ألفي يورو كاملة، وكان يحتاج للنقود في أشياء أخرى، ولا يرى أن هنالك داعيا ملحا لخسارة مبلغٍ كبيرٍ كهذا، لذا لم يحتفظ بأي من أسماء أسرته أو حتى اسمه فاختار أول اسم ورد لذهنه وهو هاينرش "Heinrich" ثم أضاف إليه كلمة شولز وهو اسم أسرة زوجته، "وأراح واستراح"، فما يفيد الاسم وما الفرق بين شولز ودرويش، وهو ليس عالما له نظريات مسجلة باسمه ولا كاتبا له مؤلفات مهمة ولا موسيقيا أو شاعرا، ولا حتى من أسرة مشهورة ذات تاريخ ما يريد أن يحمل اسمها، كما أن شهاداته الجامعية لا أحد يعترف بها هنا، وليس له أبناء سيرثونه خارج هذه البلاد، وهو أيضا   ليس له ما يرثه، إذا، ليس باسمه ما يهم. عندما يذهب لبلده في زيارة ما، فإنهم سينادونه باسمه الحقيقي القديم وحينها ستتحقق الفائدة إذا  كان لاسمه فائدة تذكر. هاينرش Heinrich يحب أن يبتعد عما يسميه منطقة الغليان وسيرة الغليان بل رائحته أيضا، فقد بدأ حياة جديدة منذ زمن ليس بالقصير، ولا يريد أن ينظر للوراء مرة أخرى، إلا بريبة وظنون، فكلمة عربي هنا مرادفة لكلمة مسلم، ويفهم كثيرٌ من الأوروبيين أن الكلمتين ترادفان ثلاث كلمات أخرى  وهي: الثراء الفاحش والفقر المدقع والتطرف الأعمى.

قال لها:

- أنا لا أهتم بموضوع الديانات كثيراً.

قالت له في إصرار، وهي تنظر في عينيه:

- بل تهتم، لقد رأيتك تصلي، مرتين على الأقل، مرة عندما كنا في الغابة قبل عشرين عاما على الأقل، ومرة قبل شهرين عندما كنا على شاطئ النهر الصغير في فايس باخ  Weissbach

قال لها، وهو يتجنب النظر إلى     ابتسامة نصر صغيرة تتشكل تدريجيا في فمها:

- نعم وربما سوف ترينني أفعل ذلك مرات أخرى، أحيانا أحس     بأنني مدين لله خاصة عندما أرى جمال الطبيعة، فإنني أراه هنالك، لذا ليست صلاتي سوى تحية شكر وعرفان، لا أكثر  فهي لا تخص دينا بعينه، ولا تعني شيئا لشخص غيري.

سألته سؤالا مفاجئا ما كان يتوقعه:

- هل أنت ما زلت مسلماً؟

قال لها مبتسما:

- نعم. 

نستطيع أن نقدر عمر هاينرش "Heinrich" الآن بحوالي الستين عاما، وهذا اعتمادا على طبيب الأسنان ووثائق مكتب العمل، فهو لم يمتلك شهادة ميلاد، كل ما يعرفه عن تاريخ ميلاده هو شهادة أمه    بأنه ولد قبل حرب فلسطين التي وقعت بين اليهود والعرب بسنة كاملة، وكانت تقصد حرب 1948، ولكنها أيضا   قد تقصد حروبا سابقة لحرب 48 أو لاحقة لهذا التاريخ، أو العدوان الثلاثي علي مصر في 56، فذاكرتها مشحونة بحروب كثيرة، بعضها لم يحدث بعد، وبعضها حدث بعد وفاتها بعشرين عاما، وبعضها مجرد حكايات سمعتها من جداتها، وكان هاينرش Heinrich يعلم ذلك، ولكنه قرر لنفسه بأنه ولد في 1-1-1947، ووافقه بدرجة كبيرة طبيب الأسنان وحرر له شهادة بذلك، قدمها للجامعة من قبل ثُمَّ لمكتب العمل واعتمدها كتاريخ ميلاد رسميا له، والآن ينعم بالمعاش في ظل هذه الشهادة الواقعية وغير الصحيحة بالمرة، لأن عمره الفعلي غير ذلك، فهاينرش Heinrich قد ولد بعد ذلك التاريخ بعدة سنوات، أى   بالدقة في 30-10-1956، بالطبع لم يعمل بشهادة تقدير العمر التي استخرجتها له أمه    عند دخوله المدرسة بالسودان وهي أنه  مواليد 1-1-1950وإذا كنا الآن في سنة 2013، في شهر مايو، فإن عمره هو 57 عاما، وهذا غير مهم لأن لا أحد غير الراوي، العليم بكل شيء يعرف تلك الحقيقة، وسوف لا يعول عليها  كثيراً، ما عدا ما سوف يلاحظه القراء في الصفحات القادمة من الرواية، أن هاينرش Heinrich يقوم بأنشطة وأفعال أصغر من عمره المعلن بكثير، بل أنه  يأخذ المعاش الرسمي من الحكومة ويعمل في ذات الوقت في شركة ألبان مراقبا للتعبئة 25 ساعة في الأسبوع مع الاحتفاظ بصحة جيدة يحسده عليها كل من هو في عمره المُعلن وعمره الحقيقي أيضا، فمنذ أن قَدِم إلى     النمسا في 3-1-1992، لم يذهب للطبيب سوي مرتين، المرة الأولي إجباريا حيث أخذه مكتب الهجرة للفحص الشامل، والمرة الأخرى ذهب لطبيب الأسنان للتخلص من ضرس العقل المسوس. أما الطبيب البشري فلم يتشرف بزيارته إلى     اليوم بإرادته،( لم نضمن مرات ذهابه للطبيب البيطري، فلقد كانت كثيرة جدا وفقا لمهنته كمخري للكلاب مع الأم شولز.) لم يركب المواصلات العامة إلا ما ندر، أى   إذا  أراد السفر إلى     مدينة بعيدة، ولكنه يستخدم دراجة هوائية في كل مشاويره البعيدة والقريبة داخل المدينة، كما أنه  بعد أن أنجب ابنته الوحيدة ميمي في 30 ديسمبر 1995، اشترى دراجة خاصة بها مقعدٌ مريحٌ لها، وكلما كبرت في السن غيّر الدراجة بحيث تستوعبها أيضا   ولأن زوجته نورا أيضا   تؤمن بأن    الدراجة هي خير وسيلة للترحيل، فلم يجد صعوبة كبيرة في أن يعتمد على الدراجة في كل شيء، وعندما دخلت المدرسة الابتدائية كان للبنت عجلتها وحدها، فلقد "وافق شن طبقة" كما في المثل العربي. ويُرَجَّحْ احتفاظه بجسد رياضي أنيق لبركات الدراجة الهوائية ولا يُنسى في هذا الشأن ذكر حُبه للعمل واستيقاظه المبكر ولكنه يرى أيضا   أن عدم إفراطه في شرب البيرة، هو الذي هيأ له جسدا يخلو من الكرش تقريبا إلى     هذا العمر الطويل المُعْلن، والحقيقي غير المُعْلن، الأقل نسبياً.